من الناس من يقول ..أن الجراح لا تبرأ.. ومنها ما تساوي مرارته مرارة الموت
فتسقط هنا مقولة ان الزمان كفيل بمداواة الجروح ، لأن لا شيء يُنسى ،
أن الجرح يبقى موجودا لأنه قد يتكرر خلال تجربة مشابهة أو حدث مماثل ، فيكون دوما نفاذه أعمق وألمه أكبر ،
وهناك من يقول .... أن الذكريات أسوأ من الحدث ذاته. ففي الذكريات اجترار. وتفكير وتجميع لبعض الصور الناقصة وتتمة لبعض الكلمات المتقاطعة ،
ان الذكريات تشبه الى حد بعيد عملية تظهير الصور بعد التقاطها في لحظة ،
تنتبه أحيانا الى بعض الأخطاء العميقة التي كانت غائبة عنك خلال التقاط الصورة ، وقد تُفاجئ بوجودها أحيانا ، أو تستغرب أنك لم تفكر فيها سابقا .....
إن الذكريات قد تعلن بعض الحقائق الحاضرة....ولكن معظم الحقائق تدعو لليأس، لأنها سترتبط بشكل موثق بأحداث مؤلمة قديمة وستكون أكثر ايلاما .
تحاول النسيان ولا أمل في النسيان ،
فليس أمامك من وسيلة الا اسدال ستارة اوهن من خيوط العنكبوت حتى لا ترى ما تشير اليه الحقائق السابقة ، أو تتظاهر بأنك لا تراه , ستارة رقيقة شفافة ضعيفة ، لا تخفي شيئا
ولكنها تمنع الرؤية الواضحة ، وما لا تراه واضحا ، فأنت لا تراه ،
وهنا هو المحور
قد نحاول ألا نرى ما نعلم بوجوده ومحتواه ، ونحمل اثقالا نعرفها ولكننا لا نراها..
وربما هو أحد الفروق بين الانسان والجمل ، رغم ان البعض يميل الى تشبيه ( حمّال الصعاب ) بالجمل .
فالجمل مثقلا بحمل ان رآه فهو لا يعرفه ولا يفهم محتواه.
أما الانسان فهو يبذل جهدا مضاعفا حتى لا يرى ما هو مرغم على حمله ، وما يعرف محتواه،
لأن أحمال النفس ، أشد ثقلا من أحمال البدن ، فلا بدّ للإنسان ان يخفف على نفسه ، حتى يستمر في السير
وليس له خيار الا السير واكمال رحلة الحياة الحتمية .
تغليف رديء لعملية الصراع الأزلي ما بين العقل والقلب.....
العقل يبني أحكاما مبنية على حقائق كاملة واضحة،
يأتي بعدها القلب والهوى ليفسد كل شيء،
ويسدل ستارة واهية على الحقائق السابقة ، حتى يشد العقل بعيدا عن وضع الاحكام الثابتة
ثم تبدأ رحلة المصالحة مع النفس وايجاد التوازن بين العقل والقلب ، والحكمة والهوى ...
ونحن نحتاج الى التسامح ..التسامح مع أنفسنا ،
بحكم أن الإنسان خلق ضعيفا وقد يخطئ ، نفس الخطأ أكثر من مرة ....
وان لم نتوصل الى التسامح والتوازن بين الأفكار المتناقضة ، والذي هو راحة للعقل والقلب
فلنبعد السموم جانبا ونكمل المسيرة، ولندفعها بعيدا عن منطقة التذكر المباشر, ونحبسها في الغرفة المظلمة من مستودع الذكريات, ونغلفها حتي وإن كان التغليف رديئا ولكنه علي الأقل سيعوق الرؤية المباشرة والواضحة، سيعوق الاجترار الملح ، سيعوق استدعاء الافكار الماضية ودمجها مع الحاضر .
إنه مسكن مؤقت للآلام ....حجب مؤقت للحقيقة
ولكنه يعطي مجالا للجهاز العصبي أن يجهز طريقة دفاعية لمقاومة الانهيار ، أمام بعض الحقائق الدامغة.
تتناسب مع الظروف النفسية الأخرى التي تخص كل فرد ،
ينبغي أن نعطي الفرصة لجهازنا العصبي ان يمارس عمله ويجس حلقات القوة الموجودة داخلنا حتى يستند اليها فترات الأزمة..
التغليف الرديء لبعض الحقائق ، هو من الحيل الدفاعية التي تحمي الجهاز العصبي من الصدمة والانهيار عند تعرضه لبعض الخبرات المريرة ،
فتكون الصدمة أخف وطأة عند وقوعها حقيقة ،
أو قد يتخذ الجهاز العصبي موقفا متبلدا حيال ما يحدث حقيقة ، لكي يحمي صاحبه من السقوط .
ومن الحيل الدفاعية الأخرى للجهاز العصبي ، ما هو العكس تماما ...
هو التعامل مع ما لم يحدث
مثلا ... تخشى فقدان عزيز،
تخشى من فقدان وظيفتك
تخشى من الفشل .
فبدلا من احتباس هذه الفكرة المقلقة المضنية ، اطلق لخيالك العنان لتخيل الأحداث وكأنها وقعت حقيقة .
بل وتخيل نفسك جالسا في مأتم من تخشى فقدانه ، تخيل أنك فقدت وظيفتك حقا .... تخيل أنك فشلت ثانية او عاشرة .......احزن كما تشاء ، اختبر كل المشاعر التي يمكن ان تشعر بها،
واعد التفكير بما يجب عليك فعله او تحمله بعد ذلك.
وبعد ممارسة هذه الرياضة الفكرية عدة مرات، ستجد ان الفكرة المقلقة تضاءل حجمها ولم تعد مصدر قلق.
ان حاجتنا الى التسامح أكبر من حاجتنا الى التعلم من خبرات سابقة ...
لأننا لا نكتشف عادة اننا وقعنا في نفس مصيدة الخطأ الا بعد ان تُحكِم علينا شباكها !
نحن لسنا بحاجة الى تذكر الآلام التي وقعنا بها ولسنا بحاجة الى أن نستحضر الجراح دوما..فننصبها كصنم نبكي عليه.
ولا نحن بحاجة إلى أن نعزي أنفسنا بأننا تعلمنا درسا ....حتى لا نعذب أنفسنا بالتوبيخ ان وقعنا مرة ثانية في نفس الحفرة.
التجارب المريرة لا تقدم لنا الهدايا..بل تعطينا الحزن والمزيد من الحزن والألم والندم.
وكل ما علينا تعلمه ..هو كيف نتعامل مع هذه المشاعر ... وكيف نخفف من أحمالنا ، وكيف نستمر ونواصل الطريق.
إننا بحاجة الى التسامح ، الى التناسي ... الى التغليف .
الحياة ليست بحاجة الى حقائق ثابتة نبتكرها نحن ،
الحياة بحاجة الى ان نتعايش معها ، ومع كل ما يحدث فيها .