بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعدُ :
فلمَّا كان الجنُّ يوافقون الإنسَ في التناكح والتناسل ، والمحبة والعشق والميل إلى بعضهم البعض .. قد يحدثُ نوعُ محبةٍ وعِشْقٍ من بعض الجنِّ للإنس .
إلاَّ أنه لا يصح من الجنيِّ ، أو الجنيَّة - شَرعاً - نكاحٌ ولا عشقٌ للإنسي ، أو الإنسية .
نعم ؛ حدوثُ ذلك عقلاً وواقعاً على الصحيح ممكنٌ ، والحاكم في ذلك : دليل الشرع ، والحسّ والواقع والمشاهدة ؟! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى(19/39) :
( وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد ، وهذا كثير معروف ، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه ، وكره أكثر العلماء مناكحة الجن ) .
واستُدِلَّ على إمكان الوقوعِ - عقلاً- بقوله تعالى :
وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ سورة الإسراء، الآية : 64 .
وهذا الاستدلال من أوجه تفسير هذه الآية .
نُقل ذلك عن مجاهد - رحمه الله - قال : ( إذا جامع الرجل أهله فلم يُسَمِّ انطوى الجان على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله تعالى : لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ سورة الرحمن ، الآية: 56 (انظر : تفسير ابن جرير 27/151)
قال الإمام القرطبي-رحمه الله -في تفسيره (17/181) مُبيِّناً وجه استدلال مجاهد : ( وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان : يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونُزِّهنَ ) .
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري (9/229) :
عند شرحه لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما- ولفظ الحديث :
( لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله ، فقال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ؛ فإنه إنْ يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضره شيطان أبداً ) متفق عليه .
قال الحافظ - رحمه الله - :
(وقيل : لم يضرُّه بمشاركة أبيه في جماعِ أمِّهِ كما جاء عن مجاهد: أنَّ الذي يجامع ولا يُسمِّي يلتفُّ الشيطان على إحليله فيجامع معه، ولعلَّ هذا أقرب الأجوبة ) .
ومن الأدلة على إمكان حدوث الجماع والنكاح بين الجن للإنس ، قوله تعالى :
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ
سورة الرحمن ، الآية:56 .
ووجه الاستدلال بهذه الآية :
أنَّ الله عزَّ وجلَّ نفى أن يكون قد واقع نساء الجنة قبل أزواجهن فيها أحدٌ من الإنس والجن في الدنيا ،مما يدل على إمكان حدوث جماع الجن لنساء الإنس ، أو جماع الإنس لنساء الجن .
قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله- في تفسيره (27/150):
( وإنما عنى في هذا الموضع - أي بالطَّمْثِ ( الطَّمْثُ: إزالة البكارة عند أول جماع) - أنه لم يجامعهن إنس قبلهم ولا جان ) .
ثم نَقَلَ -رحمه الله- جملةً من الآثار عن السلف -رحم الله الجميع-:
تدلُّ على حدوث الجماع بين الجن والإنس .
وفي تفسير الإمام البغوي - رحمه الله - (4/275) :
( قال الزجاج : فيه دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي ) .
وعند الإمام ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير(8/122) :
( في الآية دليلٌ على أن الجني يغشى المرأة كالإنسي ) .
وقال الألوسي - رحمه الله - في تفسيره (27/119) :
( ونفي طمثهن عن الأنس ظاهر ، وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعالى، فنفى هنا جميع المجامعين .
وقيل :لا حاجة إلى ذلك ، إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم ، ولا شك في إمكان جماع الجنيِّ إنسيةً بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى ) .
والفخر الرازي في تفسيره (29/130) يقول :
( ما الفائدة في ذكر الجان ، مع أنَّ الجانَّ لا يجامع ؟فنقول: ليس كذلك ، بل الجن لهم أولاد وذريات ، وإنما الخلاف في أنهم :
هل يواقعون الإنس أم لا ؟ والمشهور : أنهم يواقعون ،وإلا لما كان في الجِنَّةِ أحسابٌ ولا أنسابٌ ، فكان مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة إلى نفيها ) وانظر: تفسير القرطبي(17/181) وابن كثير(4/279) وغيرهما .
.
وكراهة كثيرٍ من العلماء مناكحة الجن - كما سيأتي ذِكْرُه بَعْدُ إن شاء الله تعالى - : دليلٌ على إمكانه ، لأنَّ غير الممكن لا يحكم عليه بجوازٍ ، ولا بعدمه في الشرع ؟! . انظر: آكام المرجان في أحكام الجان (ص66) .
وحاصل ما تقدم ذِكْرُهُ :
أنَّ نكاح الجن من الإنس : إنما صحته تكون في العقل والواقع ؛ فإذا كان يصح عقلاً ،فهل يصح شرعاً ، أو بمعنى آخر : هل يجوز في الشرع : زواجٌ بين الجن والإنس ؟ هذا ما سيأتي ذِكْرُهُ …
وأمَّا صحة التناكح بين الجن ولإنس :
فالمختارُ الذي تنصره الأدلة : أنَّه لا يجوز شرعاً ، ومن الأدلة على ذلك :
أولاً :
قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً سورة النحل،الآية:72 .
وقال سبحانه : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَـوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ سورة الروم،الآية:21.
وقال جلا وعلا : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا سورة الأعراف،الآية :189.
قال أئمة التفسير والعلم - رحم الله جمعَهم الكريم- في تضاعيف مؤلفاتهم المباركة :
( امتنَّ الله سبحانه وتعالى على بني آدم أعظمَ مِنَّةٍ : بأنْ جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً، وجعل الإناث أزواجاً للذكور، ولم يجعل الجنَّ أزواجاً للإنس للتباين في الجنس والطبع .
ويؤيد ذلك قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً سورة النحل،الآية:72 .
فسياق الآية جاء في معرض الامتنان ، وقد تقرر في علم الأصول:
أنَّ النكرة في سياق الامتنان تعمُّ ، فقوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً جمع مُنكَّرٌ في سياق الامتنان فهو يعمُّ ، وإذا عمَّ دلَّ ذلك : على حصرِ الأزواج لنا فيما هو من أنفسنا أي: من نوعنا وشكلنا .
والجنُّ ليسوا من أنفسنا،فلم يُجعل منهم أزاوج لنا،فلا يكونون لنا أزواجاً لفوات المقصود من حلِّ النكاح من بني آدم ، وهو:سكون أحد الزوجين إلى الآخر،لأنَّ الله تعالى أخبر أنه جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها .
فالمانعُ الشرعيُّ حينئذ من جواز النكاح بين الإنس والجن :
عَـدَمُ سكون أحـد الزوجين إلى الآخـــر .
إلا أنْ يكون عن عشقٍ ، وهوى متبعٍ من الإنس والجن ، فيكون إقدام الإنسي على نكاح الجِنيَّةِ للخوف على نفسه ، وكذلك العكس؛
إذ لو لم يقوموا على ذلك لآذوهم ، وربما أتلفوهم البتَّة .
ومع هذا فلا يزال الإنسي في قَلَقٍ ، وعدمِ طمأنينة ، وهذا يعود على مقصود النكاح بالنقص .
وأخبر الله تعالى أنه جعل بين الزوجين : مودة ورحمة ، وهذا منتف بين الإنس والجن ، لأنَّ العداوة بين الإنس والجن لا تزول بدليل قوله تعالى : وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ سورة البقرة ، الآية36.
وثبت عـن النـبي من حــديث أبي مــوسى الأشعري
-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله :
( فناء أمَّتي بالطعن والطاعون ،فقيل:يا رسول الله!هذا الطعن قد عرفناه،فما الطاعون؟قال:وَخْزُ أعدائكم من الجن-وفي رواية:طعن أعدائكم من الجن-،وفي كلٍّ شهادة ) .
وعن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه -رضي الله عنه-قال:ذُكِرَ الطاعون عند أبي موسى فقال:سألنا عنه رسول الله ؟فقال:
( وخزُ أعدائكم الجن،وهو لكم شهادة ) .
فإذا انتفى المقصود من النكاح وهو سكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وحصول المودة والرحمة بينهما : انتفى ما هو وسيلة إليه ، وهو : جواز النكاح ) .
ثانياً :
وممَّا يدلُّ على عدم الجواز : عدو حصول الإذن من الشرع ، فإنه لا يُعلم دليلٌ من الكتاب ولا من السنة الصحيحة جواز مناكحة الجن والإنس .
وقد قال تعالى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ سورة النساء، الآية:3.
والنساء : اسم للإناث من بنات آدم خاصة . والرجال إنما أُطلق على الجنِّ لأجل مقابلة اللفظ ،في قوله تعالى : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ سورة الجـن،الآية:6 .
وقال تعالى : إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ سورة المؤمنون،الآية:6 .
فأزواج بني آدم من الأزواج المخلوقات لهم من أنفسهم المأذون في نكاحهن ،وما عداهن فليسوا لنا بأزواج ، ولا مـأذون لنا في نكاحهنَّ .
ثالثـاً :
لو قال معترضٌ :قدمتَ قبلُ إمكانَ الوقوع ، أفلا يدل ذلك على حلِّ النكاح ؟! .
قلنا : لا؛ هذا غير لازم ، فإنَّ الشيء قد يكون ممكناً ويتخلف لمانع ؛فإنَّ المجوسيات ، والوثنيات نكاحهن ممكن ، وذلك لا يحل لنا ، وكذلك المحارم ،ومن يحرم من الرضاع .
وعلَّة النهي - كما قدمنا -: عدم حصول المقصود من النكاح الذي هو حصول المودة والرحمة والألفة ، وعدم إذن الشرع .
رابعـاً :
ما جاء عن السلف في كراهية ذلك والنهي عنه :
نُقل عن كثيرٍ من السلفِ النهي عن نكاح الجن ، ومنهم :
الحسن البصري ،وقتادة ،والحكم ، وإسحاق بن رهاوية ، وعقبة الأصم .. وغيرهم رحم الله الجميع .
والمنع منقول عن الحنابلة ، كما ذكر ذلك ابن مفلح في كتابه الفروع ،والسفاريني في لوامع الأنوار .
ومنقول عن الحنفية نقـله الشيخ جمـال الدين في كتابه :
(منية المفتي ).
وكذلك المنع منقول عن كثير من الشافعية ، نقل ذلك الأسنوي في جملة مسائله التي سأل بها الإمام البازري من أئمة الشافعية (1) .
ومن لطائف الأخبار المنقولة ما ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال(7/288) والدميري في حياة الحيوان الكبرى(1/302) عن الطحاوي قال : ( حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال :قدم علينا يَغْنَمُ بن سالم مصر فجئته فسمعته يقول : تزوجت امرأة من الجن،فلم أرجع إليه ) .
والله الموفق
وكتب/ أبوعبدالرحمن اليوسف .( من كتابنا : شرح النصائح الحسان لمن أصيب بمس الجان ) .
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
___________
1-انظر : آكام المرجان في أحكام الجان(66-74)ولقط المرجان،للسيوطي ،والأشباه والنظائر،لابن نجيم(327-328)والفتاوى الحديثية،للهيتمي(68-69)وتفسير القرطبي(13/213)والأشباه والنظائر ،للسيوطي(256-257)وحياة الحيوان الكبرى،للدميري(1/302) وأضواء البيان، للشنقيطي(3/293)والفروع لابن مفلح(1/604)ولوامع الأنوار،للسفاريني(2/225) وتفسير الآلوسي(19/189) والهواتف،لابن أبي الدنيا(32و107) وتهذيب السنن،لابن القيم(14/10) وعالم الجن،لعبد الكريم العبيدات(325-342) وقد أفرد بعض أهل العلم للمسألة رسائل خاصة ، منهم: الشيخ:حامدي العمادي ،فقد ألف رسالة سماها: ( تقعقع الشن في نكاح الجن) كما في سلك الدرر(2/12) .