قال الله تعالى : ** وكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَياطِينَ الإِنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا ولَوْ شاءَ رَبُّكَ ما
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وما يَفْتَرُونَ * ولِتَصْغَى إلَيْهِ
أفْئِدَةُ الّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ ولِيَرْضَوْهُ
ولِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ **
سورة الأنعام 112 - 113
_ قال العلاّمة عبد الرّحمٰن السّعدي رحمه الله
في تفسير كلام المنّان :
يقول تعالى - مُسَلِياً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم - وكما جعلنا لك أعداء يَرُدُونَ دَعْوتَكَ،
ويُحارِبونك، ويَحْسُدونك،
فهذه سُنَتُنا،
أن نَجعَلَ لكل نَبي نُرسِلَه إلى الخلق أعْداءً،
من شياطين الإنس والجن،
يقومون بِضِدِ ما جاءَتْ به الرسل .
** يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا ** أي : يُزَين بعضُهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل،
ويُزَخْرِفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة،
لِيَغْترَ به السُفَهاء، ويَنْقاد لهُ الأغبياء،
الذين لا يفهمون الحَقائق،
ولا يَفقَهون المعاني،
بل تُعجِبهُم الألفاظ المزَخْرفة،
والعبارات المُمَوَهَة،
فيعتقدون الحقَ باطلاً والباطل حقاً،
ولهذا قال تعالى: ** ولِتَصْغَى إِلَيْهِ **
أي : ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف
** أفْئدَةُ الّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ **
لأن عَدَمَ إيمانهم باليوم الآخر وعدم
عقولهم النافعة، يحملهم على ذلك ،
** ولِيَرْضَوْهُ ** بعد أن يُصْغوا إليه،
فَيصْغون إليه أولا، فإذا مالوا إليه
ورأوا تلك العبارات المستحسنة،
رَضُوهُ، وزُيّن في قلوبهم،
وصار عَقيدةً راسِخة،
وصِفةً لازِمةً،
ثم ينتج من ذلك، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مُقتَرِفون،
أي : يَأتون من الكذِب بالقول والفعل،
ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة،
فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن، المستجيبين لدعوتهم،
وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأُولُو العُقُول الوافية والألباب الرزينة،
فإنهم لا يَغترون بتلك العبارات،
ولا تُخْلِبُهم تلك التَمويهات،
بل هِمَتهُم مَصْروفَة إلى مَعْرفَة الحَقائق،
فينظرون إلى المعاني
التي يدعو إليها الدعاة،
فإن كانت حَقاً قَبِلوها،
وانْقادوا لها،
ولو كُسِيَتْ عِبارات رَدِيَة،
وألفاظا غير وافية،
وإن كانت باطِلاً رَدوها على مَنْ قالها،
كائِناً مَن كان،
ولو أُلْبِسَت من العبارات المُسْتَحْسَنة،
ما هو أرقُ مِن الحرير .
ومن حكمة الله تعالى،
في جَعْلِه للأنبياء أعَداءً،
وللباطل أنصاراً قائمين بالدعوة إليه،
أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان،
لِيَتَمَيّز الصادِقُ مِنَ الكاذب،
والعاقل من الجاهل،
والبَصيرُ من الأعْمَى .
ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق،
وتوضيحا له،
فإن الحق يَستَنير ويَتضِح
إذا قام الباطِلُ يصارعه ويقاومه .
فإنه - حينئذ - يَتَبَين مِن أدلة الحق،
وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته،
ومن فساد الباطل وبطلانه،
ما هو من أكبر المطالب،
التي يتنافس فيها المتنافسون .