قال العلامة عبد الرّحمٰن السّعدي رحمه الله في تفسير كلام المنّان :
أي : وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله
« أمة » أي : جماعة
« يدعون إلى الخير » وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه
« ويأمرون بالمعروف » وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه
« وينهون عن المنكر » وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه،
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه،
ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين،
والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة،
والمجاهدون في سبيل الله،
والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات
كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله :
« ولتكن منكم أمة » إلخ أي : لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة،
ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به،
كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام،
وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها،
وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه،
وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين،
ولهذا قال تعالى عنهم :
« وأولئك هم المفلحون » الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب، ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم،
فقال : « ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا »
ومن العجائب أن اختلافهم
« من بعد ما جاءهم البينات »
الموجبة لعدم التفرق والاختلاف، فهم أولى من غيرهم بالاعتصام بالدين، فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر الله، فاستحقوا العقاب البليغ،
وقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند،
فلم يوفَّقوا ،
حتى قال السيوطي في الجامع الصغير :
« ولعله خُرِّجَ في بعض كتب الحفاظ التي
لم تصل إلينا » ! .
وهذا بعيد عندي ،
إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض
أحاديثه صلى الله عليه وسلم،
وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده .
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال :
« ليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع » .
وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على
" تفسير البيضاوي " ( ق 92 / 2 ) .
ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء، فقال العلامة ابن حزم في
" الإحكام في أصول الأحكام " ( 5 / 64 )
بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث :
« وهذا من أفسد قول يكون،
لأنه لو كان الاختلاف رحمة ،
لكان الاتفاق سخطاً، وهذا ما لا يقوله مسلم،
لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف،
وليس إلا رحمة أوسخط » .
وقال في مكان آخر :
« باطل مكذوب » ، كما سيأتي في كلامه
المذكور عند الحديث ( 61 ) .
وإنَّ من آثار هذا الحديث السيئة أنّ كثيراً من المسلمين يُقرُّون بسببه الاختلاف الشديد الواقع بين المذاهب الأربعة،
ولا يحاولون أبداً الرجوع بها إلى الكتاب
والسنة الصحيحة،
كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم ؛
بل إن أولئك ليرون مذاهب هؤلاء الأئمة
رضي الله عنهم إنما هي كشرائع متعددة !
[ كما صرح المناوي في " فيض القدير "
( 1 / 209 ) !!! ]
يقولون هذا مع علمهم بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا برد بعضها المخالف للدليل،
وقبول البعض الآخر الموافق له،
وهذا ما لا يفعلون !
وبذلك فقد نسبوا إلى الشريعة التناقض !
وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عزَّ وجلَّ
لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن :
** ولَوْ كان مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فيهِ
اخْتِلَافًا كثيرًا ** سورة النساء 82
فالآية صريحة في أنَّ الاختلاف ليس من الله، فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة،
ورحمة منزلة ؟!
وبسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين
بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم مختلفين في كثير
من المسائل الاعتقادية والعملية،
ولو أنهم كانوا يرون أن الخلاف شر كما قال
ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم ،
ودلت على ذمه الآيات القرآنية ،
والأحاديث النبوية الكثيرة؛ لسعوا إلى الاتفاق، ولأمكنهم ذلك في أكثر هذه المسائل
بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يعرف بها الصواب من الخطأ، والحق من الباطل،
ثم عذر بعضهم بعضًا فيما قد يختلفون فيه،
ولكن لماذا هذا السعي وهم يرون أن الاختلاف رحمة، وأن المذاهب على اختلافها
كشرائع متعددة ؟!
وإن شئت أن ترى أثر هذا الاختلاف
والإصرار عليه،
فانظر إلى كثير من المساجد،
تجد فيها أربعة محاريب ،
يصلي فيها أربعة من الأئمة !
ولكل منهم جماعة ينتظرون الصلاة مع إمامهم كأنهم أصحاب أديان مختلفة !
وكيف لا وعالمهم يقول :
إن مذاهبهم كشرائع متعددة !
يفعلون ذلك ، وهم يعلمون قوله
صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )
_ رواه مسلم وغيره .
[ وهو مخرّج في " الإرواء " ( 497 ) ،
و " صحيح أبي داود " ( 115 ) ] .
ولكنهم يستجيزون مخالفة هذا الحديث وغيره محافظة منهم على المذهب ،
كأن المذهب معظّم عندهم ومحفوظ أكثر من أحاديثه عليه الصلاة والسلام !
وجملة القول :
أنّ الاختلاف مذموم في الشريعة،
فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن؛
لأنه من أسباب ضعف الأمة كما قال تعالى :
** ولَا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ **،
سورة الأنفال 46
أما الرضا به ، وتسميته رحمة؛
فخلاف الآيات الكريمة المصرحة بذمه،
ولا مستند له إلا هذا الحديث الذي لا أصل له
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا قد يرد سؤال وهو :
إن الصحابة قد اختلفوا
- وهم أفاضل الناس -
أفيلحقهم الذم المذكور ؟!
وقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله تعالى ؛
فقال ( 5 / 67 - 68 ) :
« كلا، ما يلحق أولئك شيء من هذا؛
لأن كل امرئ منهم تحرَّى سبيل الله،
ووجهته الحق؛
فالمخطئ منهم مأجور أجرًا واحدًا ،
لنيته الجميلة في إرادة الخير،
وقد رُفع عنهم الإثم في خطئهم؛
لأنهم لم يتعمدوه ، ولا قصدوه ،
ولا استهانوا بطلبهم،
والمصيب منهم مأجور أجرين،
وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة
فيما خَفِيَ عليه من الدين ولم يبلغه ؛
وإنما الذم المذكور والوعيد المنصوص،
لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى وهو القرآن،
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ
النص إليه ، وقيام الحجة به عليه،
وتعلق بفلان وفلان، مقلدًا عامدًا للاختلاف،
داعيًا إلى عصبية وحمية الجاهلية،
قاصدًا للفُرقة، متحريًا في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ به،
وإن خالفها تعلق بجاهليته،
وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم المختلفون المذمومون .
وطبقة أخرى ، وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم
في قول كل قائل،
فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم، مقلدين له غير طالبين ما أو جبه النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم » . اهـ .
ويشير في آخر كلامه إلى " التلفيق "
المعروف عند الفقهاء،
وهو أخذ قول العالم بدون دليل،
وإنما اتباعًا للهوى ، أو الرخص ،
وقد اختلفوا في جوازه،
والحق تحريمه لوجوه لا مجال الآن لبيانها، وتجويزه مستوحى من هذا الحديث ،
وعليه استند من قال :
« من قلد عالمًا لقي الله سالمًا » !
وكل هذا من آثار الأحاديث الضعيفة،
فكن في حذر منها إن كنت ترجو النجاة
** يوم لَا يَنْفَعُ مَالٌ ولَا بَنُونَ *
إلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ **
سورة الشعراء 88 - 89
_ سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
وأثرها السّيء في الأمَّةِ
( 1 / 141 - 144 ) .
قال تعالى : ** إنّ الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ **
سورة الأنعام 159
قال العلاّمة السعدي رحمه الله في تفسيره :
يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم،
أي : شتتوه وتفرقوا فيه،
وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا
من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية .
أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله،
أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأُمة .
ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية .
وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: ** لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ** أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك .
** إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله **
يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم