الزكاة.. وجوبها وأحكامها
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلِمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه أفضل مكتَسَب، وطاعتَه أعلى نسَب؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيُّها المسلمون:
الإسلام دينُ الملَّةِ المستقيمة والشَّريعةِ العادِلة، تتجلَّى في أحكامِه حِكَمُه وفي تشريعاتِه محاسِنُه، وفي تكاليفِه آثارُه ومقاصده وفضائلُه، وفي أركانه عظَمَته ورِفعته، ورُكن الزَّكاة هو ثالِث أركان الإسلام ومبانِيهِ العِظام، فريضةٌ واجِبة في آيٍ وأَخبار وإجماعِ علَماء المسلمين على مرِّ الأعصَار، حقٌّ معلوم وجُزء مَقسوم وسَهم محتوم، أوجَب الله على كلِّ من ملَك نصابًا إخراجَه إلى مَن لا مالَ له يَقيه ولا كِفاية عِنده تُسعِفه وتحميه؛ وِقايةً لمالِ المزَكّي من الآفات، وسَببًا للزيادة والتَّضعيف وحصولِ البركات.
في إيجابِها مواساةٌ للفقراء ومَعونة للبُؤَساء والضعفاء، وصِلة بين ذوِي الحاجاتِ والأغنياء، وعوْنٌ على مجانبة البخل والشّحِّ والإباء عن العطاء، كم سدَّت مِن خَلّة، وكَم جبرت من فاقَة! وكم فرَّجت عن معسِر كُرِب، ومِسكينٍ مدقِع وفقير مملِق! فضائلُها لا تعَدّ وبَركاتها لا تحَدّ، وكلُّ ما يبعَث على العطف والشّفَقة والرَّحمة والإحسان فأجدِر به حمدًا! وكلُّ ما صدَّ عن ذلك فأخلِق به ذمًّا! بُرهانٌ وعنوان على صِدق الإيمان، وفُرقان بين المنافقِ الجَموع المَنوع وبين المؤمِن الخاضِعِ للحقِّ الواجِبِ المشْروعِ.
يَجِب إخراجُها علَى الفَور بوضعِها في مواضِعها، وصرفِها في مصارِفها، وإيصالها إلى مستحقِّيها، مَن جحَد وجوبَها كفَر، ومن منعها أخِذَت منه قَهرًا، وقيل: يأخذ الإمامُ معها الشَّطر؛ فعن بهزِ بنِ حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن أعطاها مؤتجِرًا فله أجرُها، ومن مَنَعها فإنَّا آخذوها وشطرَ ماله، عزمةً من عزَمات ربِّنا عزَّ وجلّ، لا يحلُّ لآل محمَّدٍ منها شيء))؛ أخرجه أحمد وأبو داودَ والنسائيُّ وصحَّحه الحاكم.
ومَن حبسها تهاوُنًا وأمسَكَها تكاسُلاً، وكتمَها بخلاً وغيَّبها شحًّا، أو أنقَصَها أو أخَّرها عن وقت وجوبها مع إمكانِ أدائها وداعي إِخراجها - فهو عاصٍ وآثِم ومعتدٍ وظالمٌ، لا يسلَم مِن تبِعَتها ولا يخرج من عُهدتها إلاَّ بإخراجِ ما وجَب في ذمَّتِه منها، وتعلَّق بماله من حقِّها، ومَن مضَت عليه سنون لم يؤدِّ زكاتَها، لزِمَه إخراجُ الزَّكاة عن جميعِها، والتَّوبةُ والاستِغْفار عن تأخيرِها.
يا مَن جمعَ المال وأوْعَاه، ومنَع حقَّ الله فيه وأوْكاه، وكنَزَه وأخفاه، سَتَنال عِقاب ما بخِلت، وستُعايِن شؤمَ ما عمِلتَ؛ ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 35].
وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضَّة لا يؤدِّي منها حقَّها، إلا إذا كان يوم القيامة صفِّحَت له صفائِح من نار فأحمِي عليها في نار جهنَّم، فيُكوَى بها جَنبه وجبينُه وظهره، كلَّما رُدَّت أُعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضَى بين العباد فيرى سبيله إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار، ولا صاحبِ إبلٍ لا يؤدِّي منها حقَّها - ومِن حقِّها حلبُها يومَ وِردِها - إلاَّ إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاعٍ قَرقَرٍ أَوفرَ ما كانَت، لا يفقِد منها فصِيلاً واحدًا، تطؤُه بأخفافِها وتعضُّه بأفواهها، كلَّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنَة، حتى يقضَى بين العباد فيرى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار، ولا صاحب بَقَر ولا غنَم لا يؤدِّي منها حقَّها إلاَّ إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاع قَرقَر لا يفقِد منها شيئًا، ليس فيها عَقصاء ولا جَلحاءُ ولا عَضباء، تنطَحُه بقرونِها وتطؤُه بأظلافِها، كلَّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يقضَى بين العباد فيرى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار))؛ أخرجه مسلم. يا لها من عقوبةٍ مغلَّظة ترجُف منها القلوبُ المؤمِنة!
يا مانِع الزَّكاة، أنسِيتَ أن الأموالَ عارِية عند أربابِها وودِيعة عند أصحابها؟! أنَسيتَ أنّ الزّكاة يعود نفعُها عليك ويرجِع ثوابها إليك؟! فحذارِ حذار أن تكونَ ممّن يراها نقصًا ويعدّها غُرمًا وخسارًا، فلا ينفِق إلاّ كرهًا، ولا يرجو لما يُعطي ثوابًا.
يا عَبد الله:
زكِّ مالَك بإخلاصٍ واحتساب، زكِّ مالَك بانشراحٍ وطِيب نفسٍ رجاءَ الثّواب؛ فعن عبدالله بنِ معاوية - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ من فعلَهنَّ فقد طعِم طعمَ الإيمان: مَن عَبَدَ الله وحدَه وأنّه لا إلهَ إلاَّ الله، وأعطى زكاةَ مالِه طيِّبةً بها نفسُه رافِدَةً عليه كلَّ عام، ولا يعطي الهرِمة ولا الدَّرِنة ولا المريضة ولا الشّرط اللَّئيمة، ولكن من وسَط أموالِكم، فإنَّ الله لم يسأَلكم خيرَه ولم يأمُركم بشرِّه))؛ أخرجه أبو داود.
يا أهلَ المال والرِّياش، والكسب والمعاش، ارحَموا السَّائلَ المحروم، وأَعطوا الفقيرَ المعْدوم، وتصدَّقوا على المسكين المهْموم الَّذي لا يجِد ما يقوم به وكِفايَته وكفاية من يَمون.
يا أهلَ البَذل والسَّخاء والإنفاق والعَطاء، أبشِروا بِحسنِ الجزاءِ والخَلَف والبركة والنَّماء، فقد قال الصَّادق المصْدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما نقَصَت صدقةٌ من مال))؛ أخرجه مسلم.
أيُّها المسلم:
إنَّ الله - جلَّ وعلا - أوجب الزَّكاة في أصناف من المال، أوْجبها أوَّلاً في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار؛ ﴿ وَءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]، ﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾ [البقرة: 267]، وجعل شرط ذلك أن تبلغ الحبوب والثمار خمسة أوسُق، ما يعادل تسعمائة كيلو، وأوْجب فيها العشر؛ أي: عشرها، عشر الخارج من الحبوب والثِّمار، إن سُقِيَت بلا مؤونة ولا كلْفة، وجعل نِصْفَ عشْرِها إن سقيْتها بالكلفة والمؤونة، ولم يوجب في الخضروات والفواكه الزَّكاة لأنَّها غير مدَّخرة، وإنَّما هي قوت وقْتها، بخلاف الحبوب والثمار المكيلة المدَّخرة، فإنَّها تبقى على مدار العام.
أيُّها المسلم:
وأوْجَبها الله في بهيمة الأنعام من الإبل والبقَر والغنم، إذا كانت سائمةً ترْعى معظم الحوْل من نبات الأرض، فلا يقرِّب لها العلف ولا الماء، فكلُّ شيء موجود عندها، فإذا كانت كذلك وجبتْ فيها الزَّكاة، وأقلُّ نصاب الإبل خمس، ونصاب الغنَم أربعون، ونصاب البقر ثلاثون.
أمَّا بهيمة الأنعام التي يقرَّب لها العلف والماء معْظم الحول، فلا زكاة فيها، إلاَّ أن يكون مالِكُها قد أعدَّها للبيْع والشِّراء، يعني عروض تِجارة، فهذه يقوِّمها عند كل عام، ويُخرج زكاتَها ربع عشر قيمتها.
وأمَّا المواشي في المزارِع التي لا يقصد التِّجارة بها، وليستْ سائمة، ولكن أربابها ينفقون عليْها، ويأكلون منها، ويشربون من ألبانِها، ولا قصد لهم في التجارة بها، وليست سائمة - فهذه لا زكاة عليْها.
وتَجب الزَّكاة في عروض التِّجارة إذا بلغتْ قيمتُها نصابًا بنفسِها أو بضمِّها إلى ما عنده مِن الدَّراهم أو العروض، وهي كلّ مال أعدَّه مالكه للبيْع تكسُّبًا وانتظارًا للربح، من عقار وأثاث ومواشٍ وسيَّارات، ومكائن وأطعِمة وأقمشة وغيرها؛ يقول سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: "أمرنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نُخرج الزَّكاة مما نُعدّ للبَيْع"، فتجِب عليه الزَّكاة فيها وهي ربع عشر قيمتها عند تمام الحول، (بقيمة الجملة لا المفرق)، فإذا تمَّ الحوْل وجب عليه أن يثمِّن ما عنده من العروض ويُخرج ربع عشر قيمتِها سواء كانت القيمة مثل الثَّمن أو أقلَّ أو أكثرَ، فإذا اشترى سلْعة بألف ريال مثلاً، وكانت عند الحوْل تُساوي ألفَين، وجب عليه زكاة ألفين، وإن كانت لا تساوي إلاَّ خمسمائة لم يجب عليْه إلاَّ زكاة خمسمائة.
ورابعًا: النقْدان من الذَّهب والفضة أوْجب الله فيهما الزكاة، فهي قيم الأموال؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 35].
فيزكَّى النقدان: الذَّهب والفضَّة، فإنَّ الزَّكاة واجبة فيهما على أيّ حال كانا، سواء كانت جنيهات أو ريالات، أم قطعًا من الذهب والفضة، أم حليًّا من الذَّهب والفضَّة للبس أو للبيع أو للتأْجير، فالذَّهَب والفضَّة جاءت نصوص الكتاب والسنَّة خاصَّة في إيجاب الزَّكاة في الحلي؛ فعن عبدالله بن عمرو - رضِي الله عنهُما -: أنَّ امرأة أتتِ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعها ابنةٌ لها وفي يد ابنتِها مسكتان غليظتان من ذهَب، فقال: ((أتُعطين زكاة هذا؟)) قالت: لا، قال: ((أيسرُّك أن يسروك الله بهما يوم القيامة سواريْن من نار؟)) فخلعتْهما فألقتْهما إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقالت: هما لله ورسوله؛ قال في "بلوغ المرام": رواه الثلاثة وإسناده قوي.
لكن لا تجب الزَّكاة في الذَّهَب والفضَّة حتى يبلغا نصابًا، فنصاب الذَّهَب عشرون مثقالاً، ويقدَّر بالجنيه السُّعودي، بما يقارب أحدَ عشر جنيهًا وثلاثة أسباع الجنيه؛ أي: خَمسة وثمانون جرامًا، فما دون ذلك لا زكاة فيه إلاَّ أن يكون للتِّجارة.
ونصاب الفضَّة مائتا درهم إسلامي، مقْداره بالنَّقْد السعودي ستة وخمسون ريالاً عربيًّا، ويعادل خمسمائة وخمسة وتسعين جرامًا أو ما تبلغ قيمته من الأوراق النقديَّة، فما دون ذلك لا زكاة فيه، أمَّا مقدار الزَّكاة في الذَّهب والفضة فهو ربع العشر.
وتجب الزكاة أيضًا في الأوراق النقدية إذا بلغت ما يساوي ستَّة وخمسين ريالاً سعوديًّا من الفضَّة، وفيها ربع العشر.
أيُّها المسلم، والأسهم في الشَّركات المختلفة هي على قسمين:
فهناك أسهم متبادلة، يطلب المسلم فيها الرِّبح، يعرضها وقت الطَّلَب، ويُخفيها عند عدم الطَّلب؛ أي: يكون مضاربًا، فهذه تُزكَّى عند كلِّ رأس سنة، تزكَّى بقيمتها الحاضرة؛ لأنَّها بمنزلة النقود بيدك، فتقوم محفظة الأسهم بعد مضيّ السنة وتخرج ربع العشر، سواء زادت أم نقصت.
وأمَّا الأسهم التي جعلتها رصيدًا، لا تبيع ولا تشتري فيها، وإنَّما تستفيد من أرباحِها بأن كنت مستثمرًا، فالزَّكاة تجب في الرِّبح فقط إذا قبضته ومضى عليه الحوْل، وإن استهلكْتَها فلا زكاة فيها، هذا إذا كانت الشَّركة تخرج زكاتها، أمَّا إذا كانت لا تخرج زكاتها، فعليْك إخراج زكاة هذه الأرباح فوْر استلامها.
أمَّا السندات فهي ديون مؤجَّلة.
والصَّحيح من كلام أهل العلم وجوب تزْكية الدُّيون إذا كانت على موسرين، فإذا حال الحوْل على الديون - ومنها السَّندات - زكَّاها كغيرِها من الأموال الموجودة عنده، وإن أخَّر زكاتها حتَّى قبضها زكَّاها إذا قبضها لما مضى من السنوات.
أمَّا الدور والعقارات المؤْجرة، فالزَّكاة تجب في الأجرة من حين ابتداء العقْد، فإذا استلمت الأجرة في آخر العام فزكِّها، وإن كنت تستلِمها كلَّ ستَّة أشهر، وتستهلكُها ولا تدَّخرها بألاّ يبقى من الأجرة شيءٌ عند نهاية السَّنة الإجارية، فلا زكاة فيها.
ومسكنك الذي تسكنه، وسيَّارتك التي تركبها، وأثاث البيت وأجهزته الكهربائيَّة أو الإلكترونية، والثياب الملبوسة أو مكينة المزرعة ونحوها، كل هذا لا زكاةَ فيها؛ لأنَّ النَّبيَّ يقول: ((ليس على المسلم في عبدِه ولا فرسه صدقة))، إلاَّ صدقة الفطر على الرَّقيق.
وتجب الزَّكاة في الديون التي للإنسان، وهي الأطلاب الَّتي له على النَّاس إذا كانت من الذَّهب أو الفضة أو الأوراق النقديَّة، وبلغت نصابًا بنفسها أو بضمِّها إلى ما عنده من جنسِها، سواء كانت حالَّة أو مؤجلة، فيزكِّيها كلَّ سنة إن كانت على غنيٍّ موسر باذل، لكن إن شاء أدَّى زكاتَها قبل قبضها مع مالِه، وإن شاء انتظر حتَّى يقبضها فيزكِّيها لكلّ ما مضى.
أمَّا إن كانت الدّيون على فقيرٍ أو معْسرٍ أو مُماطلٍ متهرِّب، فلا زكاةَ على مَن هي له حتَّى يقْبضها، فيزكِّيها سنة واحدة عمَّا مضى؛ لأنَّها قبل قبضها في حكم المعْدوم.
ولا زكاة في مال حتَّى يحول عليه الحول، فلو تلف المال قبل تمام الحوْل أو نقص النِّصاب فلا زكاة فيه، ولو مات المالك قبل تمام الحول فلا زكاة عليه، ولا على الورثة، فلو ورِث الشَّخص مالاً، فلا زكاةَ فيه حتَّى يَحول عليه الحول عنده.
ويستثنى من ذلك ربح التِّجارة؛ ففيه الزَّكاة إذا تمَّ حول رأس المال، وإن لم يتمَّ الحول على الربح.
ويستثنى من ذلك عروض التِّجارة؛ فإنَّ حوْلَها حول عوضها إذا كان نقْدًا أو عروضًا، فإذا كان عند الإنسان دراهم يتمُّ حولها في رمضان، فاشترى بها في شعبان مثلاً شيئًا للتكسُّب والتجارة - فإنَّه يزكِّيه في رمضان، وإن كان لم يَمض عليْه إلاَّ شهر واحد، ولا يَجوز أن يؤجل زكاته إلى شعْبان من السنة الثَّانية، ويستثنى من ذلك الأجرة فإنَّ زكاتها تَجب وقت قبضها إذا كان قد مضى على عقد الإجارة حول.
وإذا حال الحوْل، وجب إخراج الزَّكاة فورًا بدون تأخير، أمَّا ما يقع فيه بعض النَّاس من تأخير الزَّكاة عن وقت وجوبها - وهو تمام الحول - فهذا لا يَجوز؛ أي: تأخير الأداء عن وقت الوجوب، فبعضهم يكون تمام الحوْل عنده في المحرَّم أو صفر، أو غير ذلك من الشهور المتقدِّمة عن رمضان، فيؤخر الزَّكاة إلى رمضان التَّالي، فهذا الفعل لا يجوز، ويجب التنبه له، أمَّا تقديم الزكاة، فلا بأس به.
وإذا كان الشخص يملك المال شيئًا فشيئًا كالرَّواتب الشهرية، فلا زكاة على شيءٍ منْه حتَّى يحول عليه الحوْل، وإذا كان يشقّ عليه ملاحظة ذلك، فليزكِّ الجميع في شهر واحد من السَّنة كلَّ عام، فما تمَّ حوله فقد زكِّي في وقته، وما لم يتمَّ حوله فقد عجلت زكاته، ولا يضر تعجيل الزَّكاة، وهذا أربح وأسلم من الاضطراب.
وإذا كان له عقار يؤجره، أو سيَّارة يكدها في الأجرة، أو معدَّات يؤجرها - فلا زكاةَ عليه فيها، وإنَّما الزكاة فيما يحصل منها من الأجرة.
أيّها المسلمون، وهنا مسألتان، كثيرًا ما يقع السؤال عنهما:
المسألة الأولى: أنَّ بعض الفقراء، يكون أخرق، والأخرق هو الذي لا يُحسن التصرُّف في ماله، فلو أعطي مالاً أفسده، فقد يقول المزكِّي: هل يجوز أن أشتري له بالزَّكاة ما يحتاج إليه وأعطيها إياه، فالجواب: أن ذلك لا يجوز، ولكن لك أن تقول له: اشتر حاجتك من السوق، فإذا اشترى، جاز لك أن تدفع عنه من الزَّكاة، أو يوكلك في قبضها والتصرُّف فيها.
المسألة الثانية: أنَّ بعض النَّاس - هداهم الله - ممَّن يخرجون زكاة أموالِهم، لا يتحرَّون عمن يدفعون إليْهم الزَّكاة، وكأنها مسألة تخلُّص، يريد أن يخرجها ويتخلَّص منها، ويتصوَّر أنَّه بفعله هذا تبرأ ذمته، أبداً، لا بدَّ من التحرّي فيمن تعطيه: هل هو مستحق أو لا؟
ويدخل في هذا أنَّ بعض النَّاس كان له عادة، أو العادة لوالدِه منذ القديم أنَّه كان يعْطي الزَّكاة لفقيرٍ مُحتاج، وسار على هذه العادة عشرين سنة، ثمَّ إنَّ هذا الفقير أغناه الله، ومازالت العادة مستمرَّة، بل يتصوَّر أنَّ هذا من البرّ بأبيه الذي كان يعطي هذا، فهو يعطيه بعد أبيه، وهذا خطأ ظاهر أيُّها الإخوة، فإنَّ هذا الذي استغنى الآن، لا يَجوز دفْع الزَّكاة له ولا تبرأ الذمَّة بدفعِها إليه، ثمَّ إنَّ هذا الذي يقبلها ويأخذها حرامٌ عليْه، لا يجوز له أن يقبلها.
أقول قوْلي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثَّانية
أيُّها المسلمون:
إنَّ الزكاة فريضة كما ذكر الله في كتابه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60]، ما وكل الله الزَّكاة لنبي ولا ملك، ولكن تولَّى قسمتَها بنفسه.
فالزَّكاة لا تنفع ولا تبرأ منها الذمَّة حتَّى توضع في الموضِع الَّذي وضعها الله فيه في الأصناف الثَّمانية، مثل ذوي الحاجة من الفقراء والمساكين، والغارمين الَّذين عليهم ديون لا يستطيعون وفاءها.
فلا تحلّ الزَّكاة لغني ولا لقويّ مكتسِب، وإذا أعطيْتَها شخصًا يغلب على ظنِّك أنَّه مستحقّ فتبيَّن فيما بعد أنَّه غير مستحق، أجزأتْ عنك والإثم عليه؛ حيث أخذ ما لا يستحقّ.
ويَجوز أن تدفعَها إلى أقاربِك الَّذين لا تنفق عليهم إذا كانوا مستحقّين لها، ويَجوز أن تدفعها لشخصٍ مُحتاج للزَّواج إذا لم يكن عنده ما يتزوَّج به.
ولا يقْضى بالزكاة دَينٌ على ميت، ولا يسقط بها دينٌ على معسر، ولا تصرف عن واجبٍ سواها.
ولا يجوز للشَّخص أنْ يَقِيَ بها مَالَهُ، أو يدفع بها عنه مذمَّةَ الآخرين، ولا يَجوز أن يصرِفَها في شراء مصاحف أو أثاثٍ للمساجد، أو في عمارتِها أو لإصلاح طرُق، أو غيرها من المشاريع الخيريَّة العامَّة أو الخاصَّة، أو للمساهمة في أعمال تطلبها جهات رسميَّة أو غير رسمية، يظْهر للنَّاس منها بأنَّها تبرُّع ولكنَّها مدفوعة من صاحب المال بِنِيَّةِ الزَّكاة.
ولا يَجوز دفعُها للدِّعايات والإعلانات التِّجارية وغيرها، وجوائز المسابقات في رمضان أو غيره، في الإذاعة أو التلفاز أو الصَّحافة أو غيرها، فلا يَجوز التَّحايُل والإقدام على هذه الطرُق الملتوية التي ظاهرها الإحسان والإنفاق، والإقْدام على فعل الخير بالبذْل والعطاء من مال الشَّخص، ولكنَّها في الحقيقة والنيَّة المُبَيَّتَةِ هي فريضة الزَّكاة التي أوْجبها الله عليه، فلا تبرأ ذمَّة مَن يفعل ذلك، وسوف يُحاسب على فعله كما يحاسب على فريضة الصَّلاة، أداءً أو ضياعًا أو إهمالاً أو تكاسُلاً يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
ولا يجوز للمسلم أن يُحابي ويجامل فيها أحدًا ممَّن لا يستحقُّها، ولا بُدَّ فيها من الإخلاص لله ربِّ العالمين، فلا يكون فيها رياء ولا سمعة، ولا منَّة ولا أذى، وترفُّع على الفقراء والمساكين، بل هي حَقٌّ لهم في ذلك المال، يَجب على المسلم أن يدفعَها لهم بدون منٍّ ولا أذى، خالصة لله من كلِّ شائبة تشوبُها؛ لئلاَّ يَحبط عمل المسلِم بذلك.
أيُّها المسلمون:
لو أنَّ الزَّكاة تؤدَّى في مجتمعات المسلمين على وجهِها بدون ممانعة من البعض؛ بل من الكثير، وتدفع لمستحقِّيها - لأصبح الفقراء أغْنياء بإذن الله، ولكنَّ التَّفريط حاصلٌ ومشاهد في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة، وزكاة أموال المسلمين بالملْيارات وليست بالملايين، ولا زال الفقراء والمحتاجون في زيادة وحاجتهم لم تُسدَّ، فيا تُرى، ما السبب؟ إنَّ السَّبب وراء ذلك هو عدَم دفع الزكاة لمستحقِّيها أوَّلاً، فتذهب هنا وهناك، فذلِك يحابي فيها ويُجامل، وفلان لا يؤدِّيها أو يتحايل على أدائِها ولم يعلم حكم الله فيها.
أيُّها المسلمون المؤمنون:
إنَّ هؤلاء الذين بَخلوا على الله - عزَّ وجلَّ - ولم يؤدُّوا هذا المقدار اليسير الذي أوجبه الله عليهم في أموالهم، ألم يقْرؤوا الوعيد بالنيران في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وسنَّة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمن بخل بما آتاه الله؛ فعن أبي هُرَيْرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسولُ الهدَى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من آتَاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرَع له زبيبتان، يُطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه - يعني: بشِدقَيه - ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزك))، ثم تلا: ﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 180]))؛ أخرجه البخاري.