أحكام الوكالة والسمسرة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا، أمَّا بَعْدُ:
فإن الوكالة في البيع والشراء لها أحكام شرعية ينبغي على طلاب العِلْم الكِرام معرفتها، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الوكالة
معنى الوكالة:
الْوَكَالَةُ: هي إقامةُ الشخصِ غيرَه مقامَ نفسِه مُطلقًا أو مُقيَّدًا في تصرُّفٍ جائزٍ معلومٍ، فيما يجوز الإنابة فيه، ليفعله في حياته؛ (الفقه الإسلامي للزحيلي، جـ 4، صـ 150).
الْوَكَالَةُ مشروعةٌ بدليل القرآن والسُّنَّة وإجماع علماء المسلمين؛ (المغني لابن قدامة، جـ 7، صـ 196).
أولًا: القرآن: قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ [الكهف: 19]، وَهَذِهِ وَكَالَةٌ.
ثانيًا: السُّنَّة: روى الترمذيُّ عَنْ عُرْوَةَ البَارِقِيِّ رضي اللهُ عنه، قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا لِأَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً، فَاشْتَرَيْتُ لَهُ شَاتَيْنِ، فَبِعْتُ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ لَهُ: ((بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني، حديث: 1010).
ثالثًا: الإجماع: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا؛ (المغني لابن قدامة، جـ 7، صـ 196).
أركان الوكالة:
الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، فَالْإِيجَابُ مِنْ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ: "وَكَّلْتُكَ بِكَذَا"، أَوْ "افْعَلْ كَذَا"، أَوْ "أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا" وَنَحْوُهُ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ: "قَبِلْتُ" وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، ولا يشترط في القَبول كونه لفظًا أو قولًا؛ وإنما يصحُّ أن يكون بالفعل، فإذا عَلِمَ الوكيل بالتوكيل، فباشرَ التصرُّف الموكل فيه، اعتبر ذلك قبولًا، ولا يُشترط في الوكالة اتحاد مجلس الإيجاب والقَبول؛ وإنما يكفي العلم بالوكالة ومباشرة التصرُّف؛ (بدائع الصنائع للكاساني، جـ 5، صـ 20).
شروط الوكالة:
يُشترطُ لصحة الوكالة شروط في الموكِّلِ وفي الوكيل وفي المحل الموكَّل فيه.
الموكِّلُ:
يُشترطُ في الموكِّلِ أن يكون مالكًا للتصرُّف الذي يُوَكلُ فيه؛ أي: أهلًا لممارسته؛ لأن من لم يملك التصرُّف، لا يملك تمليكه لغيره.
الوكيل:
يُشترطُ في الوكيل أن يكون بالغًا، عاقلًا، ومميزًا.
المحل الموكل فيه: يُشترطُ في الشيء الموكَّل فيه أن يكون معلومًا للوكيل، وأن يكون التصرُّف فيه مباحًا شرعًا، وأن يكون مما يقبل النيابة؛ كالبيع والشراء والإجارة والتبرُّع، ورد الودائع، وقضاء الديون، ونحوها؛ (بدائع الصنائع للكاساني، جـ 5، صـ 20: صـ 23).
أنواع الوكالة:
الوكالة أنواع منها ما يلي:
(1) الوكالة الخاصة.
(2) الوكالة العامة.
(3) الوكالة المقيدة.
(4) الوكالة المطلقة.
الوكالة الخاصة:
هي الإنابة في تصرُّف معين؛ كبيع أرض أو سيارة معينة، أو إجارة عقار محدد.
الوكالة العامة:
هي الإنابة العامة في كل تصرُّف؛ مثل: أنتَ وكيلي في كل التصرُّفات، أو في كل شيء، أو اشترِ لي ما شئت، وما رأيتَ؛ (بدائع الصنائع للكاساني، جـ 5، صـ 23).
الوكالة المقيدة:
هي التي يُقيدُ فيها تصرُّف الوكيل بشروط معينة؛ مثل: وكلتك في بيع هذه الأرض بثمن نقد قدره كذا، أو مؤجل إلى مدة كذا، أو على أقساط معينة.
والوكالة المطلقة:
هي التي لا يُقيد فيها الوكيل بشيء؛ مثل: وكلتك في بيع هذه الأرض، من غير تحديد ثمن معين، أو كيفية معينة لدفع الثمن؛ (الفقه الإسلامي للزحيلي، جـ4، صـ 155: صـ 156).
هل يجوز للوكيل توكيل غيره؟
لا يجوز للوكيل أن يُوكِّلَ غيره في القيام بعمل ما دون أن يحصل على إذن من الموكِّل ما دام الوكيل قادرًا على ما وكل فيه؛ (المغني لابن قدامة بتحقيق التركي، جـ 7، صـ 207: صـ 208).
فائدة مهمة:
لا يجوز للوكيل أن يكسب شيئًا من الشيء الذي تمَّ توكيله فيه بدون عِلْم ورِضا موكِّله.
انتهاء الوكالة:
تنتهي الوكالةُ بأحدِ الأمور التالية:
(1) انتهاءُ الغرض من الوكالة.
(2) قيامُ الموَكِّلِ بالعمل الذي وكَّل فيه غيره.
(3) خروجُ الموَكِّلِ أو الوكيل عن الأهلية؛ بموت أو جنون، أو رِدَّة عن الإسلام.
(4) استقالةُ الوكيل ورفضه الاستمرار في العمل الذي وُكِّلَ فيه.
(5) هلاكُ العين بالتصرُّف فيها، بيعًا أو شراءً أو إيجارًا؛ مثل: انهيار المنزل الموَكَّل في شرائه.
(6) عَزلُ الموَكِّلِ وكيله، واستغناؤه عن خدماته؛ (بدائع الصنائع للكاساني، جـ 5، صـ 37: صـ 39).
السمسرة
تعريف السمسار:
السِّمْسَارُ: هو الشخصُ الذي يتوسَّطُ بين البائع والمشتري لتسهيل عقد البيع.
حُكْم السمسرة:
السمسرة جائزةٌ بشرط الالتزام بالصدق والأمانة، وأن تكون أجرة السِّمْسَارِ معلومة.
قال البخاريُّ (رحمه الله): لَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا.
وقال ابنُ عباس (رضي اللهُ عنهما): لا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ لَكَ.
وقال ابنُ سيرين (رحمه الله): إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ لَكَ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلا بَأْسَ بِهِ؛ (البخاري مع الفتح، جـ4، كتاب الإجارة، باب السمسرة، صـ 527).
روى أبو داودَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 3063).
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن يجعله ذُخْرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكِرَامِ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.