بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا ونثني عليه الخير كله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم ومحصِّليه؛ الذين صحّت نياتهم فيه، وصح فيه قصدهم، وأخذوا فيه بالطريق التي سلكها أئمة أهل العلم، وهذا الطريق هو الذي يصل من سلكه إلى مبتغاه، ويحقق العلم فيه من اقتفى سَنن أهل العلم في طلبهم وسمتهم وهديهم وسلوكهم
مباحث النبوة والرسالة كثيرة متنوعة، وهذه بعض المسائل المتعلقة بها، وقد لا تجد ذلك مجموعا في موضع واحد، ولاشك أنّ هذا البحث خاصة دلائل النبوة بحث مهم، واعتنى به أئمة السنة والسلف، وصنّف فيه عدد من العلماء في دلائل النبوة وفي آيات وبراهين النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
الدرس الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
( وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى.
وَإِنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الْأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى.
وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم النافع وممن يتعلّم لوجه الله، كما أسأله سبحانه أن يقرّ العلم في قلوبنا، وأن يعيذنا من مضلاّت الفتن ومن الأهواء ما ظهر منها وما بطن.
أما بعد:
فقول المصنف رحمه الله (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى. وَإِنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الْأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى. وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ.) هذه الجملة من كلامه من التوحيد، وذلك أنه قال في أول الكلام؛ يعني في أول هذه العقيدة (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.) ثم مضى في ذلك وأتى إلى مقام الرّسالة والكلام على النبوة فقال (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى)، فهي معطوفة على قوله (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ)، و(إِنَّ) هنا مكسورة لأنها معمول القول، ومن المعلوم في النحو أنّ (إِنَّ) تُكسر إذا كانت تقدّر مع ما بعدها بجملة؛ يعني أنّ (إِنَّ) مع ما دخلت عليه تقدّر بجملة لذلك تُكسر إذا كانت بعد كلام يقدّر ما بعده بجملة، ومعلوم أنّ القول له مقول، ومقول القول جمل وليس بمفردات، وهذا بخلاف فتح الهمزة في (أَنَّ) فإن القاعدة فيها أنها تُفتح إذا كانت في تقدير المفرد أو المصدر، كما هو مقرر في النحو كما هو معلوم لكم جميعا.
المقصود أن قوله (وَإِنَّ مُحَمَّدًا) هذا بكسر همزةِ (إِنَّ)؛ لأنها مقول القول في أول الرسالة وهو قوله (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ).
وبحث الرسالة والنبوة هو من توحيد الله جل وعلا:
* ووجه ذلك أنّ توحيد الله جل وعلا يُطلق ويعنى به العقيدة بعامة، فكل العقيدة بأركان الإيمان تدخل في توحيد الله، فتوحيد الله جل وعلا هو الإيمان، وهو المشتمل على أركان الإيمان الستة، والكلام على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام من ضمن ذلك.
* والوجه الثاني أنّ نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام هي طريق التوحيد؛ لأنّ توحيد الله جل وعلا لم يُعلم إلا عن طريق الرسل، وفي ذلك تقريرُ أنّ العقول لا تستقل في معرفة توحيد الله جل وعلا وما يتضمنه ذلك وما يستلزمه ذلك؛ بل إنّه لابدّ من بعثة رسلٍ وأنبياء للبيان ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وبعثة الرسل بها عُلم حق الله جل وعلا وتوحيده؛ توحيد الإلهية، وبها عُلم نعت الله جل وعلا وأسماؤه وصفاته الكاملة الجليلة.
فإذن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وبعثة الرسل جميعا هي طريق توحيد الله جل وعلا، ولهذا قال هنا (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.) واستمرّ ومرّ حتى قال (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) يعني (وَنَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى.). وهذه الجملة من كلامه رحمه الله تعالى فيها تقرير عقيدة عظيمة، وهي أنّ محمدا عليه الصلاة والسلام جُمعت له أوصاف ونعوت ومراتب:
* فمنها أنه عبد.
* ومنها أنه نبي.
* ومنها أنه رسول.
* ومنها أنه خاتَم الأنبياء والمرسلين.
* ومنها أنه حبيب رب العالمين وخليله.
* ومنها أنّ بَعثته عامة للجن والإنس، وكافة الورى.
وسيأتي بيان هذه الجمل والصفات في شرح كل جملة بما تقتضيه.
نخصّ الآن من هذه الجمل المتعلّقة بالنبوة قولَه (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى.) فذكر ثلاث مقامات لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وقوله (إِنَّ مُحَمَّدًا) بدون أوصاف زائدة كسيدنا محمد ونحو ذلك فيه إتّباع لما جاء في الأحاديث الكثيرة من ذكر التعبد باسم النبي عليه الصلاة والسلام مجردا عن وصف السيادة وغير ذلك، وهذا هو المسنون والمشروع كما في دعاء المصلي في التحيات إذا جلس للتشهد وأشباه ذلك، وكما في قول المؤذن، وكما في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة وفي غيرها، فالسنة التي جاءت بها الأحاديث الكثيرة وعمل السّلف أنّ مقام المصطفي عليه الصلاة والسلام أرفع ما يوصف به أنْ يوصف بمقام العبودية والنبوة والرّسالة، وذلك لأن الله جل وعلا وصف نبيه بذلك في أعلى المقامات في أجلها، فقال سبحانه ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا?[الإسراء:1]، فوصفه في هذا المقام العظيم وهو مقام الإسراء وما تبعه من المعراج إلى رب العالمين بأنه أسرى بعبده، وقال سبحانه في وصف نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وتذللـه ?وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا?[الجن:19]، فقال سبحانه في المعراج وقُرْبِ محمد عليه الصلاة والسلام من رب العالمين قال ?فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى?[النجم:10]، وهذا الوصف -وصف العبودية الخاصة- هو أعلى المقامات التي يوصف بها الإنسان، فإذا زاد عليه وصف النبوة ووصف الرسالة كان ذلك أعلى الكمال، ولهذا يَعْظُم العبد بتحقيق كمال العبودية لله جل وعلا، وتحقيق كمال العبودية إنما هو في الأنبياء والمرسلين.
فإذن وصف محمد عليه الصلاة والسلام بأنه (عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) هذا فيه رفعٌ له وإكرام للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنّ الله جل وعلا هو الذي رضي له هذا الوصف وهذا النعت وهذا المقام.
وهذا هو الذي ينبغي على من يكتب ويصنف أو يخطب أو يحاضر أن يتّبع السنة في الألفاظ، فنقول: إن محمدا عبده المصطفى. دون زيادة لسيدنا وأشباه ذلك وإن كان هو عليه الصلاة والسلام هو سيد المرسلين كما ذكر، هنا وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.
قال (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) والاصطفاء هو الاختيار، ومحمد عليه الصلاة والسلام اُصطفي للرسالة، وهذا اللفظ مأخوذ من قوله تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ?[الحج:75]، فكلّ مرسل مصطفى لأنّ الله اصطفاه يعني اختاره وقربه لمقام الرسالة ولمقام العبودية الخاصة.
قال (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى) والاجتباء هو الاختصاص، اجتباه ?وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ?[الأنعام:87]، هذا معناه الاختصاص؛ يعني جعله نبيا فاجتباه، جعله حبيبا له وخليلا ومختارا ومختصا بالمقامات العالية.
والوصف الثالث قال (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) وهذا مأخوذ من قوله تعالى ?إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ?[الجن:27-28].
هذا البيان لمعاني تلك الكلمات نُتبعه بأنّ هذا الكلام، هذه الجمل من المصنف فيها تقريرٌ لعقيدة عامة، وهي أنّ محمد بن عبد الله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عبدٌ ونبي ورسول، وأنّه خاتَم الأنبياء، وأنّ كل دعوة للنبوة بعده فغيٌّ وهوى، وهذا من جملة ما يدخل في أركان الإيمان.
فلا يصح إيمان عبد حتى يعتقد بأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام عبدٌ نبيٌ رسول، وأنه خاتَم الأنبياء وخاتَم المرسلين، وأنه لا تصح دعوة للنبوة بعده، وكل دعوة للنبوة بعده فكذب وضلال وغيٌّ وهوى، إلى آخر ما سيأتي في بيان تلك الجمل.
وهذه الجملة فيها تقرير لـ: أنّ النبوة مختلفة عن الرسالة، وأن النبوة تسبق الرسالة كما قال (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ [المُرْتَضَى](33)) وهذا هو المعروف عندكم فيما هو مقرر من أن محمد عليه الصلاة والسلام نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر، فالنبوة مرتبة دون مرتبة الرسالة -كما سيأتي-، وجعْل العطف متغايرا أولى من جعله –يعني متغايرا في الذات- أولى من جعله متغايرا لفظيا؛ يعني أن المصنف الطحاوي يرى أن النبوة غير الرسالة وأن النبي غير الرسول، وهذا هو الحق كما سيأتي بيانه.
هذه الجملة فيها تقرير ما ذكرت من العقيدة العامة المعروفة، ويدخل تحتها مسائل:
المسألة الأولى: تعريف النبي والرسول.
والنبي والرسول لفظان موجودان في لغة العرب، فتعريفهما في اللغة يؤخذ من موارده في اللغة.
وهو أن النّبي: مأخوذ من النَّبْوَة وهي الارتفاع وذلك لأنَّه بالإيحاء إليه وبالإخبار إليه أصبح مرتفعا على غيره.
والرّسول: هو من حُمِّل رسالةً فبُعث بها.
ولهذا نقول: إنَّ كلمة (نبي) جاءت في القرآن في القراءات على وجهين؛ يعني على قراءتين متواترتين:
الأولى (النبي) بالياء.
والثانية (النبيء) ?يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ?.
والفرق ما بين (النبي) و(النبيء) أنّ النبيء هو من نبئ وكلا الأمرين حاصل في النبي عليه الصلاة والسلام وفي كل نبي، فهو مرتفع ولأجل ذلك فهو نبي، وهو منبأ ولأجل ذلك فهو نبيء.
لهذا نقول: إن كلمة (نبي) صارت من الرفعة لأجل (نبيء) لأجل أنه نبيء؛ يعني أنه نبئ فصار في نَبْوَة وارتفاع عن غيره من الناس.
أما في الاصطلاح -التعريف الاصطلاحي للنبي والرسول- فهذا مما اختلف فيه أهل العلم كثيرا، والمذاهب فيه متنوعة:
* فمنها قول من قال إنه لا فرق بين الرسول والنبي، فكل نبي رسول وكل رسول نبي.
* والقول الثاني أن النبي والرسول بينهما فرق، وهو أن النبي أدنى مرتبة من الرسول؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.
* والمذهب الثالث أن النبي أرفع من الرسول، وهو قول غلاة الصوفية وأن الرسول دون النبي.
المذهب الأول: قال به طائفة قليلة من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين، ومنهم من يُنسب إلى السنة.
والقول الثاني: وأنه ثمة فرق بين النبي والرسول وأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، هذا قول جمهور أهل العلم وعامة أهل السنة، وذلك لأدلة كثيرة استدلوا بها على هذا الأصل مبسوطة في مواضعها، ونختصر لكم بعضها:
الأول منها قوله جل وعلا في سورة الحج ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ?[الحج:52].
قال سبحانه هنا ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ? ووجه الاستدلال أن الإرسال وهو فعل ?أَرْسَلْنَا? وقع على الرسول وعلى النبي، فإذن الرسول مرسل والنبي مرسل؛ لأنّ هذا وقع على الجميع.
وجه الاستدلال الثاني أنه عطف بالواو فقال ?مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ?، والعطف بالواو يقتضي المغايرة؛ مغايرة الذات أو مغايرة الصفات، وهنا المقصود منه أن الصفة التي صار بها رسولا غير النعت الذي صار به نبيا، وهو المقصود مع تحقّق أن الجميع وقع عليهم الإرسال.
والوجه الثالث من الاستدلال أنه عطف ذلك بـ?لَا? أيضا في قوله ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ?، ومجيء ?لَا? هنا في تأكيد النفي الأوّل؛ في أول الآية وهو قوله ?وَمَا أَرْسَلْنَا?، فهي في تقدير تكرير الجملة منفية من أولها، كأنه قال: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا أرسلنا من قبلك من نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته.
هذا هو الدليل الأول.
والدليل الثاني أنّ النبوة ثبتت لآدم عليه السلام فآدم كما صح في الحديث «نبي مكلّم» وأن هناك أنبياء جاؤوا بعد آدم عليه السلام كإدريس وشيث وكغيرهما، وإدريس ذكره الله جل وعلا في القرآن، والرسل أولهم نوح عليه السلام، وجعل الله جل وعلا أولي العزم من الرسل خمسة، وجعل أولهم نوحا عليه السلام، فهذا يدل على أنّ آدم عليه السلام لم يحصل له وصف الرسالة، بل جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام «آدم نبي مكلم»، ووُصف نوح بأنه رسول، ووُصف إدريس بأنه نبي، فدلّ هذا على التفريق بين المقامين.
الدليل الثالث الذي أورده أصحاب هذا القول ما جاء في حديث أبي ذر من التفريق ما بين عدد الأنبياء وعدد المرسلين، فجُعل عدد الأنبياء أكثر من مائة ألف -مائة وأربعة وعشرين ألف أو نحو ذلك-، وجُعل عدد الرسل أكثر من ثلاثة مائة بقليل -بضعة عشرة وثلاثمائة رسول-، والله جل وعلا قص علينا خبر بعض الرسل وحجب عنا قَصص البعض الآخر فقال جل وعلا ?وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ?[النساء:164]، وهذا الحديث -حديث أبي ذر- حسّنه بعض أهل العلم وإن كان إسناده عند التحقيق فيه ضعف؛ لكن فيه جمل صحيحة وهو حديث طويلة رواه ابن حبان غيره.
وثَم أدلة أخرى في هذا المقام، قد لا تكون دالة بوضوح على المراد.
إذا تبين لكَ ذلك، وأنَّ الصحيح هو قول الجمهور وهو أن ثمة فرقا بين النبي والرسول، فما تعريف النبي وما تعريف الرسول في الاصطلاح؟
قلنا إن النبي يقع عليه الإرسال؛ ولكن لا يسمى رسولا عند الإطلاق.
والرسول يقع عليه الإرسال وهو الذي يسمى رسولا عند الإطلاق.
والله جل وعلا جعل ملائكة مرسلين، وإذا قلنا الرسول فلا ينصرف بالإطلاق على المبلِّغ للوحي جبريل عليه السلام، والله جل وعلا أرسل الريح وأرسل المطر وأرسل أشياء من العذاب، ولا يقع عند الإطلاق أنْ يقال هذه مرسلة أو هذه رسالة الله أو هذه الأشياء رسول من إطلاق المفرد وإرادة الجمع به.
ولهذا نقول: قد يقال عن هذه الأشياء كما جاء في القرآن، قد يقال عنها إنها مرسلة ?وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا?[المرسلات:1]، ولكن إذا أُطلق لفظ الرسول فلا ينصرف إلى من أرسل من الملائكة وإنما ينصرف إلى من أرسل من البشر.
وهذا يدل على أن الفرق قائم ما بين النبي وما بين الرسول، وأنّ النبي إرساله خاص وأن الرسول إرساله مطلق.
فلهذا نقول: دلّت آية سورة الحج ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ? على أنّ كلا من النّبيّ والرسول يقع عليه إرسال.
فما الفرق بينهما من جهة التعريف؟
الجواب: أن العلماء اختلفوا على أقوال كثيرة في تعريف هذا وهذا، ولكن الاختصار في ذلك مطلوب:
وهو أن تعريف النبي: –وهي مسألة اجتهادية- تعريف النبي هو: من أَوْحَى الله إليه بشرعٍ لنفسه أو أَمَرَه بالتبليغ إلى قوم موافقين؛ يعني موافقين له في التوحيد.
والرسول: هو من أَوْحى الله إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه إلى قوم مخالفين.
وتلحظ أن هذا التعريف للنبي وللرسول أَنه لا مدخل لإيتاء الكتاب في وصف النبوة والرسالة، فقد يُعطى النبي كتابا وقد يعطى الرسول كتابا، وقد يكون الرسول ليس له كتاب وإنما له صحف ?صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى?[الأعلى:19]، وقد يكون له كتاب.
فإذن من جعل الفيصل أو الفرق بين النبي والرسول هو إيتاء الكتاب -وحي- جاءه بكتاب منزل من عند الله جل وعلا، فهذا ليس بجيد، بل يقال كما ذكرت لك في التعريف أن المدار على:
أولا الإيحاء النبي موحى إليه والرسول موحى إليه.
والثاني أنه يوحى إليه بشرع أو بفصل في قضية -شرع يشمل أشياء كثيرة- وكذلك الرسول يوحى إليه بشرع.
النبي يوحى إليه لإبلاغه إلى قوم موافقين أو ليكون في خاصة نفسه يعمل به في خاصة نفسه كما جاء في الحديث «ويأتي النبي وليس معه أحد»، والرسول يُبعث إلى قوم مخالفين له.
ولهذا جاء في الحديث أن العلماء ورثة الأنبياء ولم يجعلهم ورثة الرسل، وإنما قال «وإن العلماء ورثة الأنبياء»، وذلك لأنّ العالم في قومه يقوم مقام النبي في إيضاح الشريعة التي معه، فيكون إذن في إيضاح شريعته، في إيضاح الشريعة يكون ثَم شَبَه ما بين العالم والنبي، ولكن النبي يُوحى إليه فتكون أحكامه صوابا؛ لأنها من عند الله جل وعلا، والعالم يوضح الشريعة ويعرض لحكمه الغلط.
يتعلق بهذه المسألة بحث أنَّ الرسول قد يكون متابعا لشريعة من قبله، كما أنّ النبي يكون متابعا لشريعة من قبله.
فإذن الفرق ما بين النبي والرسول في إتباع الشريعة -شريعة من قبل- أنّ النبي يكون متابعا لشريعة من قبله، والرسول قد يكون متابعا -كيوسف عليه السلام جاء قومه بما بعث الله به إبراهيم عليه السلام ويعقوب-، وقد يكون يُبعث بشريعة جديدة.
وهذا الكلام؛ هذه الاحترازات لأجل أن ثمة طائفة من أهل العلم جعلت كل محترز من هذه الأشياء فرقا ما بين النبي والرسول.
فإذن كما ذكرت لكم الكتاب قد يُعطاه النبي وقد يعطاه الرسول.
بَعْثه لقوم موافقين أو مخالفين هذا مدار فرق ما بين النبي والرسول.
الرسول قد يبعث بشريعة ما قبله بالتوحيد بالديانة التي جاء بها الرسول لمن قبله، لكن يرسل إلى قوم مخالفين، وإذا كانوا مخالفين فلا بد أن يكون منهم من يصدقه ويكون من يكذبه؛ لأنه ما من رسول إلا وقد كُذِّب، كما جاء في ذلك الآيات الكثيرة.
المسألة الثانية: نبوة الأنبياء، هل هي واجبة أو ممكنة؟ الصواب أن نبوة الأنبياء وإرسال الرسل مما جعله الله جل وعلا على نفسه، كما قال سبحانه ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وقد اختلف الناس في ذلك:
* فقالت طائفة إرسال الرسل جائز.
* وقالت طائفة إرسال الرسل واجب على الله جل وعلا.
* وقالت طائفة إرسال الرسل ونبوة الأنبياء لا يقال فيها جائزة ولا واجبة؛ بل هي تبع للمصلحة.
* وكما ذكرنا أنّ قول أهل السنة في ذلك: أن إرسال الرسل جعله الله جل وعلا حجة على الناس كما في الآية، ولا يُطلق القول بوجوبها ولا بإمكانها أو جوازها أو رد ذلك، بل يُتَّبع في ذلك النص الوارد لأنّ أفعال الله جل وعلا والإيجاب عليه والتحريم إنما يكون من عنده جل وعلا.
المسألة الثالثة: نبوة الأنبياء أو رسالة الرسل بما تَحْصُل؟ وكيف يعرف صدقهم؟ وما الفرق ما بين النبي والرسول وبين عامة الناس أو من يدعي أنه نبي أو رسول أو من يأتي بالأخبار المغيبة أو يجري على يديه شيء من الخوارق؟
والجواب عن ذلك: أنّ المتكلمين في العقائد نظروا في هذا على جهات من النظر، ونقدم قول غير أهل السنة، ونبين لكم قول السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة، وهي من المسائل التي يقل تقريرها في كتب الاعتقاد مفصّلة.
فنقول: إنّ طريقة إثبات نبوة الأنبياء وإرسال الرسل للناس فيه مذاهب:
المذهب الأول: أن الرسل والأنبياء لديهم استعدادات نفسية راجعة إلى القوى الثلاث والصفات الثلاث وهي السمع والبصر والقلب، فإنه يكون عنده قوة في سمعه، فيسمع الكلام؛ كلام الملأ الأعلى، وعنده قوة في قلبه، فيكون عنده تخيلات أو يتصور ما هو غير مرئي، وعنده بصر أيضا قوي يبصر ما لا يبصره غيره، وهذه طريقة باطلة، وهي طريقة الفلاسفة الذين يجعلون النبوة من جهة الاستعدادات البشرية، لا من جهة أنها وحي وإكرام واصطفاء من الله جل جلاله.
والثاني: قول من يقول إنّ النبوة والرسالة طريق إثباتها والدليل عليها هو المعجزات وهذا قول المعتزلة والأشاعرة وطوائف من المتكلمين، وتبعهم ابن حزم وجماعة، وجعلوا الفرق ما بين النبي وغيره هو أن النبي يجري على يديه خوارق العادات، فمنهم من التزم -وهم المعتزلة وابن حزم- وهو أن ما دام الفرق هو خوارق العادات وهي المعجزات فإذن لا يثبت خارق لغير نبي، فأنكروا السحر والكهانة، وأنكروا كرامات الأولياء، وأنكروا ما يجري من الخوارق؛ لأجل أن لا يلتبس هذا بهذا، وجعلوا ذلك مجرد تخييل في كل أحواله. وأما الأشاعرة فجعلوا المسألة مختلفة، وسيأتي تفصيلها في موضعها إن شاء الله عند كرامات الأولياء .
المذهب الثالث: هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح فيما قرره أئمتهم وهو أن النبوة والرسالة دليلها وبرهانها متنوع، ولا يُحصر القول بأنها من جهة المعجزات الحسّية التي تُرى أو تجري على يدي النبي والولي.
فمن الأدلة والبراهين لإثبات النبوة والرسالة:
* أولا الآيات والبراهين.
* والثاني ما يجري من أحوال النبي في خبره وأمره ونهيه وقوله وفعله مما يكون دالاًّ على صدقه بالقطع.
* الثالث أن الله جل وعلا ينصر أنبياءه وأولياءه ويمكِّن لهم ويخذل مدّعي النبوة ويُبيد أولئك ولا يجعل لهم انتشارا كبيرا.
وهذه ثلاثة أصول.
أما الأول: فمعناه أن من قرّر نبوة الأنبياء عن طريق المعجزات، فإننا نوافقهم على ذلك؛ لكن أهل السنة لا يجعلونه دليلا واحدا، لا يجعلونه دليلا فَرْدا؛ بل يجعلونه من ضمن الدلائل على النبوة، وهذا الدليل وهو دليل المعجزات -كما يسمى- يعبِّر عنه أهل السنة بقولهم الآيات والبراهين، وذلك لأنّ لفظ (المعجز) لم يرد في الكتاب ولا في السنة، لفظ (المعجزة) وإنما جاء في النصوص الآية والبرهان ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ?(34)، ?فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ?[النمل:12]، وقال ?فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ?[القصص:32]، ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ?[البقرة:111]، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن ما يؤتاه الأنبياء والرسل إنما هو آيات وبراهين.
وبعض أهل العلم جعل لفظ المعجز نتيجة؛ في أن آية النبي وبرهان النبوة معجز، لكن لفظ الإعجاز فيه إجمال، وذلك لأنه معجز لمن؟ فيه إجمال وفيه إبهام، فإعجاز ما يحصل لمن هو معجز؟ فإذا قلنا معجز لبني جنسه فهذا حال، معجز لبني آدم فهذا حال، معجز للجن والإنس فهذا حال، معجز لكافة الورى فهذا حال.
ولهذا جعل المعتزلة والأشاعرة في الخلاف ما بينهم في المعجزات جاء من هذه الجهة؛ أن لفظ معجز اختلفوا فيه، معجز لمن؟ -كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله-، ولهذا نعدل عن لفظ الإعجاز إلى لفظ الآية والبرهان.
ونقول الآية والبرهان التي يؤتاها الرسول والنبي للدِّلالة على صدقه تكون معجزة للجن والإنس جميعا، فما آتاه الله جل وعلا محمدا عليه الصلاة والسلام يكون معجزا للجن والإنس جميعا، كما قال تعالى ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88].
أما إعجاز بعض الإنس دون بعض أو الإنس دون الجن، فهذا هو الذي يدخل في الخوارق ويدخل في أنواع ما يحصل على أيدي السحرة والكهنة وما أشبه ذلك.
أما الفرق ما بين الآية والبرهان الدال على صدق النبي مع ما يؤتاه أهل الخوارق، أنَّه هل هو معجز عامة الجن والإنس أم لا؟ فإن كان معجز لعامة الجن والإنس فهو دليل الرسالة والنبوة، هذه الآيات والبراهين التي آتاها الله جل وعلا محمدا عليه الصلاة والسلام أنواع:
النوع الأول منها القرآن وهو حجة الله جل وعلا وآيته العظيمة على هذه الأمة، فتحدّى الله جل وعلا به الجن والإنس، ولم يستطيعوا ذلك مع أنهم متميّزون في الفصاحة والبلاغة وأشباه ذلك.
فإذن الآية والدليل الأول هو القرآن العظيم وهو الحجة الباقية.
الثاني آيات وبراهين سمعية؛ يعني تكون دالة من جهة ما يُسمع، ومن ذلك تسبيح الحصى، تسبيح الطعام على عهده ( كما روى البخاري في الصحيح أن ابن مسعود قال: كنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكل مع رسول الله (.
ومنها آيات وبراهين راجعة إلى البصر وهو ما يُبْصَر من أشياء لا تحصل لغيره؛ بل هي آية وبرهان على عجز الثّقلين عن ذلك، مثل نبع الماء ما بين أصابعه، ومثل حركة الجمادات وأشباه ذلك.
ومنها أدلة وبراهين فيها نُطق ما لم ينطق وهذه تشمل الأول المسموعة، وتحرك ما لم يتحرك بالعادة ويشمل حركة الجمادات، وشعور من لم يُعرف بشعوره وهذه إنما يخبر عنها نبي وتحصل للرسل والأنبياء، مثل حنين الجذع وتسليم الحجر وأشباه ذلك...(35)
... وأمر ونهي وللرسول قول وفعل فهذه خمسة أشياء، وهذا النوع من الدلائل أهم من الدلائل التي ذكرت لك فيما قبل عدا القرآن فهو أعظم الأدلة؛ وذلك أنّ محمدا عليه الصلاة والسلام جاء بأخبار -هذه تصدق على جميع النبوات والرسالات-.
جاء بخبر عن الله جل وعلا، وهذا الخبر: منه ما يتعلق بالماضي، ومنه ما يتعلق بالحاضر، ومنه ما يتعلق بالمستقبل.
وجاء بأمر ونهي، وهذا الأمر والنهي وما يدخل في الشريعة، والأوامر متنوعة والنواهي متنوعة.
وجاء بأقوال هو قالها في التبليغ وأفعال له.
وكل هذه بمجموعها تدل للناظر على أن من قال وأخبر عن الله وفعل وأمر ونهى فإنه صادق فيما قال؛ لأنّ كل مدَّعٍ للخبر والأمر والنهي وله أقوال وله أفعال وليس على مرتبة النبوة فلابد أن يظهر لكل أحد أن يظهر له كذبه فيما ادّعاه وتناقضه في أقواله وأفعاله وضَعْفُ أمره ونهيه وعدم إصلاحه وأشباه ذلك.
ولهذا محمد عليه الصلاة والسلام جعل الله جل وعلا له الكمال فيما أخبر به، وفيما أمر به، وفيما نهى، وفي أقواله وأفعاله، فجعل إتّباعه في الأقوال والأفعال إتّباعا مأمورا به ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]، وقال ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ?[الأحزاب:21]، وجعل ما يخبر به الرسول ( هو في كخبر الله جل وعلا؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ونحو ذلك، فاستقام أمره عليه الصلاة والسلام في هذه الأمور الخمسة، ولم يُعْرَف أنّ أحدا طعن في شيء من هذه الأشياء واستقام على طعنه ولم يستسلم؛ بل كل من طعن في واحد من هذه الأشياء فإنه آل به أمره إلى الاستسلام، أو أن يكون طعنه مكابرة دون برهان.
لهذا نقول: إن هذا الدليل من أعظم الأدلة التي تُفَرِّق ما بين النبي والرسول الصادق وما بين مُدّعي النبوة، فإنّ الرسول له أحوال كثيرة يُسمع في أقواله، يُرى في أفعاله، أوامره ونواهيه جاءت بماذا؟ أخباره جاءت بماذا؟ ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام أخبر عن أشياء حدثت في الماضي لم يكن العرب يعرفونها، وجاء تصديقها من أهل الكتاب وما كان يقرأ عليه الصلاة والسلام كتب أهل الكتاب، وجاء بأخبار عما سيحصل مستقبلا، وجاء بأخبار عما سيحصل بين يدي الساعة وحصلت بعده عليه الصلاة والسلام شيئا فشيئا، منها ما حصل بعد موته سريعا، ومنها ما يحصل شيئا فشيئا، ومنها ما سيحصل بين يدي الساعة، وكل هذه الأخبار في تصديقها دالّة على أنه لا يمكن أن يعطاها إلا نبي.
كذلك ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام وما نهى عنه فهو موافق للحكمة البالغة التي يعرفها أهل الدّين ويعرفها أهل العقل الراجح، حتى إنَّ الحكماء شهدوا في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر بأن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام هي شريعة ليس فيها خلل لا من جهة الفرد في عمله ولا من جهة التنظير في المجتمع بعامة.
وكذلك ما في أفعاله عليه الصلاة والسلام فكان عليه الصلاة والسلام له المقام الأكمل في التخلص من الدنيا والبعد عن الرفعة؛ يعني والترفع على الناس؛ بل كان عليه الصلاة والسلام أكمل الناس في هديه وفي تواضعه وفي قوله وفي عمله عليه الصلاة والسلام، وكان أكمل الناس في عبادته، وكلّ دعوى لمن ادّعى النبوة فلا بد أن يظهر فيها خلل في هذه الأشياء.
أيضا هو عليه الصلاة والسلام تحدّى الناس في قوله فيما أتى به، وأخذ يدعو كما يظهر لك من قصة هِرَقل مع أبي سفيان وسؤالات هرقل لأبي سفيان، وأخذ يدعو غير ملتفت لخلاف من خالف، والناس يزيدون وأعداؤه ينقصون، وهذا مع تطاول الزمن ونصرة الله جل وعلا له، فإن هذا دليل على صدقه فيما أخبر وفي أمره ونهيه وقوله وفعله عليه الصلاة والسلام.
الدليل الثالث -كما ذكرنا هذه جنس أجناس الأدلة- أن الله جل وعلا هو صاحب الملكوت وهو ذو الملك والجبروت، وهو الذي ينفذ أمره في بريته، فمحال أن يأتي أحد ويدّعي أنه مرسل من عند الله، ويصف الله جل وعلا بما يصفه به، ويذكر الخبر عن الله وأسمائه ونعوته، ثم هو في ملك الله جل وعلا يستمر به الأمر إلى أن يشرِّع ويأمر وينهى وينتشر أمره ويغلب من عاداه ويسود في الناس ويُرفع ذكره دون أن يُعاقب، ولهذا قال جل وعلا في بيان هذا البرهان ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)[ثُمَّ] (36) لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ?[الحاقة:44-47]، لو كانت دعوى في ملك الله جل وعلا وهذا يدعي أنه مرسل ونبي ويأتي بأشياء هو يقول هي من عند الله، فإنّ مالك الملك لا يتركه وهذا بل ربما جعل هذا امتحانا للناس، ولكن لا ينصر وتكون الشريعة وتكون شريعته هي الباقية ويكون ذكره هو الذي يبقى، ويكون الخبر عن الله وعن أسمائه وصفاته ودينه وشرعه وعن الأمم السالفة وعما سيحصل هو الذي يبقى في الناس، فإن هذا مخالف لقول الله جل وعلا ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)[ثُمَّ] لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ?، والمشركون لما كذّبوا النبي عليه الصلاة والسلام قالوا?شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ?[الطور:30]، لأنّ السنة ماضية عند العقلاء أن من يدّعي عن الله جل وعلا فإنما يتربص به الهلاك والإفناء، ?شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ? فجاء البرهان ?قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ?[الطور:31]، لأنّ هذا البرهان صحيح، فتربصوا فغني معكم من المتربصين ?قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ? وقد صدقتهم في هذا البرهان؛ لأنه لو كان كما تقولون كاذب فإنه يتربص به ريب المنون وأن يهلكه الله جل وعلا وأن يجعله مخليا وأن يجعله عبرة لمن اعتبر.
فالنبي عليه الصلاة والسلام وسائل الأنبياء والمرسلين جعلهم الله جل وعلا حملة لرسالته وشرفهم ورفع ذكرهم ونصرهم بين الناس، ولهذا تجد أن الرسالات هي الباقية في الناس كرسالة موسى عليه السلام ورسالة إبراهيم ورسالة عيسى عليه السلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل واحدة منها دخلها من التحريف ما دخلها، فأتباع إبراهيم من [...] حرفوا في دينهم حتى أصبحوا على غير ملة إبراهيم، وأتباع موسى من اليهود الآن على غير دين موسى، وأتباع عيسى عليه السلام الآن على غير دين عيسى، وأتباع محمد عليه الصلاة والسلام هم الذين حفظهم الله جل وعلا وجعل منهم طائفة ظاهرين بالحق يقومون به إلى قيام الساعة.
هذا ما يتعلق بالمسألة الثالثة.
المسألة الرابعة: وهي آخر المسائل، أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجوز في حقهم ما يجوز في حق البشر مما هو من الجبلة والطبيعة، لهذا في القرآن يكثر وصفهم بأنهم بشر وأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام بشر لكن يوحى إليه، وأما من جهة الذنوب والآثام ونجعل البحث هذا يعني رأس المسألة منقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من حيث الأمراض والعاهات: فعند أهل السنة والجماعة أن الرسل والأنبياء يُبتلون ويمرضون مرضا شديدا، وعند الأشاعرة أنهم يمرضون ولكن بمرض خفيف ولا يمرضون بمرض شديد، هذا غلط بيّن فإنّ ابن مسعود دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله إني أراك توعك. يعني فيك حمى شديدة، قال «أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قال ابن مسعود: ذلك بأن لك أجرين؟ قال «نعم» إلى آخر الحديث، والأنبياء يُضاعف عليهم أو يشتدّ عليه البلاء بأنواع.
فإذن من جهة الأمراض والأسقام التي لا تؤثر على التبليغ وصحة الرسالة فإنهم ربما أُبتلوا في أجسامهم وأبدانهم بأمراض متنوعة شديدة.
المسألة الثانية من جهة الذنوب: الذنوب أقسام:
1. فمنها الكفر وجائز في حق الأنبياء والرّسل أنْ يكونوا على غير التوحيد قبل الرسالة والنبوّة.
2. والثاني من جهة الذنوب فالذنوب قسمان كبائر وصغائر:
* والكبائر جائزة فيما قبل النبوة، ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرسالة أو تقحّمها عليهم الصلاة والسلام بخلاف من أجاز ذلك من أهل البدع.
* أما الصغائر فمنع الأكثرون فعل الصغائر من الأنبياء والرسل والصواب أن الصغائر على قسمين:
* صغائر مؤثرة في الصدق؛ في صدق الحديث وفي تبليغ الرسالة وفي الأمانة، فهذه لا يجوز أن تكون في الأنبياء، والأنبياء منزهون عنها؛ لأجل أنها قادحة أو مؤثرة في مقام الرسالة.
* والثاني من الأقسام صغائر مما يكون من طبائع البشر في العمل أو في النظر أو في ما أشبه ذلك، فهذه جائزة إن لم تكن من جهة النقص بتحقيق أعلى المقامات وأشباه ذلك، فهذه جائزة، ولا نقول واقعة؛ بل نقول جائزة، والله جل وعلا أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ?[الفتح:1-2] الآية، فالنبي عليه الصلاة والسلام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
المسألة الأخيرة نجعلها الخامسة: –تذكَّرْتُها الآن- هي أنّ الرسول والنبي فيهم شروط أو أوصاف عامة جاءت في القرآن والسنة:
أولا أن الرسول يكون ذكرا وكذلك الأنبياء ذكورا، فليس في النساء رسولة ولا نبية، وإنما هم ذكور.
الثاني أنهم من أهل القرى يعني ممن يسكنون القرى ويتقرّون ويجتمعون، وليسوا من أهل البادية يعني ممن يَبْدون كما جاء في آية يوسف.
الثالث أنّ الرسول لابد أن يُكذَّب، فلم يأتِ رسول إلا وكُذِّب كما قال جل وعلا ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا?[يوسف:110].
مباحث النبوة والرسالة كثيرة متنوعة، وهذه بعض المسائل المتعلقة بها، وقد لا تجد ذلك مجموعا في موضع واحد، ولاشك أنّ هذا البحث خاصة دلائل النبوة بحث مهم، واعتنى به أئمة السنة والسلف، وصنّف فيه عدد من العلماء في دلائل النبوة وفي آيات وبراهين النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
المصدر الدرس الاول
شرح العقيدة الطحاوية
أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي
شرحها فضيلة الشيخ العلامة
صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ
حفظه الله تعالى