اذا تعارض قولة مع فعلة صلى الله علية وسلم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
لقد جاء في بعض كتب علم الأصول، أصول الفقه أنه إذا تعارض قوله صلى الله عليه وآله وسلم مع فعلٍ له قُدِم قوله على فعله ،
والسبب في ذلك أن القول الصادر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو تشريعٌ من الله على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم للأمةِ كلها ،
أما فعله عليه الصلاة والسلام فقد يحيط به بعض الاحتمالات التي تجعل فعله خاصًا به عليه السلام
وهذا - إنما هو فيما إذا كان فعله مخالفًا لقوله عليه الصلاة والسلام
ففي هذه الحالة يقول العلماء إن فعله عليه السلام إذا خالف قوله ولم يمكن التوفيق بين فعله وقوله ولا مناص حينئذٍ من مخالفةِ إمّا الفعل وإمّا القول فحينئذ اتباع القول ومخالفة الفعل هو اللائق بالأمة
ذلك لأن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحالة - أؤكد في هذه الحالة فقط ؛ أي حالة كون فعله مخالفًا لقوله - في هذه الحالة فقط يقال:
يترك فعله عليه السلام له ، ونأخذ نحن بقوله لما سبق ذكره آنفًا أن قوله تشريع عام للأمة أمّا فعله فيحيط به احتمالات،
1- يمكن أن يكون فعله قبل أن يشرع للناس ماشرّع على لسان الله عز وجل ماشرّع بوحي من الله عز وجل لأمته ، فيكون الفعل قبل القول ،
2- أو يكون فعله عليه الصلاة والسلام لعذرٍ لا ندري ما هو 3-أو يكون في النهاية أمرًا خاصًا ، تشريعًا خاصًا به عليه الصلاة والسلام لايشاركه فيه أحدٌ من المسلمين .
مثال ذلك مثلاً:
من المقطوع به أن النبي عليه الصلاة السلام تزوج من النساء اكثر من أربع ، بل مات عليه الصلاة والسلام وتحت عصمته تسع من النساء وهذا خلاف ماجاء في ظاهر قوله تعالى
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ
وتأكد معنى المعنى الظاهر من هذه الآية بالحديث الذي جاء في السنن:
أن رجلاً أسلم وتحته تسع من النسوة فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك ، قال له عليه الصلاة والسلام: (
أمسك أربعًا منهن وطلّق سائرهن
هذا قوله عليه السلام وذاك فعله ،
اذنَّ تَزَوُج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسعٍ من النساء بل وبأكثر من ذلك إنما هي خصوصيةٌ خصه الله تبارك وتعالى بها ،
فنحن ندع فعله له عليه السلام ونأخذ بقوله كما في الآية
والأمثلة على ذلك تكثر ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ولعله يحسن بي في ختام الجواب على هذا السؤال أن أضرب مثلاً آخر حساسًا له علاقة بحياتنا الإجتماعية في هذا الزمان ، حيث أننا نخالف قوله صلى الله عليه وآله وسلم محتجين بفعله مع أنه يرِد عليه ما ذكرته من الاحتمالات الثلاثة
ألا وهو شرب كثيرٍ من الناس قيامًا ، وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قد نهى عن الشرب قائمًا ، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب قائمًا ) ، وفي روايةٍ
زجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب قائمًا ، فقيل له:أرأيت الأكل؟ قال: شرٌ
أي الأكل من قيام شر من الشرب من قيام
كثير من الناس نراهم يتساهلون فيشربون قيامًا ، وإذا ما أوردت عليهم هذا الحديث مُذكِّرًا لهم بنهيه ، بل بزجره صلى الله عليه وآله وسلم لنا معشر المسلمين عن الشرب قائمًا ، بادروك بقولهم:
ألم يشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا ؟
جوابنا: نعم ، قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديث ، وفي غير ما حالةٍ واحدةٍ أنه شرب قائمًا ، ولكن ماالعمل وأمامنا حديثٌ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو زجرُه عن الشرب قائمًا وعندنا أيضًا فعله صلى الله عليه وآله وسلم وهو شربه قائما،
إذا عرفت اخى القاعدة السابقة وحاولت التوفيق بين نهيه وفعله ؛ لابد أنك ستجد نفسك إذا سلمت بها
أن تقول ربما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرب قائمًا لأنه لم يتمكن من الشرب قاعدًا ،
وهذا يلاحظه الباحثون المتفقهون في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأحاديث التي جاء فيها أنه صلى الله عليه وآله وسلم شرب قائمًا ، حيث في هذا الحديث وهو في سنن الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى قِربةٍ معلَّقةٍ فحل وكائها وشرب منها قائمًا ، أي أن القربة كانت مُعلَّقة ، وليس من السهل بإنزال القربة والشرب منها ، وهو عليه الصلاة والسلام جالسٌ ، تصور هذه القصة يغنينا عن محاولة التكلف في بيان السبب الذي شرب عليه الصلاة والسلام قائمًا.
فالأحاديث التي ليس فيها بيان السبب تُحمَل إما على هذا المحمل وهو العذر ، وإما على محمل ثاني وهو أن يكون الشرب قبل النهي ، وإما على المحمل الأخير أن يكون ذلك حكمًا خاصًا به عليه الصلاة والسلام.
بعض العلماء ممن عالجوا هذه المسألة
حاولوا الجمع بين الفعل والقول ، والمحاولةُ في الأصل أمر مطلوب ولكن بشرطِ أن تكون المحاولة ليس فيها تكلفٌ ، وليس فيها تعطيل لقوله عليه الصلاة والسلام بوجه من وجوه التأويل ، كما ستر فيما يأتي ،
قالوا توفيقًا بين فعله صلى الله عليه وآله وسلم بين شربه قائمًا وبين نهيه عن الشرب قائمًا
نحمل النهي على التنزيه ؛ أي يكون الحكم أن الشرب قيامًا هو مكروهٌ وليس بحرام
فالأولى أن يشرب الشارب جالسًا ، هذا ما قاله بعض أهل العلمِ ومنهم الإمام النووي ، لكن هذا الجمع وقف عند لفظ نهى ، لكنه لو تعدّى نظر الجامع المذكور إلى الرواية الآخرى التي تقول: ( زجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب قائمًا ) ؛ لوجد نفسه غير موفق في ذلك التوفيق ، لأن الزجر أقوى من النهي ، الزجرُ كما لوكان النص حرّم رسول الله الشرب قائمًا ، حينئذ لا سبيل إلى تأويل التحريم إلى الكراهة التنزيهية ،
ولذلك فالتأويل السابق كان يمكن أن يكون سائغًا ومقبولاً لولا الرواية الأخرى
زجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب قائمًا)
أما وهي أيضًا صحيحة وفي صحيح مسلم ؛ فبذلك يثبت أن ذلك التأويل تأويل هزيل ، لاينبغي الاعتماد عليه ، يزداد التأويل المذكور ضعفًا على ضعفٍ ،
فيما إذا تذكرنا حديثًا آخر أخرج معناه الإمام مسلم في صحيحه أما اللفظ فأخرجه الإمام أحمد في مُسنده أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً يشرب قائمًا فقال له
يافلان أترضى أن يشرب معك الهر؟ قال : لا يارسول الله ، قال:
فقد شرب معك من هو شرٌ من الهر الشيطان،
شرب معك الشيطان لأنك شربت قائمًا
ثم قال له عليه الصلاة والسلام أو لغيره ممن شرب قائمًا:
( قئ قئ )
أمره بأن يستفرغ الماء الذي شربه قائمًا، هذا حكم مكروه كراهة تنزيهية أن يُكلَّف من ارتكب مكروهًا أن يشق على نفسه وأن يستفرغ ما في بطنه من الماء ، ليس هذا سبيل المكروهات وإنما هو سبيل المحرمات ثم إذا كان الشيطانُ قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد شارك هذا الشارب للماء قائمًا ، أفيكون هذا ايضًا مكروهًا كراهةً تنزيهية؟ الجواب :
كلا ثم كلا ثم كلا، وختام القول أن هذا مثالٌ صالح ، كيف ينبغي ، أو لماذا قال أهل العلم
بأنه إذا تعارض القولٌ مع الفعلِ قُدِمَ القول على الفعل ، هذا أمر لا يشك فيه منّ تتبع أحكام الشريعة في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه سيجد نفسه مضطرًا إلى القول بما قاله هؤلاء العلماء ؛ أنه إذا تعارض فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله قُدِمَ القول على الفعل ، هذا حينما لا يمكن التوفيق بين فعله وقوله كما ضربنا لكم آنفًا مثل الشرب قيامًا ، ومثل التزوج بأكثر من أربع وفي هذا القدر كفاية
والحمد لله رب العالمين.