السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
۩ الحج وتربية الذات- ۩
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعى آله وصحبه؛ وبعد:
فمن عظيم فضل الله علينا ومنته أن جعل عقيدتنا وشريعتنا من الروافد الأساسية في تربية النفس وتقويم أودها والرقي بالذات نحو مدارج الكمال ومعالي الأمور.
فالإيمان بالله كفيل بغرس الهيبة في النفوس لعظمته وجلاله سبحانه والإيمان بالملائكة يربي فينا المراقبة الذاتية وتأمل معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى يفيض على النفس شعوراً بقرب السميع العليم البصير فلا تجنح نفس المؤمن للخطأ ويطرد اليأس عنا معاني الحكيم العليم الخبير؛ وهكذا في سلسلة من النور والبهاء والعزة تستمد من هذه الأسماء والصفات لله الكبير المتعال وهي جديرة بالدراسة والتأمل من العلماء المسلمين.
وأما الشريعة الغراء فلها ما للعقيدة من أثر سامي؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعود على الانضباط والإتقان، والزكاة مدرسة للبذل والعطاء وطهرة للنفوس، والصيام يعلم الصبر بأنواعه ويوحد مشاعر المجتمع في حالة يعز نظيرها.
وهذه القضية عامة في جل العبادات غير أن لها ظهوراً ومزيد جلاء في عبادة عظيمة تعاقب على أدائها الأنبياء والصالحون وسيبقى ولع المسلمين بها وشوقهم إليها إلى أن يأتي أمر الله سبحانه؛ وهذه العبادة هي الحج التي تجعل للعبد فرصة الخروج من ذنوبه وآثامه كيوم ولدته أمه كما صح بهذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن آثار الحج التربوية على الفرد والأمة ما يأتي:
1.تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها:
وبهذا يتحقق الإخلاص وهو شرط صحة العبادة الأول؛ فنية الحج خالصة لله سبحانه: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ...** [سورة البقرة: 196]،
وقال سبحانه في أثناء آيات الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ...** [سورة الحج: 30-31].
وفي التلبية وهي شعار الحج جاء إفراد الله بالنسك صريحاً "لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك لبيك ....".
2. توحيد المتابعة:
وهو شرط صحة وقبول العبادة الثاني؛ وتكون المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته وبذلك يتحقق للعبد توحيد المتابعة وينجو من شرك الطاعة وشَرَك الابتداع وقيد العوائد وتغلب الأهواء؛ إذ عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقط تؤخذ المناسك.
3. البراءة من المشركين ومخالفتهم:
وهذا مطلب شرعي حيث خالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع مختلفة من الحج مثل: الإهلال بالعمرة في أشهر الحج، التلبية، الوقوف بعرفة، الدفع من مزدلفة. فليتنا نأخذ درساً في العزة والبراءة من تقليد المشركين التي ابتلي بها فئام من أبناء المسلمين فتراهم مستهترين بالعدو الغازي مولعين بتقليد حثالة رجاله ونسائه في أمور أقل ما يكون فيها انعدام الفائدة فكيف بخزايا الأعمال ومساوىء الأخلاق؟
4. تعظيم شعائر الله:
وهي من أعظم غايات الحج حيث يتربى العبد على تعظيمها وإجلالها ومحبتها وإكرام أهلها والتحرج من المساس بها أو هتك حرمتها،
ويزداد التعظيم والخضوع بترك تغطية الرأس؛ قال جل شأنه في ثنايا آيات الحج: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ** [سورة الحج: 32].
5. التربية على الأخلاق الحسنة والأخلاق الحميدة:
ومنها العفة وكظم الغيظ وترك الجدال كما في قوله عز وجل: **الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ** [سورة البقرة: 197]. فالرفث هو الجماع ودواعيه من قول أو فعل، والجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك.
ومنها اللين والرفق والسكينة كما قال عليه الصلاة والسلام حين سمع جلبة وصخباً في الدفع لمزدلفة: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» [رواه البخاري] والإيضاع هو الإسراع.
ومنها إنكار الذات وتجاوز أغلالها والاندماج في المجموع في اللباس والهتاف وفي التنقل والعمل.
ومنها التربية على التواضع حين لا يمتاز أحد عن أحد وليس لحاج خاصية أو ميزة عن غيره من الحجاج في الأمور الدينية فالأركان والواجبات والمسنونات متماثلة في حق الجميع.
ومنها التربية على الصبر بأنواعه: صبر على مشقة الطاعة، وصبر عن المعصية خاصة مع التزاحم وكثرة الناس؛ وصبر على قضاء الله الذي يعرض للحاج.
ومنها التربية على البذل والسخاء فالحج عبادة بدنية مالية؛ وفي المشاعر تتسامى المشاعر فيبذل الموسر من ماله لسقيا الحجاج أو تفريج كربهم وسد حاجتهم.
ومنها تحقيق معاني الأخوة وحصول المحبة والتآلف والتضحية خاصة حين يكون الحج مع رفقة وصحبة.
6. التربية على تحمل تبعات الخطأ:
ويظهر ذلك جلياً في وجوب الفدية على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام أو ترك واجباً.
ولاشك أن الشعور بالمسؤولية وتحملها علامة نضج وكمال الإنسان وهي غاية من غايات التربية لا جرم.
7. التذكير باليوم الآخر:
في مواقف تحصل للحاج منها:
خروجه من بلده ومفارقته أهله: يذكر بالفراق حال الخروج من الدنيا.
التجرد من المخيط وترك الزينة: يذكر بالكفن وخروج العباد من قبورهم حفاة عراة غرلا.
الترحال والتعب والازدحام مع العطش والعرق:
يذكر بمواقف عرصات القيامة وحشر العباد.
8. التربية على الاستسلام والخضوع لأمر الله تعالى والمجاهدة فية
ويكون هذا بإيثار محاب الله ومرضاته على رغبات النفوس وشهواتها؛ مما يقود إلى مرتبة أعلى ومنزلة أسمى حين لا يكون للعبد إيناس ولا استئناس إلا بما يرضي الرب سبحانه؛ وحينها يبلغ إيمان المسلم درجة عالية عزيزة بفضل الله وتوفيقه.
9. تعميق معاني الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية:
فالحج مؤتمر إسلامي عالمي كبير، تتحقق فيه الوحدة في مصدر التلقي وفي قصد القلب وعمل الجوارح وفي الزمان والمكان واللباس والذكر والمناسك، وتذوب فوارق اللغة واللون والإقليم بين المسلمين في حالة هي الأصل المتخلف ولله وحده المشتكى.
10. ربط الحجيج بأسلافهم:
حيث تحمل أعمال الحج في مضامينها ذكرى أبينا إبراهيم عليه السلام ورحيله بزوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل عليه السلام إلى مكة وما كان من أمرهم، مروراً بباقي الركب الميمون من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وصولاً إلى حجة الوداع مع خير الرسل وخاتمهم، ُثم استكمالا للمسيرة مع الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين إلى وقتنا هذا؛ وكم في سير أولئك الكبار من دروس وعبر وكم فيهم من قدوة ومعتبر.
11. الإكثار من ذكر الله تعالى:
والحج شعيرة يملئها الذكر ويمنحها مزيداً من الجلال والبهاء؛ قال سبحانه: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ** [سورة البقرة: 198]. وفي الحديث: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله في الأرض» [رواه أبو داود وضعفه الألباني].
12. التعود على النظام والانضباط:
فللمناسك ترتيب ونظام لا يقبل الإخلال بهما؛ وكم في الناس من مزاجية واضطراب لا تنضبط إلا بالحج.
13. التربية الإيمانية:
ومنها:
التربية على النفرة من المعاصي واجتناب الذنوب: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ** [سورة البقرة: 197].
التربية على الاجتهاد في الطاعات واستغلال الوقت: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ** [سورة البقرة: 197].
التربية على الدعاء والمسألة ولذة مناجاة الله:
«خير الدعاء دعاء عرفة» [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وفي الحج ست مواضع قمينة بإجابة الدعاء فضلاً من الله ومنة وهي:
الطواف، الصفا والمروة، يوم عرفة، عند المشعر الحرام، بعد رمي جمرة العقبة الصغرى، بعد رمي جمرة العقبة الوسطى؛ علماً أن الحج كله سوق رائجة رابحة للدعاء والابتهال والاستغفار.
التربية على الاستقامة بعد الحج وغفران الذنوب وتبييض الصحائف:
قال الحسن البصري رحمه الله: "الحج المبرور أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، ويشهد لذلك قوله تعالى: **وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ** [سورة محمد: 17].
14. تربية النفس على لدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فاجتماع الناس وجهل بعضهم أحكام الحج فرصة سانحة لدعوتهم وتصحيح مفاهيمهم وتقويم سلوكهم؛ كما أن وجود البدع والمنكرات وربما الشركيات يحتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال شجاع بن الوليد: " كنت أحج مع سفيان؛ فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً".
15. وفي الإحرام تربية:
حين يحرم المسلم نفسه ما أباحه الله من متع الدنيا ومتاعها وزينتها لغير المحرم، فكيف بالمحرمات على الدوام؟، ولم ينغمس البعض في حرام لا مرية فيه بينما يتحرز من حلال حرم عليه مؤقتاً؟
16. وفي التلبية تربية:
ففيها تحقيق توحيد القصد وإجابة أمر الله ومعاهدة على الطاعة إثر الطاعة ومخالفة لطريق المشركين؛ فإذا لبى الواحد داعي الله السنوي فما باله يتكاسل عن داعي الله اليومي؟
17. التربية على صدق العزيمة وقوة الإرادة:
فمن حج البيت فقد أرغم هواه وغالب لذة الراحة والدعة ومضى لأمر يعلم مشقة غير ملتفت لمخذل أو مرجف أو صارف؛ وما أكثر الصوارف!!، وما أعلى صياح المخذلين بالحجج الواهيات والتوهيمات الساقطات!!.
18. التربية على هجر العوائد وقطع العلائق وتغيير نمط الحياة:
فالعوائد ما اعتاده الواحد من سكون ورخاء، والعلائق ما تتعلق به القلوب من دون الله من ملاذ الدنيا وأناسها، ويكون هجرها بقوة التعلق بالمطلب الأعلى وهو رضا الله سبحانه وسلعته الغالية.
19. وفي الحج تدريب عملي:
فالحاج هو المسؤول عن إتمام المناسك لا غيره؛ وقد يكون في حملة أو رفقة فيتولى بعض أمرهم ويتاح له من التطبيق العملي والتدريب المكثف ما لم يكن متاحاً له بغير الحج.
20. وفي الحج تربية على التعلم والتعليم:
فالحاج يتعلم مناسك الحج ومحظوراته وقد يحضر دورة قبل الحج أو يسأل مفتياً في أثناء الحج وحسن السؤال نصف العلم؛ وقد يضبط الأحكام والفتاوى بإحكام يؤهله لنقلها لغيره مبلغاً ومعلماً.
اللهم يسر لنا حجاً مبرورا وسعيا مشكوراً واغفر اللهم ذنوبنا وخطايانا؛ والله تعالى أعلم.
أحمد بن عبد المحسن العساف
صيد الفوائد