الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،،، وبعد:
فقد كثر كلام الناس بعضهم في بعض بلا زمام ولا خطام؛ وانشغل عدد من الدعاة وطلاب العلم عن العلم والدعوة بالحكم على الناس؛ فكتبت هذه الورقات مبينًا بعض الضوابط التي ينبغي مراعاتها في هذا الباب؛ وهذا أوان الشروع في المقصود:
الضابط الأول:
لا يحكم على الناس إلا عالم خبير بأحوالهم.
فالكلام في الناس بغير علم جرم عظيم، والله عز وجل يقول: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ (النور:15).
وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- معه شاهد يشهد، قال: ائت بمن يعرفك فجاء برجل، قال: هل تزكيه، هل عرفته؟، قال: نعم ، فقال عمر -رضي الله عنه- وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله، ومخرجه؟، قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم الذي بهما تعرف بهما أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: عمر -رضي الله عنه-: فلعلك رأيته في المسجد راكعًا وساجدًا فجئتَ تزكيه!!!!، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر -رضي الله عنه- اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك[1].
الشروط التي لابد منها في الناقد:
أولًا:
العلم والتقوى والورع.
الثاني:
الصدق وعدم التعصب.
الثالث:
معرفة أسباب الجرح والتزكية؛ لأنه إذا لم يعرف السبب الجارح فربما يجرح بما ليس بجارح.
قال الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق من كتابه تذكرة الحفاظ: "فحق على المحدث أن يتورع في ما يؤديه؛ وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها
ولو سودت وجهك بالمداد
قال الله تعالى عز وجل: ﴿ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ (النحل: 43)، فإن آنست يا هذا من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا وإلا فلا تتعن وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأى والمذهب فبالله لا تتعب؛ وإن عرفت إنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك؛ فبعد قليل ينكشف البهرج؛ وينكب الزغل؛ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله؛ فقد نصحتك فعلم الحديث صلف فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب"[2].
الضابط الثاني:
لا يحكم على الناس إلا عالم بطرائق النقد.
قال السبكي رحمه الله: من لا يكون عالِمًا بأسبابهما-يعني: أسباب الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد[3].
وقال بدر الدين بن جماعة رحمه الله: من لا يكون عالِمًا بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بتقييد[4].
وقال ابن حجر رحمة الله عليه: إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به[5].
الضابط الثالث:
محاكمة الناس بالكتاب والسنة لا بمناهج الرجال أو الطوائف.
حذر الأئمة من آراء الرجال، ومشارب المذاهب واختلاف الجماعات، فروى عن الإمام مالك أنه قال: " كلما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجلٍ ، أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم "[6].
قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة: "وأما من يرى أن الحق وقف مؤبد على طائفته وأهل مذهبه وحجر محجور على من سواهم ممن لعله أقرب إلى الحق والصواب منه فقد حرم خيرا كثيرا وفاته هدى عظيم".
الضابط الرابع:
وجوب التجرد لله تعالى.
على المرء أن يخلص قوله وعمله لله، وأن يكون كلامه نصيحة للأمة ابتغاء وجه الله لا لغرض آخر، فيحرم على المرء ظلم إخوانه أو التشفي فيهم، أو الشماتة، كما يجب عليه تصفية النفس والقلب من الحسد، حتى لا يحمله ذلك على الكلام بغير حق، ورد من حديث الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ؛ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ؛ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا؛ أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ [7])).
الضابط الخامس:
وجوب العدل والإنصاف.
يعنى العدل ونبذ البغي؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة: 9).
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ[8]".
وفي قصة أهل الكوفة مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عبرة؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَعَزَلَهُ, وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ , فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ, إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللهِ, فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ, فَأَرْسَلَ مَعَهُ, رَجُلاً، أَوْ رِجَالاً, إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا ، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ, يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا, فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ, قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً, فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْني دَعْوَةُ سَعْدٍ, قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ(الراوي عن جابر بن سمرة): فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ[9].
الضابط السادس:
اتهم نفسك أيها الناقد.
قال البخاري في " صحيحه " [10]: وقال ابنُ أبي مُليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه.
وفي " المسند " [11] عن حُذيفة ، قال: " إِنَّكُمْ لَتَكَلَّمُونَ كَلاَمًا إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّفَاقَ". ، وفي رواية [12] قال: " إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ الْيَوْمَ فِي الْمَجْلِسِ عَشْرَ مَرَّاتٍ ".
الضابط السابع:
لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المقرر في عقيدة المسلمين وقواعدهم المتفق عليها أنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح أن مجموع الأمة معصوم بدلالة النص والأثر ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا [13]" وكما ورد في الحديث: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[14]. ؛ ولهذا ليس من المنطقي ولا من المقبول شرعًا ولا عقلًا طلب العصمة في آحاد الناس؛ فهذا ليس إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة المباركة، فعلى أصحاب النقد ينبغي أن يعلموا أن من طلب عيبًا وجَدَه، وكما قيل:
من ذا الذي ما ساء قط
ومن له الحسنى فقط
الضابط الثامن:
الحكم على الناس إنما يكون بالظاهر لا بالظن.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ (الحجرات:12)، وقال تعالى: ﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾ (الإسراء:36).
وفي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ[15])).
الضابط التاسع:
ليس كل النقد مقبول.
يعلم القاصي والداني أنه لو قُبِلَ كل نقدٍ فلن يَسْلَمَ لنا أحد من أَعْلام الأمة وعلمائها، بل لم يسلم عدد من الصحابة؛ لأن النقد طال بعضهم.
قال ابن عبد البر: "فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض فليقبل قول الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- بعضهم في بعض فإن فعل ذلك فقد ضل ضلالًا بعيدًا وخسر خسرانًا مبينًا"[16].
ومن ذلك قول بعضهم في الإمام البخاري إمام المحدثين: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ[17].
ومن الأمثلة أيضًا: أن شعبة أتى المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور في بيته، فتركه؛ فلم يقبل منه العلماء جرحه، وقالوا: قد يكون عمل بغير إذنه أو لعله لم يكن موجودًا.
ومنها أنه سئل الحكم بن عتيبة: لِمَ لَمْ ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام.
ومنها أيضًا: أن جريرًا رأى سماك بن حرب يبول قائمًا فتركه.
ولذلك تجد الناس اختلفوا فيما يجرح به، فلا بد من ذكر سببه لينظر هل هو سبب معتبر للجرح أم لا؟.
الضابط العاشر:
الأصل في الناس العدالة.
فالأصل العدالة والجرح طارئ والأصل الصدق والكذب طارئ، والأصل التوحيد والشرك طارئ، والأصل الطهارة والنجاسة طارئة؛ وهكذا؛ وهذه قاعدة عظيمة ومن ثمارها قبول المسلم للمجتمع الذي يعيش فيه، فيعامل الناس على وفق هذه الأصول، فالأصل إحسان الظن بالمسلمين، وإساءة الظن لا تكون إلا إذا قامت أسبابها، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ (الحجرات:6). فدلت الآية على أن التبين والتثبت إنما يكون من خبر الفاسق المعروف بالفسق.
الضابط الحادي عشر:
وجوب التبين والتثبت وعدم التسرع.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ (النساء: 94).
وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ غَنَمٌ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ ، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غَنَمَهُ ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَّنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمَ السَّلاَمَ لَسْت مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعَندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ[18].
الضابط الثاني عشر:
كلام الأقران لا يقبل إلا ببرهان.
قال ابن عبد البر: " لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالبًا وشره أقل عمله فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله[19]".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِهَا[20]".
وعن مالك بن دينار قال: "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس، تنصب لهم الشاة الضارب فينب[21] هذا من ههنا وهذا من ههنا"!!!
الضابط الثالث عشر:
نهى الشرع عن التجسس والتحسس.
قال الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ (الحجرات:12).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا))[22].
الضابط الرابع عشر:
لا يحل الحكم بالمآل.
يقول الشاطبي في الاعتصام:" والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول:" أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال"، كيف والكافر؟ ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به"[23] انتهى.
وعلى هذا فمن كانت بدعته سببًا لدخول النار كبدع الخوارج والقدرية وغيرهما ممن قيل فيهم: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً))، فلا يحكم على أفرادهم بالنار على وجه التعيين، لأن ذلك حكم المآل وهو في علم الله وحده، وإن كان ذلك لا يمنع من الحكم المطلق على أقوالهم وأفعالهم والتحذير منه، دون تعليق الحكم بالأشخاص المعينين.
الضابط الخامس عشر:
لا يحل الحكم بلازم القول أو الفعل.
اللازم لغة: هو ما يمتنع انفكاكه عن الشيء [24].
وقد حصل تخبط واسع لدى من يتوسعون بالحكم على الناس بلازم القول أو الفعل، فتجد في أحكامهم شطط من هذا الباب، فمن أمثلة ذلك قولهم: لازم القول بمنع جواز التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته: القول بعدم محبته صلّى الله عليه وسلّم.
ويلزم من معرفته لفلان أنه على منهجه.
ويلزم من إصراره على المعصية استحلالها. وهكذا.
ولازم القول في الكتاب والسنة متوجه لأنّ الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمه؛ ولذا فإنهم لا يؤاخذون بلازم قولهم.
ضوابط الحكم على الناس
وعليه فالقاعدة أن: لازم القول ليس بقول، ولازم المذهب ليس بمذهب، بمعنى: إذا تكلم الإنسان بكلام ويلزم على كلامه باطل، فلا تلزمه بهذا الباطل.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدراً مشتركاً لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيماناً، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر، ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى[25] ". انتهى.
الضابط السادس عشر:
لا يحل الحكم بالمحتمل.
لا يُفْتَى بكُفْر مسلم أو تبديعه إذا أمكنَ حمْلُ كلامه على مَحمل حسَنٍ، والقول المحتمل لا يحكم بردة صاحبه إلا بعد بيان الحق له وإصراره عليه
قال ابن مايابي في نظم نوازل العلوي:
والارتداد لا عليه يحمل
لفظ له على سواه محمل
وكما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا[26]".
ومن الصور الجميلة التي تذكر في هذا المجال أن الربيع بن سليمان أحد تلامذة الشافعي دخل على الشافعي وهو مريض فقال له: " قوَّى الله ضعفك".
فقال الشافعي: لو قوى الله ضعفي لقتلني.
فقال الربيع: " والله ما أردت إلا الخير ".
فقال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير [27].
الضابط السابع عشر:
مراعاة المصلحة أو المفسدة المترتبة.
فأحيانًا يكون السكوت أبلغ من الكلام، والكلام في الفتنة أحيانًا يكون كبيع السلاح في الفتنة، والكلمة قد تفسد ما لا يفسده التقاتل، فالعالِم وحده يعرف إن كانت المصلحة في سكوته أم في كلامه، ويعرف متى يتكلم ومتى يسكت؟، وفي أي موضع؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمه الله-:
وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي " الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ ": فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ. فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ؛ لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ فَمَتَى قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا وَإِلَّا اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَقُلْ إنْ تعوز النُّصُوصَ مَنْ يَكُونُ خَبِيرًا بِهَا وَبِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ[28].
فاعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: "يَا عَائِشَةُ لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ" [29].
الضابط الثامن عشر:
من الناس من يُعْتَذَرُ عنه.
فمن الناس من ينبغي الاعتذار عنه، لفضله وسبقه وتوجيه قوله لمعنى من المعاني المقبولة، صيانة لجناب قائلها ومن ذلك:
موقف الصحابة مع أبي بكر الصديق
وأخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ)). فَسَلَّمَ ، وَقَالَ إِنِّى كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَىْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِى فَأَبَى عَلَىَّ ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: ((يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ)). ثَلاَثًا ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِى بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا: لاَ. فَأَتَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِى إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِى بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِى صَاحِبِى)). مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِىَ بَعْدَهَا[30].
الاعتذار عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: ((انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا)). فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ. فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا)). قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَقَدْ صَدَقَكُمْ)). قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))[31].
وعند البخاري برقم(4274) ومسلم(2494) أيضًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾.
قال ابن بطال: " قال المهلب وغيره: لا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأوله غير مأثوم فيه إذا كان تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز في لسان العرب ، أو كان له وجه في العلم[32]".
فظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عذر حاطب رضي الله عنه، مع ظهور خطأه واعترافه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم بين منقبة من مناقبه، وهي شهوده لبدر ؛ وأن أهل بدر من أهل الجنة.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلاَّ الْحُدُودَ [33])).
الاعتذار عن ابن حبان صاحب الصحيح.
جاء في السير للذهبي: "قال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري مؤلف كتاب " ذم الكلام ": سمعت عبد الصمد بن محمد بن محمد، سمعت أبي يقول: أنكروا علي أبي حاتم بن حبان قوله: "النبوة العلم والعمل "، فحكموا عليه بالزندقة، هُجر، وكُتِبَ فيه إلى الخليفة، فَكَتَبَ بقتله.
قلت: هذه حكاية غريبة، وابن حبان فمن كبار الأئمة، ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ، لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة " ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجًا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مهم الحج.
وكذا هذا ذكر مهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيًا إلا بوجودهما، وليس كل من برز فيهما نبيًا، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى، لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللدني والعمل الصالح.
وأما الفيلسوف فيقول: النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر، ولا يريده أبو حاتم أصلًا، وحاشاه[34].
الاعتذار عن قتادة بن دعامة السدوسي.
قال الذهبي رحمه الله في ترجمة التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي ما ملخصه:
"حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين... وكان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ... وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو.
ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل.
ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرِفَ صلاحُه وورعُه واتباعُه، يُغْفَرُ له زَلَلَهُ، ولا نُضَلِلُه ونطرحُه، وننسى محاسنَه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"[35].ا هـ
هذا ما تيسر والله أعلم.
[1] أخرجه العقيلي ( 354 ) والبيهقى في السنن الكبرى ( 10/125) وصححه الألباني في الإرواء(8/260) برقم(2637).
[2] تذكرة الحفاظ للذهبي (1 /10) دار الكتب العلمية.
[3] الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي ص 16 ؛ ط مكتبة ابن تيمية.
[4] السابق ص 17.
[5] نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 179.ط سفير بالرياض عام (1422هـ ).
[6] أخرجه الخطيب شرف أصحاب الحديث رقم (1) وفي الفقيه والمتفقه(594) والبيهقي في شعب الإيمان(8490).
[7] أخرجه الترمذي (2510) وأحمد (1412)( 1430)وانظر (الإرواء 3/238) و(صحيح الجامع 1/3361) وللحديث شواهد في الصحيح وغيره.
[8] أخرجه البخاري (4141) ومسلم(2770).
[9] أخرجه البخاري(755).
[10] ذكره البخاري 1/19 معلقاً ، وأخرجه في " التأريخ الكبير " 5/43 ( 6482 ) موصولاً.
[11] أخرجه أحمد في المسند (23262).
[12] أخرجه أحمد في المسند (23278) وفي الزهد لوكيع(469) والزهد لابن أبي عاصم(69) وعنده أربع مرات.
[13] أخرجه أحمد(27224).
[14] أخرجه الترمذي(2499) وابن ماجة(4251) وحسنه الألباني.
[15] أخرجه البخاري(5143)( 6066)( 6724) ومسلم(2563).
[16] جامع بيان العلم وفضله(2/313).
[17] وهي قول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد نهى العلماء عنه لاحتماله المعنى المنهي عنه وهو القول بخلق القرآن.
[18] أخرجه البخاري(4591) ومسلم(3025) أحمد(2023)( 2462)( 2986) وابن أبي شيبة في المصنف(29544)( 33777).
[19] (جامع بيان العلم وفضله(2/ 313).
[20] جامع بيان العلم( 2/ 295).
[21] قال في لسان العرب: نب التيس ينب نبا، ونبيبا، ونباباً ونبيب: صاخ عند الهياج. أ.هـ
[22] أخرجه البخاري(5143)( 6066)( 6724) ومسلم(2563) وأبو داود (4917).
[23] الاعتصام ص 708 طبعة دار ابن عفان.
[24] شرح القاموس للزبيدي (9/59) ، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص615.
[25] مجموع الفتاوى (20/217).
[26] أخرجه أحمد في ( الزهد) كما قال السيوطي في ( الدر المنثور) 6/92.
[27] آداب الشافعي للرازي ص274.
[28] مجموع الفتاوى(28/129).
[29] أخرجه البخاري(126) ومسلم(1333).
[30] أخرجه البخاري(3661)( 4640).
[31] أخرجه البخاري(3007) ومسلم(2494).
[32] شرح صحيح البخارى لابن بطال(8/ 595 -596) ط مكتبة الرشد.
[33] أخرجه أحمد(25474) والنسائي في الكبرى(7253)(7258) والبخاري في الأدب المفرد(465 ) وابن حبان (94) وأبو نعيم في "الحلية" 9/43، والطحاوي في "مشكل الآثار" 3/129، والبيهقي 8/ 267 و334، والدار قطني في سننه(370) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
[34] سير أعلام النبلاء(16 /95 -96).
[35] سير أعلام النبلاء: 5 /270 - 271.