الحسد.. الوقاية والعلاج
محمد فريد فرج فراج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلام على أشرفِ المرسَلين - صلَّى الله
عليه وسلَّم، الظُّلم يتميَّز عن غيرِه من الفواحشِ العظيمة، والمنكَرات البَشِعة،
بكونِه لا يَغفِره الله لصاحبِه حتى يغفرَ المظلومُ للظالِم!
ومِن ثَمَّ فخطرُه أعظم، وضررُه أشدُّ مِن كلِّ الكبائر التي يَغفِرها الله للعبدِ بتوبته
إليه؛ إذ لا أحدَ مِن العباد - مهما بلَغ - يَملِك ذرَّةً مِن فيض المغفرة الإلهية،
فكان لزامًا على كلِّ مَن يَرجو النجاةَ في الدُّنيا والآخِرة أن يتحاشَى مظالِم العباد
بدَرجةِ أضعافِ تَحاشيه لسائرِ الكبائر الأخرى، ومِن هذه المظالم التي يقَع فيها
الكثيرون لعدمِ تقديرهم لخطورتها (مَظلَمة الحسَد):
والحاسدُ يَظلم المحسودَ من وجهَيْن:
الوجه الأول: بالمَكْر والتدبير للتنفيس عمَّا في صدرِه مِن الحسَد والحقد، وهنا
يقَع الحاسدُ في مظالِمَ ظاهرةٍ لا حاجة في توضيحها وبيانها، وليس هذا النوعُ مِن
التنفيس هو موضوع المقالة.
الوجه الثاني: بمجرَّد العين، وهو أذًى لا يحتاج أكثرَ مِن الانفعالات النفسيَّة
الداخليَّة التي تُثيرها رغبةُ الحاسد في زوالِ النِّعمة عنِ المحسود.
والحاسدُ في هذه الحالةِ يُسمَّى: (العائن)؛ وذلك لأنَّه لا يحتاجُ إلى أيِّ
جارحةٍ أخرى لأذَى المحسود، والذي يُسمَّى في هذه الحالة: (المعيون)،
والعائِن والمعيون تَعبيرانِ خاصَّان بالأذى الواقِع بالعين، وهو ما لا يَنطبق على
الحسَد في الحالةِ الأولى، والتي يحتاج فيها الحاسدُ لاستخدامِ مَكرِه وكَيْده في أذَى
المحسود.
فمجرَّد رؤية العائن للمعيون ورغبتِه في زوالِ النِّعمة عنه كافٍ لوقوعِ الأذى على
المعيون.
ونذكُر عددًا مِن المواقف التي وقَع فيها الأذى مِن العائن للمعيون بمجرَّد العين
مِن غير حِيلةٍ ولا تدبير:
الموقف الأول:
• عن جابرِ بن عبدِالله - رضي الله عنهما - عنِ النبيِّ - صلَّى الله
عليه وسلَّم -: ((أنَّه قال لأسماءَ بنتِ عُمَيس: ((ما لي أرَى أجسامَ بني
أخِي ضارِعَة تُصيبُهم الحاجةُ؟))، قالت: لا، ولكن العين تُسرِع إليهم،
قال: ((ارْقِيهم))، قالت: فعرضتُ عليه، فقال: ((ارْقِيهم))؛
رواه أحمد ومسلم.
معاني الكلمات:
ضَارِعة: نَحيفة هَزيلة.
ولكن العَيْن تُسرِع إليهم: ولكن الحَسَد يُسرِعُ إليهم.
الموقف الثاني:
• عن زينبَ ابنةِ أبي سَلمَةَ، عن أمِّ سَلمَة - رضي الله عنها -: ((أنَّ
النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى في بيتِها جاريةً في وجهِها سَفعَةٌ،
فقال: اسْتَرقُوا لها؛ فإنَّ بها النَّظرة))؛ متفق عليه.
معاني الكلمات:
السَّفْعة: صُفرة الوجه وشُحوبه.
النَّظرة: الحسَد.
الموقف الثالث:
عن محمَّد بنِ أَبي أُمامَةَ بنِ سهلِ بْن حُنَيف، أنَّه سَمِع أباه يقول: اغْتَسلَ سَهلُ
بنُ حُنَيفٍ بالخَرَّار، فنَزَع جُبَّةً كانتْ عليه، وعامِرُ بنُ ربيعةَ ينظُر، قال: وكان
سهلٌ رجلاً أبيض، حسَنَ الجلد، فقال له عامرٌ: ما رأيتُ كاليوم، ولا جلدَ
عذْراء! فوُعِك سهلٌ مكانَه، واشتدَّ وعكُه، فأُتِي رسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - فأُخْبِر أنَّ سهلاً قدْ وُعك، وأنَّه غيرُ رائحٍ معك، فأتاه رسولُ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((هل تَتَّهمون به مِن أحدٍ؟)) فأخْبَره
سهلٌ الذي كان مِن شأنِ عامِر، فتَغيَّظ عليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم
- وقال: ((عَلامَ يَقتُل أحدُكم أخاه؟! ألاَ بَرَّكْتَ؟! إنَّ العين حقٌّ،
توضَّأْ له))، فتوضَّأْ له عامر، فراحَ سهلٌ مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - ليسَ به بأسٌ))؛ رواه أحمد، والنَّسائي في "الكبرى"، وابن ماجه.
هذه عِدَّة مواقف أقرَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بوقوعِ الضَّرَر بمجرَّد
نظَر العائن إلى المعيون بغيرِ حِيلةٍ ولا تدبير، وكما أقرَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه
وسلَّم - ذلك فقدْ بيَّن كيفيةَ الوقاية منه قبلَ وقوعِه، وكيفيةَ علاجِه إذا وقَع،
ونُوجِز كِلا الأمرين على النَّحو التالي:
الجانب الأول: الوقاية مِن الحسَد قبلَ وقوعِه - أعاذنا الله منه برحمته -:
وتَنقسِم إلى قِسمين، قِسم على العائِن، وقِسم على المعيون:
أولاً - القِسم الذي على العائِن:
يَجِب على المسلم إذا رأى ما يُعجِبه في نفْسِه، أو أخيه مِن ولد، أو مال، أو
صحَّة، أو غير ذلك فليبرِّك قائلاً:
إنْ كان في أخيه فيقول: ما شاءَ الله لا قُوَّةَ إلاَّ بالله، اللهمَّ بارِكْ له في عِلمِه،
أو مالِه، أو سيَّارتِه، أو حَديقتِه، أو زوجِه، أو ولدِه، أو صحَّته، أو...
وإنْ كان في نفْسه فيقول: ما شاءَ الله لا قُوَّةَ إلاَّ بالله، اللهمَّ بارِكْ لي في
عِلمي، أو مالي، أو سيَّارتي، أو حديقتي، أو زوْجي، أو وَلدي، أو صحَّتي،
أو...
وهذا ما أرشد إليه القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا
شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ﴾[الكهف: 39]، وأرشدتْ إليه السنَّة المطهَّرة،
كما جاءَ في حديثِ محمد بن أبي أُمامةَ بن سَهلِ بن حُنَيف، والذي أنْكَر فيه النبيُّ
- صلَّى الله عليه وسلَّم - على عامرِ بنِ رَبيعةَ أنَّه لم يُبرِّك على سهلٍ إذ
أعجَبَه لَونُ جلدِه.
ثانيًا: القسم الذي على المعيون:
يَجب على المسلِم أن يلتزمَ بأذكارِ الصَّباح والمساء، والنَّوم واليَقظة، والرُّقَى
الشرعيَّة الواردة في كتُب الأذكار؛ إذ فيها - بفضل الله تعالى - الوقايةُ مِن
الحسد.
ومِن هذه الرُّقى على سبيلِ المثال لا الحصْر ما يلي:
عن ابنِ عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَ النبيُّ - صلَّى الله عليه
وسلَّم - يُعوِّذ الحَسَنَ والحُسَين، ويقول: ((إنَّ أباكما كان يُعوِّذ بها
إسماعيلَ وإسحاقَ؛ أُعِيذُكما بكلماتِ الله التَّامَّة، مِن كلِّ شيطانٍ وهامَّة، ومِن كلِّ
عينٍ لامَّة))؛ رواه أحمد والبخاري.
معاني الكلمات:
وهامَّة؛ أي: دابَّة، أو كائِن.
عين لامَّة: حاسِدة لِمَن تراه.
الجانب الثاني - العِلاج من الحسَد إذا وقَع - أعاذنا الله منه برحمته -:
ويَنقسم إلى قِسمين: قَسم على العائِن، وقِسم على المعيون:
القسم الأول - الذي على العائن:
على العائنِ أن يَغتسلَ ويُعطي ماءَ غُسلِه للمعيون، ونذكُر بعضَ الأدلَّة على
ذلك:
1/ أمْر النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعامرٍ أن يتوضَّأ لسهل، راجِع
الحديث آنفًا.
2/ عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه
وسلَّم - قال: ((العينُ حقٌّ، ولو كانَ شيءٌ سابق القدَر سبقتْه العينُ، وإذا
استُغْسِلتُم فاغْسِلوا))؛ رواه أحمد ومسلم.
كما يَجِب عليه أن يَستغفِرَ ويتوب، وأن يَسْتسمِح أخاه أن يَغفرَ له عسى أن يغفرَ
اللهُ له.
القسم الثاني - الذي على المعيون:
أولاً - له أن يَطلُب ممَّن يظن أنَّه هو الذي أصابَه بالعين أن يَغتسلَ له، ومِن
الأدلَّة على ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث السابق: ((
وإذا استُغْسِلتُم فاغْسِلوا))؛ رواه أحمد ومسلم.
ثانيًا - الرقية الشرعية للشفاء من العين:
فإذا لم يَقدِرْ على ذلك؛ إمَّا لأنَّه لا يَعلم تحديدًا مَن الذي أصابَه، أو لرَفْض العائِن
أن يغتسل، أو لحيائِه مِن الطلب أصلاً، أو لغيرِ ذلك، فليقتصرْ على الرُّقية
الشرعيَّة؛ إذ فيها كفاية - إن شاءَ الله تعالى، ونذكُر طرفًا مِن الأدلَّة على
ذلك:
1/ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: "أمَرَني رسولُ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - أو أمَر أن يُستَرْقَى مِن العَين))؛ رواه أحمدُ
والبخاريُّ ومسلم.
2/ عنِ أنسِ بن مالك- رضي الله عنه - قال: "رَخَّص رسولُ الله
- صلَّى الله عليه وسلَّم - في الرُّقيةِ مِن العين، والحُمَة والنَّملة))؛ رواه
أحمد ومسلم.
معاني الكلمات:
النَّملة: قُروحٌ تخرُج في الجَنب.
3/ عن أبى سعيدٍ - رضي الله عنه -: "أنَّ جبريلَ أتَى النبيَّ -
صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا مُحمَّد! اشتكيت؟ فقال: ((نَعَمْ))،
قال: باسمِ الله أَرْقِيك، مِن كلِّ شيءٍ يُؤذِيك، مِن شرِّ كلِّ نفْس، أو عينِ حاسدٍ،
اللهُ يَشفِيك، باسمِ اللهِ أرْقيك))؛ رواه أحمد ومسلم.
الرقية الشرعية:
ونَختصِرها على النحوِ التالي:
1/ يضمُّ الراقي يديه، ثم يَقرأ فيهما ما يَلي:
(الفاتحة/ آية الكرسي/ آخِر آيتين مِن سورة البقرة/ الإخلاص/
الفلق/ الناس/ باسمِ الله أرْقيك، من كلِّ شيءٍ يُؤذيك، من شرِّ كلِّ نفْس، أو
عينِ حاسدٍ، اللهُ يَشفِيك، باسمِ الله أرْقِيك/أُعيذُك بكلماتِ الله التامَّة، من كلِّ
شيطانٍ وهامَّة، ومِن كلِّ عين لامَّة).
2/ ثم يَتْفُل فيهما.
3/ ثم يَمْسَح بهما ما استطاع مِن الجسَد الذي يُريد رُقيتَه.
4/ ثم يُكرِّر هذا العملَ ثلاثَ مرَّات.
5/ هذه الرُّقية كامِلة يَعمَلها مرَّتين في اليوم، صباحًا بعدَ صلاةِ الصبح قبلَ
شروق الشمس، ومساءً قُبيل أذانِ المغرِب بقليل.
ثانيًا - مع مراعاة ما يلي:
1/ مُراعاة الضمائرِ في الكلام:
• فإذا كانَ الرَّاقي يرقي ذَكرًا؛ فيقول: (أَرْقِيكَ/يُؤْذِيكَ /يَشْفِيكَ /
أُعيذكَ).
• وإذا كان الرَّاقي يَرقِي أنثى؛ فيقول: (أَرْقِيكِ/يُؤْذِيكِ /يَشْفِيك /
أُعيذكِ).
• وإذا كان الرَّاقي يرْقي نفسه؛ فيقول: ـ (أَرْقِي نَفْسِي/ يُؤْذِي نفْسِي/
يَشْفِي نفْسِي /أُعيذُ نفْسِي)، أو يقول: (أَرْقِيني/ يُؤْذِيني / يَشْفِيني/
أعيذُني).
2/ لا يَجوز للرَّجُل أن يَرْقي امرأةً أجنبية عنه، ولا للمرأةِ أن تَرْقيَ رَجلاً
أجنبيًّا عنها.
والأجنبي: كلُّ مَن لم يكُن زوجًا، ولا مَحْرَمًا.
والمحارم هم: (الأب/ الجد، ومَن فوقه/ الأخ/ العم/ الخال/
الابن/ الحفيد، ومَن تحتَه/ ابن الأخ/ ابن الأخت/ والد الزوج/ ابن
الزوج/ زَوْج البنت/ زوْج الأب/ مَن سبَقوا مِن الرَّضاعة).
هذا مُلخَّص الوقاية والعِلاج مِن مرَض الحسَد الذي يضرُّ فيه الحاسدُ بعينِه مِن
غيرِ حِيلةٍ ولا تدبير.
وختامًا:
أُذكِّر كلَّ مسلمٍ بخطَر هذه المظلَمة التي تصِل لحدِّ القتْل، كما قال - صلَّى الله
عليه وسلَّم -: ((علامَ يَقتُل أحدُكم أخاه؟!))، نعمْ لا أحدَ يستطيع
مقاضاتَك عليه في الدُّنيا، ولكِن أين أنتَ مِن اللهِ تعالى غدًا؟!
أُذكِّر نفسي وإيَّاك باليسير مِن التحذيرات النبويَّة مِن الظلم، وعاقبته:
1/ عن عبدِالله بن عُمَر - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله
عليه وسلَّم - قال: ((الظُّلْم ظُلُماتٌ يومَ القيامة))؛ رواه أحمد والبخاري
ومسلم.
2/ عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - قال: ((أَتدْرُون ما المُفلِس؟)) قالوا: المفلِس فينا مَن
لا دِرهمَ له ولا متاع، فقال: ((إنَّ المُفلِس مِن أُمَّتي مَن يأتي يومَ القِيامة
بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وسَفَك دمَ
هذا، وضَرَب هذا، فيُعطَى هذا مِن حَسناتِه، وهذا مِن حسناتِه، فإنْ فَنِيتْ حسناتُه
قبلَ أن يَقضي ما عليه، أُخِذ مِن خطاياهم فطُرِحتْ عليه، ثُمَّ طُرِح في النار))؛
رواه أحمد ومسلم.
وراجِع عاقبةَ الظلم تفصيلاً في المصنَّفات الخاصة بذلك، عسى أن تجِدَ فيها
رادعًا لك عن هذه المظلمة العظيمة، والتي وإنْ لم يقاضِك عليها صاحبُها في
مَحكمةِ الدُّنيا، فإنَّه - ولا شك -مُقاضيك عليها غدًا بين يديه - سبحانَه
وتعالى - في مَحكمةٍ قُدسيَّة الأحكامِ والميزانِ.
وإنْ كان فيما ذكرتُه لَرادِع، لِمَن كان له قلبٌ أو ألْقَى السَّمْع وهو شهيد!
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمين.
سُبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أنْ لا إله إلا أنت، أستغفِرك، وأتوبُ إليك.