السعادة الحقيقية
عبد الرحمن بن صالح المحمود
ما أحوجنا جميعا إلى أن نعرف الأسباب التي تؤدي إلى شرح الصدور وفرح القلوب، ما أحوجنا جميعا خصوصا في هذه الأزمنة المتأخرة حيث كثرت الفتن، وكثرت المسائل التي تؤدي إلى غلظ القلوب وضيقها ونكدها، فما أحوجنا جميعا إلى أن نبحث عن تلك الأسباب التي تؤدي بإذن الله - تعالى -إلى شرح الصدور واتساعها، وراحة القلوب واطمئنانها، وتبدأ شرح الصدور بالقدوة بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله - تعالى -لما امتن علينا بتلك المنن العظيمة، بدأها بقوله - تعالى -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح: 1).
يعني أما شرحنا لك صدرك؟ فهو استفهام تقرير بمعنى إنما قد شرحنا لك صدرك، فكيف شرح صدره - صلى الله عليه وسلم -، لقد شرح صدره - عليه السلام - في حالتين حسية ومعنوية، أما الحسية: فقد وقعت في حياته - صلى الله عليه وسلم - مرتان، إحداهما قبل بعثته والأخرى بعد بعثته، حيث شق صدره - صلى الله عليه وسلم - شقا حسيا حقيقيا لا مجال للكلام فيهما، فقد ثبتت الحادثة في صحيح البخاري ومسلم، أما الحادثة الثانية فقد ثبتت أيضا في صحيح البخاري وصحيح مسلم، ومن ثم فلا مجال لإنكار المنكرين، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- ((أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، واستخرج القلب وأخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم، ثم لامه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه أي ظهره ومرضعته، فقالوا إن محمداً قد قتل فاستقبلوه وهو منفقع اللون - صلى الله عليه وسلم -)).
وقال أنس بن مالك: وكنت أرى أثر ذالك المخيط في صدره - عليه الصلاة والسلام -، أما الحادثة الثانية فقد وقعت قبيل حادثة الإسراء والمعراج، وقد ثبت ذالك في الصحيحين وغيرهما، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنهما - أيضاً، روى هذه القصة وهي قصة طويلة، ومما يتعلق منها بموضوعنا قوله ثم جاء ثلاثة نفر فلم يكلموه- أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى احتملوه ووضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منه جبريل فشق جبريل مابين نحره إلى لبتيه، حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب محشوا إيماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغا بيده- يعنى عروق حلقه- ثم أطبقه، ثم أسري به وعرج به إلى السماء - صلى الله عليه وسلم -، كان ذلك هو من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم فلا مجال لمستشرق أو مستغرب أو متعقل يدعي أن ذلك غير ثابت، أو أن ذلك كان معنوياً، وإنما كان ذلك قبل نبوته من إرهاصات النبوة، وبعد نبوته - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك تهيئة للعروج الحقيقي بروحه وبدنه - صلى الله عليه وسلم -، إلى أين؟ إلى السماء، حتى جاوز السبع الطباق بعد إلا سراء به - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى، أما شرح صدره المعنوي: فقد شرح الله له صدره، ونوره وأضاءه، ومن اطلع على سيرته - صلى الله عليه وسلم - ومواقفه جميعاً رأى ذلك الصدر الرحيب منه - صلى الله عليه وسلم -، فكم صبر على أذى قومه، وكم صبر على الدعوة، وكم صبر وكم صبر - صلى الله عليه وسلم -، ووالله ما سيرته من أولها إلى آخرها إلا نور في نور، انشراح صدر تجده منه - صلى الله عليه وسلم - في أحرج المواقف وأصعبها - عليه الصلاة والسلام -، هذا شرح صدره - صلى الله عليه وسلم -، فما بقي لنا نحن أمته من بعده؟ ماذا بقي لنا من هذا الشرح؟ لقد أنزل الله قرآناً يتلى، ورسولاً يبين لنا طرائق الهدى، حتى أصبحت الطريق على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن هنا فإنني سأقف وقفات مع الأسباب التي تشرح الصدور، وأحب أن أقول بادئ ذي بدئ يجب علينا جميعا أن لا نأخذ هذه الأسباب على أنها جوانب فكرية نفهمها فقط بعقولنا، وإنما ينبغي لنا جميعا أن تتحول هذه الأسباب إلى واقع عملي حتى تنشرح صدورنا، وتفرح قلوبنا، وتزول همومنا، ووالله إن كنتم تبحثون عن السعادة لكم ولأهليكم ولأولادكم ولأقاربكم ولعموم المسلمين، ووالله إن السعادة وانشراح الصدر لا يكون إلا بتلك الوسائل التي أنزلها الله وأوحاها على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونبدأ هذه الأسباب فنقول:
أولها: وأعظمها التوحيد لله - تعالى -، التوحيد لله في ربوبيته، في أسمائه وصفاته، في ألوهيته وعبادته تبارك وتعالى، وبحسب كمال ذلك التوحيد وقوته وزيادته، يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله - تعالى -: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) (الزمر: 22).
ولا شك أن التوحيد وخلوصه لله وكماله من أعظم أسباب شرح الصدور، وضد ذالك الضلال والشرك، وهو من أعظم أسباب ضيق الصدر، وانحرافه.
الثاني: نور الإيمان، نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهذا النور يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، وإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه، وأعظم أسباب نور الإيمان التوحيد الخالص لله - تعالى -، ولذالك كانت لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، ولكن دون ذلك شعب كثيرة تقوي الإيمان وتزيده، وتقذف في القلب النور، قال- صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها أماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).
أرأيتم منهج الإسلام، الحياء شعبة من الإيمان أرأيتم كمال الإسلام، أماطة الأذى عن الطريق نور يقذفه الله في قلب العبد فيستنير، فكيف بغير ذلك من الشعب من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وبر الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإحسان إلى الناس، كيف بغير ذلك من الأسباب الكثيرة، فإنها ما إن كانت في خلق العبد وحياته حولت حياته إلى أنوار تقذف في قلبه ليلاً نهار، نسأل الله وإياكم أن نكون من هؤلاء.
ثالثاً: ومن أسباب شرح الصدر العلم النافع، فهو يوسع الصدر حتى يكون أوسع من ذي قبل، والمقصود بالعلم النافع هو الموروث عن المبعوث رحمة للعالمين - صلى الله عليه وسلم -، فإن أهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأطيبهم عيشاً، والمؤمن هو الذي لا يكف عن طلب العلم سواء كان كبيراً أو صغيرا، كم من رجل جاوز الخمسين حفظ القرآن العظيم؟ وكم من عالم لما قرئت ترجمته وجدنا أنه لم يطلب العلم إلا بعد الأربعين، كثير من شبابنا ونرى غالبه كهولاً لا يطلبون العلم أبدا، لا يطلبون العلم مع أنه من أعظم الأسباب التي تعين على نور القلوب، ولقد كان السلف الصالح- رحمهم الله - تعالى- يطلبون العلم وهم أشياخ، حتى أن الواحد منهم كان يتعلم العلم ويطلبه وهو في مرض وفاته، بل بعضهم في السكرات.
الرابع: من الأسباب التي تعين بإذن الله على شرح الصدور، الإنابة إلى الله - تعالى -ومحبته بكل قلب، والإقبال عليه - تعالى -، والتنعم بعبادته، وهذا من أعظم أسباب شرح الصدور، حتى قال بعض العابدين وهو يجد هذه اللذة العظيمة في طاعته وعبادته، ومحبته لله، يقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم الذي أنا فيه الآن إنهم لفي عيش طيب، فأي صدر أوسع وأشرح من صدر أمام عابد يقول هذا الكلام، معبراً عما يجد من لذة العبادة والطاعة، والمحبة لله رب العالمين، قال بن القيم- رحمه الله -: (وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح، وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن..، رحمك الله يا ابن القيم لقد انعكست الموازين في زماننا، فصار ضيق الصدر بالقرآن وبالصلاة، وصار ضيق الصدر بطاعة الرحمن، أما انشراح الصدر فبالملاهي واللعب، وبالسهر مع البطالين، ألا رحمك الله يا ابن القيم ووفقنا جميعا إلى أن نتعض ونعتبر، إن من أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله - تعالى -، ويكفي قول الله - تعالى -: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)) (طه: 124).
وهذا الإعراض يكون للفرد وللأمة، يكون للفرد، فإذا وقع منه الإعراض حولت حياته إلى نكد، ويكون للأمة إذا أعرضت عن الله - تعالى -تحول جسدها إلى بغض وتناحر وتطاحن، الإعراض عن الله، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره ومحبة سواه، كل ذالك من أعظم أسباب ضيق الصدر، فإن من أحب شيئاً غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذالك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أتفه ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، انظروا إلى من تعلق بالدنيا، انظروا إلى من تعلق بامرأة غامد، انظروا إلى من تعلق بالملاهي، انظروا إلى تعلق هؤلاء واسألوا عنهم، اسألوا عنه وعن عيشه، إنها الغفلة عن الله تولد الحشرجة وضيق الصدور، علينا أن نعتبر ونتعض، علينا أن نبحث عن السعادة والسلامة لصدورنا، علينا أن نبحث عن انشراح الصدر وأسبابه حتى تنشرح صدورنا في الدنيا، وتطمئن قلوبنا يوم البعث والنشور، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هؤلاء، وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب عظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم