لطيفة من معاريض السلف للوقاية من العين
فتح الباري شرح صحيح البخاري
كتاب الأدب
باب المعاريض مندوحة عن الكذب
باب المعاريض مندوحة عن الكذب
وقال إسحاق سمعت أنسا مات ابن لأبي طلحة فقال : كيف الغلام ؟ قالت أم سليم : هدأ نفسه وأرجو أن يكون قد استراح ، وظن أنها صادقة .
5856 حدثنا آدم حدثنا شعبة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له فحدا الحادي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارفق يا أنجشة ويحك بالقوارير .
قوله : ( باب ) بالتنوين ( المعاريض ) وقع عند ابن التين المعارض بغير ياء وصوابه بإثبات الياء قال : وثبت كذلك في رواية أبي ذر وهو من التعريض خلاف التصريح .
قوله : ( مندوحة ) بوزن مفعولة بنون ومهملة أي فسحة ومتسع ، ندحت الشيء وسعته وانتدح فلان بكذا اتسع وانتدحت الغنم في مرابضها إذا اتسعت من البطنة ، والمعنى أن في المعاريض ما يغني عن الكذب .
وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه المصنف في " الأدب المفرد " من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال : صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعرا وقال : إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب .
وأخرجه الطبري في " التهذيب " والطبراني في " الكبير " ورجاله ثقات . وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه ، وأخرجه أبو بكر بن كامل في فوائده والبيهقي في الشعب من طريقه كذلك ، وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي مرفوعا بسند واه أيضا ، وللمصنف في " الأدب المفرد " من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال : أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب ؟
والمعاريض والمعارض بإثبات الياء أو بحذفها كما تقدم جمع معراض من التعريض بالقول ، قال الجوهري : هو خلاف التصريح ، وهو التورية بالشيء عن الشيء .
وقال الراغب : التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب ، أو باطن وظاهر .
قلت : والأولى أن يقال : كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه . ومما يكثر السؤال عنه الفرق بين التعريض والكناية وللشيخ تقي الدين السبكي جزء جمعه في ذلك .
قوله : ( وقال إسحاق ) هو ابن أبي طلحة التابعي المشهور ، وهذا التعليق سقط من رواية النسفي ، وهو طرف من حديث طويل أخرجه المصنف في الجنائز ، وشاهد الترجمة منه قول أم سليم " هدأ نفسه ; وأرجو أن قد استراح " فإن أبا طلحة فهم من ذلك أن الصبي المريض تعافى ; لأن قولها " هدأ " مهموز بوزن سكن ومعناه ، والنفس بفتح الفاء مشعر بالنوم ، والعليل إذا نام أشعر بزوال مرضه أو خفته ، وأرادت هي أنه انقطع بالكلية بالموت ، وذلك قولها " وأرجو أنه استراح " فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية ، ومرادها أنه استراح من نكد الدنيا وألم المرض ، فهي صادقة باعتبار مرادها ، وخبرها بذلك غير مطابق للأمر الذي فهمه أبو طلحة ، فمن ثم قال الراوي " وظن أنها صادقة " أي باعتبار ما فهم هو .
حديث أنس في قصة أنجشة وقد تقدم شرحه في " باب ما يجوز من الشعر " والمراد منه قوله رفقا بالقوارير فإنه كنى بذلك عن النساء كما تقدم تقريره هناك ، وحديث أنس في فرس أبي طلحة والمراد منه " إنا وجدناه لبحرا " أي لسرعة جريه ، وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد ، وكأنه استشهد بحديثي أنس لجواز التعريض ، والجامع بين التعريض ، وبين ما دل عليه اللفظ في غير ما وضع له لمعنى جامع بينهما .
قال ابن المنير : حديث القوارير والفرس ليسا من المعاريض بل من المجاز ، فكأنه لما رأى ذلك جائزا قال : فالمعاريض التي هي حقيقة أولى بالجواز .
قال ابن بطال : شبه جري الفرس بالبحر إشارة إلى أنه لا ينقطع ، يعني ثم أطلق صفة الجري على نفس الفرس مجازا ، قال : وهذا أصل في جواز استعمال المعاريض ، ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل الحق ، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز .
وأخرج الطبري من طريق محمد بن سيرين قال " كان رجل من باهلة عيونا - أي كثير الإصابة بالعين - فرأى بغلة لشريح فأعجب بها ، فخشي شريح عليها فقال :
إنها إذا ربضت لا تقوم حتى تُقامَ ،
فقال : أف أف ،
فسلمت منه "
وإنما أراد شريح بقوله " حتى تقام " أي حتى يقيمها الله - تعالى - .