المسافة بين القول والعمل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم ... أما بعد .
كثيرون يعتبرون مجرد انتحالهم لاسم الإسلام كافياً لتحقيق أمانِيِّهِمْ ، ولا شيء وراء ذلك .
إنك تعجب حقاً ، هذا الدين الذي حملت مضامينه تلك الحفاوة الشديدة بالعمل ، وربطت كل أسباب التوفيق والسعادة به ، ونزعت عن تاركيه كل صفات الخيرية ..
ثم يطول الأمل ، وتقسو القلوب ، ويصبح المسلم في حاجة إلى من يذكره، ويؤكد له أن مجرد انتحال الاسم لا يعني شيئاً ، ولا يغني شيئاً .
هل مجرد إدعاء الإنسان أنه عاقل - مثلاً - أو غني ، أو قوي ، أو صحيح البنية ، أو عالم أو سعيد ، أو .. أو .. يجعله كذلك ؟ أو يغير من واقعه شيئاً ؟ إن مجرد الأمانيّ العابرة ، والأحلام الطائرة ، لا تنفع ولا تدفع ، إذا لم تكن زاداً ووَقُوداً لفعل الأسباب الشرعية والطبعية ، واجتناب الموانع والعوائق والأوهام .
فدعوى ( الإسلام ) ، أو ( السنة ) ، أو( الحديث ) ، أو ( السَّلفية ) ، أو ( الاتِّباع ) .... معيارها صدق التمثل والعمل ، والالتزام الحقيقي ظاهراً وباطناً.
وهنا لابدّ من التفطن لثلاثة أمور :
أولها: إن هناك الأدعياء الذين يكتفون بالاسم ، ورفع الشعار ، ثم ينامون قريري العيون .
ثانيها : إن هناك من يطبق فهماً منقوصاً سبق إلى ذهنه ، وظنه هو الحق ، فهناك من يرى الإسلام عبادةً فحسب ، أو زهداً فحسب ، أو قتالاً فحسب ، أو ما شاء له تصوره ... ويتمسك بهذا ، معرضاً عما سواه ، وقد يرى الإسلام مظهراً وشكلاً مجرداً دون مضمون حقيقي .
ثالثها : إن هناك من يفهم الأمر على حقيقته ، لكنه لا يعمل به ، وهاهنا ؛ لا مشكلة في الفهم والإدراك ، لكن المشكلة في التنفيذ .
إن هناك أسماءً صحيحةً ، وعناوين مقبولة ، لكنَّ مجردَ التَّسَمِّي بها لا يفيد حتى يُضافَ إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى ، وإلا كان تزكية للنفس بغير حق. وكثيراً ما يستمسك الناس بالاسم ، بل ويتعصبون له ، ويغضبون ممن ينفيه عنهم ، لكنهم يمعنون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة .
وقد كانت آيات القرآن الكريم حاسمة في هذا المقام . قال تعالى :"ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ،ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " النص واضح وصريح ، الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي ، ولو كانت شريفة وصحيحة في ذاتها ، حتى يقترن بها العمل ، الميزان مرتبط ب " من يعمل ... "، أو " من يعمل ... " ولهذا كان بعض السلف يقولون : إن هذه أخوف آية في كتاب الله -تعالى- .
يقول الحافظ ابن كثير : " والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ، ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقته الأعمال , وليس كلُّ من ادعى شيئاً ، حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان " ( 1 / 557 ) وكلمة الحسن البصري - رحمه الله - مشهورة ، وهي التي ساقها ابن كثير في صدر كلامه السابق .
ثم ؛ هذه الأسماء التي يدعيها المدعون ، ينبغي فرزها إلى صنفين متمايزين :
الصنف الأول : أسماء وانتسابات مشروعة مطلقاً ، والنسبة إليها هي من باب تقرير الواقع ، والاعتراف به ، وإعلانه ، وذلك مثل قول المسلم : أنا المسلم ، والحمد لله . فهذا انتساب محمود بكل حال ، وانتماء شريف عظيم ، وواجب على قائله تأييد قوله بفعله .
الصنف الثاني : أسماء وانتسابات شريفة في نفسها لكن لا ينبغي تزكية النفس بها مطلقاً ، ولا ادعاء تحصيلها ، مما يوهم كمال الإنسان ، واستيلاءه على الذروة العليا ، ومنها لفظ الإيمان ، فلا يحسن بالمرء أن يقول : أنا مؤمن ، على سبيل التزكية ، والثناء على النفس ، ولذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله - : أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان ؛ لأن الإيمان قول وعمل ، فقد جئنا بالقول ، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل فيعجبني أن نستثني في الإيمان ، نقول : أنا مؤمن إن شاء الله –تعالى- . وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه الإمام هو ما رواه ابن أبي شيبة ( الإيمان 90) وأبو عبيد ( الإيمان 17 ) أنه قال : من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة .
وفي لفظ عن الإمام أحمد أنه قال : أنا مؤمن -إن شاء الله- ومؤمن أرجو ، لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال ، على ما افتُرِضَ عليه أم لا . واننظر بقييية الروايات عن أحمد في المسائل والرسائل بتنسيق وتحقيق : عبد الإله الأحمدي ( 1 / 117 - 125 ).
وذلك أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله ، وترك ما نهى الله عنه كله ، فإذا قال : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار ، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بفعل جميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، فهو من أولياء الله ، وهو من أهل الجنة ، كما قال ابن مسعود ( وانظر : فتاوى ابن تيمية 7 / 446 ) . إذاً فترجيح الاستثناء ، كأن يقول : أنا مؤمن -إن شاء الله- ، أو أرجو أنني مؤمن ، هو من باب نفي التزكية عن النفس ، وعدم دعوى الإيمان المطلق ، ولهذا لا يحسن بأحدٍ أن يقول : أنا مؤمن حقاً ، أو قطعاً ، أو أَلبتة ، أو عند الله .. لما يشعر ذلك به من دعوى الكمال ، وتزكية النفس بالأقوال دون الأعمال , هذا مع أن لفظ الإيمان لفظ شرعي ، وقد جاء في القرآن الكريم : " قولوا ( آمنا) .." "(ربنا آمنا) ..." "( إني آمنت بربكم )" الخ ، فما بالك بالألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في نص كتاب أو سنة ، والتي تحمل معنى التزكية المطلقة ، كلفظة (أنا سلفي) - على سبيل التمثيل- أليست أولى بالتقييد والضبط ؟ أليست السَّلفية قولاً وفعلاً ؟ أليست منهجاً وسلوكاً ؟ هل أضمن أنني أفهم ما كان عليه السَّلف من المعاني، والأعمال، والأقوال، والأحوال ؟ أم أضمن إذ فهمتها أنني تمثلتها في واقع حياتي، حتى حق لي أن انتحل النسبة الشريفة هذه ؟
أما حين تكون المسألة بيان حال ، أو تقرير واقع في جانب معين ، فالأمر يختلف ، كأن يقول : أنا على طريقة السلف في الإيمان ، أو على طريقة السلف في الأسماء والصفات ، أو على طريقتهم في الاعتقاد .. فهذا لا بأس به عندي ، والله أعلم .
والخلاصة أن المؤمنين يجب أن يُراعوا أهمية العمل والتحقيق ، وليس مجرد الانتساب والدعوى .
فمتى يعي المسلمون هذا ؟ ومتى يعي طلبة العلم والمنتسبون إلى الدعوة أن التفاخر بالنسبة لا يجدي شيئاً ، حتى يقترن بالعمل ؟ وأن التزكية الشرعية ليست بادعاء وصفٍ محمود ، يصدق أو لا يصدق ، بل بالتحلي بنقاء السريرة ، وصفاء السيرة ، وصلاح العمل ، وتدارك العيب ، وحسن الخلق والإنحاء على النفس بالملامة ، وكمال الصدق مع الله .
قال الله تعالى: " هذا يومُ ينفع الصادقين صِدْقُهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم" .
كاتب المقال: الشيخ/ سلمان العودة
المصدر: الإسلام اليوم