تعظيم السلف للسنة النبوية
إبراهيم بن محمد الحقيل
كان من توقير السلف الصالح رحمهم الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:تعظيمهم لسنته، والعناية بها، وتقديمها على أقوال الرجال وآرائهم مهما بلغت علومهم، وعلت منازلهم، وما من إمام متبوع من أصحاب المذاهب المشهورة إلا ويعلن في أتباعه وتلامذته أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي مذهبه، وأن أي قول له يخالف السنة فهو يبرأ إلى الله تعالى منه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني)(15)، وقال أيضاً: (إذا وجدتم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فخذوا بالسنة ، ودعوا قولي فإني أقول بها)(16).
وذَكَر الشافعي رحمه الله تعالى حديثاً فقال له رجل: تأخذُ به يا أبا عبد الله ؟ فقال: أفي الكنيسة أنا ؟! أوَ ترى على وسطي زُنَّاراً؟! نعم أقول به ، وكلما بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت به)(17).
وروى الربيع بن سليمان رحمه الله تعالى فقال: (سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال له: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة كذا وكذا ، فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به ؟ قال الربيع: فرأيت الشافعي أرعد وانتفض وقال: يا هذا، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلم أقل به ، نعم على الرأس والعينين ، على الرأس والعينين )(18).
فما زنة هذا الكلام المتين من هذا الإمام الكبير عند من يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي رآه ، أو هوى ابتغاه ؟!
وبعد أيها القارئ الكريم: فهكذا كان حال أسلافنا من التابعين وتابعيهم ، وكبار العلماء المتبوعين، والأئمة المهديين ؛ توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتعظيماً لحديثه، وأداء لحقوقه عليهم ، وأخبارهم في ذلك تعز على الحصر ، وتستعصي على الجمع ، من كثرتها وتنوعها، والقاسم المشترك بينها هو: معرفة أسلافنا رحمهم الله تعالى لقدر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإدراكهم لمنة الله تعالى عليهم إذ بعثه فيهم: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )(الجمعة:2), فكانوا بتوقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم حديثه ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه من المفلحين الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم بقوله سبحانه: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الأعراف : 157 ).
مقارنة فعل الخلف بفعل السلف
رأينا في ما مضى العجب العجاب من توقير سلفنا الصالح للنبي عليه الصلاة والسلام، واحتفائهم به، وعنايتهم بسنته، والقضاء بها على أقوالهم وآرائهم مهما كانت، ومن نظر إلى حال كثير من الخلف يجد أنهم لم يوقروا النبي عليه الصلاة والسلام، ولا رفعوا رأساً بسنته، بل قدم كثير منهم أقوال الرجال، بل آراء الكفار وتخبطاتهم على السنة النبوية، وها هنا أسئلة توضح ذلك:
1- هل وقرَّ النبي عليه الصلاة والسلام من عبدوه من دون الله تعالى بدعائه، والتوسل به، وخلع صفات الربوبية عليه، والغلو في مديحه بالقصائد وغيرها، واعتقاد أنه يملك النفع والضر من دون الله تعالى، والله تعالى قد خاطبه بقوله سبحانه (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف:188 وعن عُمَرَ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النَّصَارَى بن مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أنا عَبْدُهُ فَقُولُوا عبد اللَّهِ وَرَسُولُهُ"(19) فلا يحل لمسلم أن يجفوه ويجفو سنته، كما لا يحل له أن يغلو فيه عليه الصلاة والسلام، فيرفعه فوق المنزلة التي أنزلها الله تعالى إياه، وهي كونه (عبد الله ورسوله).
2-هل وقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وعظم سنته ، واتبع شريعته ، من غيَّر دين الله تعالى، ولوى أعناق النصوص المحكمة الواضحة أو تأولها، ليوافق بها أهواء البشر ومرادهم؛ لجاه يبتغيه ، أو مال يطلبه ، أو دنياً يريدها ، وما أكثرهم في هذا الزمن ؛ إذ أيسر شيء على الواحد منهم أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبدل دين الله تعالى ؛ اتباعاً لهواه وهوى من يطلب رضاهم من البشر دون رضا الله تعالى.
وهؤلاء هم المبدلون المغيرون الذين يُذادون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم يرده الثابتون على دينهم ، وفيهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا على حوضي أنتظر من يرد علي ، فيؤخذ بناس من دوني فأقول: أمتي ؟! فيقول: لا تدري ، مشوا على القهقري"، قال ابن أبي مليكة: "اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن" (20), وفي رواية: " فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك ، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي " (21).
3-هل وقر النبي صلى الله عليه وسلم من يسخرون بسنته ، ويطالبون باطراح دينه ، ويسعون سعياً حثيثاً في صرف الناس عنه إلى مناهج ملاحدة الشرق والغرب ، وما أكثرهم في أهل الصحافة والإعلام ، الذين يحتفون بالزنادقة والملحدين والمنافقين والمرتدين أكثر من احتفائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويقضون بأقوالهم الكفرية على النصوص المعصومة من الكتاب والسنة، ويدّعون أنهم يدعون إلى إسلام حضاري ليبرالي متسامح ، وما يدعون والله إلا إلى إلحاد الغرب وكفرهم وفسادهم وانحلالهم.
4- هل وقرّ النبي صلى الله عليه وسلم من سخر بشيء من هديه في الهيئة واللباس كتقصير الثياب وإكرام اللحى وإعفائها، وكثير ممن يسخرون بهذا الهدي النبوي المبارك يزعمون أنهم إنما يسخرون بالأشخاص لا بالهدي النبوي، ثم نراهم يحتفون بمن انتكس بعد الاستقامة، وزاغ بعد الهداية، ونزع مظاهر السنة من سمته وهيئته ، ويعظمونه ويقدمونه ، ويختصونه بالرعاية الإعلامية ، ويفتحون له المجالات الصحفية ، وإذ ذاك لم تكن سخريتهم بالأشخاص وإنما كانت بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
5-هل وقر النبي صلى الله عليه وسلم من حاد عن طريقته، واستدرك عليه في شريعته، وابتدع في دينه ما ليس منه، وترك من السنة بقدر بدعته ، كمن يحيون الموالد، ويختصون بعض الليالي بفضل وعبادات لم ترد في الكتاب ولا في السنة ، ومن ذلك ما يفعله كثير منهم في هذه الأزمنة من الاحتفال بالمولد النبوي، والإسراء والمعراج، والهجرة النبوية، ورأس السنة الهجرية، وليلة النصف من شعبان، وتخصيص ليلتها بالقيام، ويومها بالصيام، مخالفين بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، مبتدعين في دينه ما ليس منه. والله تعالى يقول: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ] آل عمران:32 (آل عمران 31-32) .
فكل هذه الأصناف من الأمة ما وقروا النبي عليه الصلاة والسلام إما جهلاً منهم بحقه وشريعته، أو عناداً واستكباراً سببه التعصب لشيخ أو طائفة، أو عدم إيمان به وبما جاء به عليه الصلاة والسلام، نسأل الله تعالى العافية والسلامة لنا وللمسلمين أجمعين.
المصدر
http://www.almenhaj.net/makal.php?linkid=2031
مجلة الجندي المسلم
العدد 132
أخوكم ومحبكم في الله أبومعاذ شاكر الرويلي