لا أدري ما الذي جعلني أفكّر وانا أجلس بين حيواناتي الصديقة المفضّلة من عنز وماعز وخرفان وبقر وغنم ، بأن هناك خيط من ذاكرتي القديمة قد بدأ يطفو على سطح أيامي هذه ، ويستعد للظهور..
فأدراج ذاكرتي الخرافية ، تعمّها الفوضى ، والملفات ضائعة أوراقها بين ألف قضية وقضية ، وأحتاج الى عمر جديد آخر لترتيب هذه الفوضى الدماغية ...
توقفت برهة عن التفكير والإلحاح على هذه الصور الخيالية للظهور،
خوفا من بعثرتها مجددا في متاهات تفكيري ، وإضاعتها في تلك الدهاليز الخفية من عقلي وفقدانها الى الأبد....
وسرعان ما اجتمعت الأوراق المحفوظة كيفما كان في أرشيف ذهني ، وطفت على سطح ذاكرتي لتحيك قصّة عجيبة .
لا أعرف كيف لم أتذكرها قبل الآن ، وأنا منذ فترة طويلة اتنقل يوميا ، بين ساحات منتدى للرقية.
قصّة عائلة صديقة طفولتي والتي كانت تتكون من عدد كبير من الإناث، بين إستهجان ونظرات الآخرين وألسنتهم السليطة ...
مسكين فلان لم يرزقه الله بالذرية !،
كنت أتعجب كثيرا من سماع هذه العبارة ، كيف ؟
إلى أن فهمت بعد عدة سنوات أنّ من لا ذكور لديه ، يوضع تحت اللائحة السوداء ، شأنه شأن من لا نسل له.
وأمام هذه الحقيقة التي كان الوالد المسكين مضطر الى مواجهتها كل ثانية،
أشفق عليه البعض من نار الألسنة الفضولية الجشعة وأطلقوا عليه كنية خيالية ( أبا محمد )،
وربما أرضاه هذا اللقب ، تعويضا وحلما وأملا ، سعت زوجته الى تحقيقه بكل سنوات عمرها ، فودّعت الحياة وهي تضع مولودتها الأخيرة.
مرت الأيام وأصبحت كبرى الإناث في سن الزواج ، وبدأ الخطّاب بطرق الأبواب ومقابلة الرفض واحدا تلو الآخر ، لربما يجد أبو محمد تنفيسا له في طرد الخطاب لِما عاناه قديما من الرفض الإجتماعي بسبب نسله المفتقد إلى عنصر الذكورة.
ولكن هل يُقنع هذا نساء العائلة اللواتي انتابهنّ القلق الشديد سرّا من إحتمالية ألا تتزوج ، وقد وصلت الآن الى سن الثامنة عشرة ، ( فتصريح المرأة بالرغبة في الزواج عيب كبير وهذا من الأعراف التي لا غُبار عليها ) ؟؟
وسنّ الثامنة عشرة للفتاة ، مرحلة مفزعة تتراءى خلفها أشباح العنوسة في مجتمع لا يرحم المرأة ما لم تكنْ في كنف زوج.
عُقدت الاجتماعات السرّية المغلقة بين كبيرات السن في العائلة ، وخرجن من هذه الحلقات بقرار لا رجعة فيه ، ( يجب وفورا التوجّه الى الشيخ فُلان ليعالج الأمر ).
وشاركنا ونحن في السادسة من العمر في هذه الحملة المتوجهة الى الشيخ المعالج،
لا مشكلة أبدا ... الأمور كلها تُناقش أمامنا ... لا أحد يهتم بما يجب ان نسمعه وما لا يجب أن نسمعه في هذه المرحلة العمرية المبكّرة ، فهناك أزمة يجب ان تجد حلاّ بأسرع ما يُمكن.
كان أغلب ما يداعب خيالنا أنا وصديقتي ، كروم العنب والتين التي طالما سمعنا عن جمالها في تلك القرية، والتي هربنا بصورها الجميلة التي زرعناها في مخيلتنا عن تلك الأمور المخيفة التي قالتها نساء القرية حول السحر والتي عجز ذهننا الصغير عن استيعابها .
ذهبنا بربطة السيدات الكبيرات العارفات ببواطن الأمور ، واللواتي تلصّصن للخروج وعلى وجوههن نظرات جدّية صارمة، و كأنهن مُقبلات على عملية استشهادية ستعيد شرف الأمة ، وتعيد الأمور الى نصابها الحقيقي،
كانت هناك استفهامات كثيرة في رأسي ، لماذا لا يبتسمن قليلا ونحن ذاهبات الى تلك الرحلة الجميلة ؟
وصلنا الى معقل الشيخ المشهود له بتزويج أكبر عدد ممكن من فتيات القرية الميئوس من حالتهن !
وشاهدنا جموعا وأرتالا من البشر في الخارج تنتظر دورها .
جلسنا في أحدى الزوايا ننتظر كالآخرين ، إلى ان جاء دورنا ودخلنا مقرّ العلاج،
حيث كانت الغرفة شبيهة بالمغارات القديمة، والتي كانت من الأساسيات المرافقة لبناء الدور ، لكثرة الحروب التي تُقام بين القبائل والعائلات ، لأسباب وجيهة ( أحيانا ) ، وبلا أسباب ( غالبا ) .
أبقوا باب المغارة مفتوحا أمام الجموع، شهادة على حسن أخلاق الشيخ ،
وجاءت بناته لتقديم الشاي لنا ، أحسست طعمه غريب وكدت أستفرغ ، ولكنني كتمت ما في جوفي خوفا من الإخلال بآداب الجلوس ، ففي غمرة هذه الأزمة المنتظرة خارجا كان لطفا كبيرا ان يقوموا بواجبات الضيافة لكل هذه الجموع الزائرة !
قالت إحداهنّ : تفضلوا الشاي إلى أن يأتي أبي.
وبعد مدّة قصيرة ، جاء الأب الشيخ محمّلا بين أيدي أبنائه عن اليمين وعن الشمال ، فلربما كان مُقعدا او مبتور الساق أو شيء من هذا ، وكان معروفا بيننا أنه لا بد ان يقترن لقب ( شيخ ) بعاهة من هذا القبيل، فما كان يُقال لنا ، ان هذا النوع من الناس يكافئه الله ويعوّضه عن عاهته ، فيعطيه قوى روحية للإستبصار وعلاج كافة الأمور المستعصية ، لذا فقد كان منظر الشيخ موافقا لما ارتسم في أذهاننا عن كيف يجب ان يكون الشيوخ !
ثم همهم الشيخ بشيء الى أحد أبنائه ، فقال الابن : أين هي المقصودة ، تعالي إجلسي أمام الشيخ وكلكن إجلسن حولها.
جلسنا كلنا متلاصقات مُحيطات بها ، ووضع الشيخ كفّه على رأسها وانطلق يهذي بكلمات غير مفهومة
فهو كما يُقال ( مَعْطي ) ولا بد أنه يعرف تماما ما يقوم به ، ويفهم أنّ هذا هو العلاج !، وهذا شيء لا يمكننا ان نفهمه ،
ثمّ تغيّرت ملامح الشيخ فجأة واهتزت لحيته الطويلة البيضاء، وبدأ يلعن ويسبّ ويشتم ويبصق.
كانت اللعنات تتساقط فوق رؤوسنا ورذاذ بصاقه يملأ وجوهنا ، والسيدات الحازمات صابرات لا يأتين بأي حركة ،وكأنهن يستقبلن وابل من البركات !
رفعت يدي لأمسح القرف عن وجهي ، فلكزتني إحدى السيدات الجالسة بجانبي ورمقتني بنظرة معناها أنّ ما فعلته ( قلّة أدب ) في حضرة الشيخ ( المعطي ).
فاستجبتُ بعد ان خفت من أن يتم طردي من مغارة الألغاز العجيبة ،
وتركت البصاق يجفّ على وجهي وأنا أقول لنفسي ...مؤكّد أن هذا هو العلاج !
وبعد أن أخرج ما في جعبته من شتائم لأشخاص لا نعرفهم ، وبعد أن جفّ ريقه من كثرة البصاق، أشار الى أبنائه بإيماءة ، فحملوه ليجلس أمام طاولة مستديرة، وهمهم في أذن أحد أبنائه الذي انبرى يترجم ما قاله الشيخ عن تشخيص الحالة ، سحر معقود مربوط في رأس عنزة !
حقدت وقتها على الشيخ الكثير الشتائم ، كثير البصاق ، في أن يورّط عنزة مسكينة في موضوع زواج لا تفقه منه شيئا،
وسأل الإبن انْ كنا نريد أن يباشر الشيخ في تحضير العلاج ، فبادرته إحدى السيدات طبعا ، بركاتك يا شيخ .
فأخرج ورقا وبدأ يسجّل أشياءَ غريبة ، وخطوط وأسهم وكلمات غير مفهومة ، لفّها ببعضها وألصقها بإحكام ، وأوصى أن لا يتم خلع هذا الحجاب أبدا إلا بعد ثلاثة شهور ، حين يتم الزواج !
ثم حضّر الكثير من العبوّات ، كانت حبرا أزرق، أو هكذا خُيّل لي ، وأوصى الفتاة بشرب كأس كبيرة منها في الصباح وعلى الريق ، لمدة ثلاثة أشهر ( حتى يتم الزواج ).
وبدافع الفضول تذوقت قطرة منها خلسة عن الشيخ ، فكانت فعلا حبرا ! فقلت ..لربما هو العلاج !
ثم قامت كبرى السيدات بأمور الحساب دون نقاش أبدا ، ليس كعادتها الأزلية في مفاصلة البقّال على أي قرش !
وقدّمت النقود الملفوفة إلى الشيخ وكأنها تقدّم قربانا لآلهة ، ترجو أن تتقبلها منها .
لم أتوقع أبدا أن أخرج من هذه القرية بعد زيارة المغارة العجيبة والخروج منها محملة بالشتائم والبصاق والأحبار ، وقد كنت أتخيل أن ( أغطس في كروم العنب والتين ) وأحمل منها الثمار الشهية.
انتقلت عائلتي بعدها للسكن في مكان آخر ،
ولم أعرف ماذا حلّ بالفتاة بعد ثلاثة أشهر ، وماذا كان من أمر العلاج !