التداوي بالرقى دراسة فقهية معاصرة
</U>د.عبود بن على بن عائض درع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدهُ ورسولُه.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(1).
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا(2).
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا(3). يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما(4).
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار(1).
وبعد، فإن موضوع التداوي بالرقى من الموضوعات المهمة في هذا العصر، التي يحتاج إليها كثير من الناس، وبخاصة بعد أن انتشرت مراكز العلاج بالرقى، وكثر من أقحم نفسه في معالجة الناس بها دون أن يعرف أصول التداوي بها، والضوابط الشرعية لها. وكثر المترددون على تلك المراكز، وتهافتوا عليها من غير معرفة حقيقية للغث والسمين منها. فكتبت هذا البحث لبيان حقيقة التداوي بالرقى، وأحكامه الشرعية، وضوابط التداوي بها، مع ذكر بعض الممارسات الخاطئة التي نراها ونلاحظها.
تمهيد:تعريف التداوي
التداوي لغة: مصدر تداوى: أي تناول الدواء، وهو مأخوذ من داواه عالجه(2) وجمع الدواء: أدوية. وهو: "اسم لما استعمل لقصد إزالة المرض والألم"(3) ويطلق على المرض الداء، وهو مصدر من داء الرجل يداوى، وفي لغة: دوى يدوى دوى. وجمع الداء: أدواء. وهو: "علة تحصل بغلبة بعض الأخلاط على بعض"(4).
والتداوي لا يخرج في استعمال الفقهاء عن المعنى اللغوي له، فهو: "استعمال ما يكون به شفاء المرض بإذن الله من عقار (طبي) أو رقية، أو علاج طبيعي: كالتمسيد ونحوه"(1).
المبحث الأول: حكم التداوي من الأمراض
لما كان حفظ النفس من أهم الضرورات الشرعية اللازمة، فقد اقتضى هذا اتباع مختلف الأسباب التي تؤدي لهذا الحفظ؛ فالإنسان - ولله المثل الأعلى - عندما يغرس الشجرة وأنواع النبات يتعهدها بالماء، ويعمل على حفظها من الآفات، وعندما يبني البناء يتعهده بما يلزمه من المواد الضرورية كي يبقى سليماً من التصدع والسقوط، وإذا كان هذا في عالم المادة فهو آكد وأوجب في عالم الإنسان؛ فالنفس في مراحلها تواجه الكثير من العوارض المرضية التي تتولد من الغذاء، أو من البيئة، أو من العلل المصاحبة لوجودها.
وهذه العوارض والعلل تتنوع شدة وضعفاً، وقد قدّر الله للإنسان أجله فلا يتقدمه أو يتأخره، وفي هذا قال عز وجل: ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون(2).
ولكن حكمته -عز وجل- اقتضت أن يكون للإنسان إرادة في إصلاح نفسه بما ينفعه في دينه ودنياه، وفي هذا قال تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها(3).
والعمل الصالح في إطلاقه يقتضي ما فيه نفع الإنسان في دينه ودنياه؛ فمداواته نفسه من الأمراض والعلل يعد إصلاحاً وقواماً لها في أمور الدين والدنيا معاً؛ فالمريض لا يقدر على كسب رزقه ورزق ولده، والمريض لا يؤدي واجباته الدينية مثلما يؤديها السليم في نفسه، وهذه المداواة إن لم تكن من الواجبات - على رأي من يقول ذلك - فهي من المقاصد الشرعية؛ لأن الإنسان ملزم بحفظ نفسه، ومن حفظها مداواتها عندما تتعرض لعارض أو علة(1).
والأصل في التداوي الكتاب، والسنة، والمعقول، أما الكتاب فأذكر هنا ما قاله الإمام الحافظ ابن حجر بأن مدار الطب على ثلاثة أشياء:
- حفظ الصحة.
- الاحتماء عن المؤذي.
- استفراغ المادة الفاسدة.
وقد أشير إلى هذه الأشياء في كتاب الله:
فالأول: (حفظ الصحة) قول الله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على" سفر فعدة من أيام أخر(2). وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد، وكذا القول في المرض.
الثاني: وهو الحمية من قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم(1). فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد.
أما الثالث: فقول الله تعالى: أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك(2). فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس(3).
أما السنة فقد حث رسول الله على التداوي من الأمراض والعلل، حيث روى جابر بن عبد الله أنه قال: (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عزوجل)(4). وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)(5).
وفي حديث ابن مسعود مرفوعاً: (إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)(6).
وفي حديث أسامة بن شريك أنه بينما كان عند النبي جاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: (نعم: يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد) قالوا: وما هو؟ قال: (الهرم)(1). وفي حديث أبي الدرداء مرفوعاً أن رسول الله قال: (إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام)(2).
وفي حديث أبي خزامة: قلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: (هي من قدر الله)(3). وفي حديث زيد بن أسلم مرسلاً أن النبي قال لرجلين: (أيكما أطب؟) قالا: وفي الطب خير؟ قال: (أنزل الداء الذي أنزل الدواء)(4).
وفي هذه الأحاديث إخبار وأمر: أما الإخبار فقول رسول الله : (إن لكل داء دواء) وهذا الإخبار يفيد العلم اليقين؛ لأن رسول الله مبلغ لرسالة الله وما ينطق عن الهوى"(5). فعلم من هذا بداهة أن لكل مرض دواء باستثناء داء واحد هو الهرم (الشيخوخة)، وهذا هو ما ورد في كتاب الله في قوله عز وجل: ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى" ومنكم من يرد إلى" أرذل العمر(6).
وقوله: ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى" من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى(1).
وعدم شفاء بعض الأمراض، أو استعصاؤها على الأدوية لا يعني أنها مستعصية في ذاتها، بل ربما أن الطب لم يستطع معرفة دوائها. واستقراء تاريخ الطب يؤكد هذا؛ فكثير من علاج الأمراض لم يحدث إلا بعد سنوات طوال من التجارب؛ فمرض التدرن الرئوي مثلاً كان يقتل العديد من البشر قبل معرفة علاجه، ومثله مرض الجلاكوما الذي كان يدمر العصب البصري قبل معرفة علاجه، وقس على ذلك العديد من الأمراض الأخرى .. وعندما يقال اليوم إن هناك أمراضاً مستعصية أو ميؤوساً منها فلا يعني ذلك أنه ليس لها دواء البتة، بل لأن الطب ربما عجز عن معرفة دوائها كما ذكر، وهذا مصداق قول رسول الله : (علمه من علمه وجهله من جهله). وقد يحدث العلم بمعرفة الدواء، وقد لا يحدث في هذا الزمان أو ذاك؛ لأن علم الإنسان سيظل قاصراً إلى أن يعلمه الله العلم؛ لأنه لا علم إلا منه، كما قالت الملائكة لله عز وجل: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم(2).
وأما الأمر بالتداوي فالدليل عليه قول رسول الله للأعراب: (تداووا). وقوله عليه الصلاة والسلام: (تداووا ولا تداووا بحرام)(3)، وهذا أمر، والأمر في إطلاقه يفيد الوجوب، ولا يستثنى منه إلا ما كان محرماً. وما كان يأمر به رسول الله من التداوي كان يفعله بنفسه؛ فقد ورد في مسند الإمام أحمد أن عروة كان يقول لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - يا أمتاه، لا أعجب من فهمك أقول: زوجة رسول الله وابنة أبي بكر ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبه وقال: "أي عريّة، إن رسول الله كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فكانت تنعت له الأنعات وكنت أعالجها له فمن ثم"(1).
وقد احتجم عليه الصلاة والسلام فأمر بالحجامة وقال: (شفاء أمتي في ثلاث: ... شرطة محجم)(2).
واستدل الفقهاء بهذه الأحاديث على جواز التداوي أحياناً ووجوبه أحياناً أخرى. ففي مذهب الإمام أبي حنيفة القول بهذا الجواز، بل إن من أصحاب المذهب من أجاز التداوي بالمحرم كدواء العين بلبن البنت إذا علم فيه الشفاء، ولم يوجد دواء غيره.. وفي التهذيب يجوز للعليل شرب البول، والدم، والميتة، للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن فيه شفاءه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه. أما إن قال الطبيب يتعجل به شفاؤك ففيه وجهان، وهل يجوز شرب العليل من الخمر للتداوي ففيه وجهان. وقد ذكره الإمام التمرتاشي وكذا في الذخيرة: "وما قيل إن الاستشفاء بالحرام حرام غير مجري على إطلاقه، وأن الاستشفاء بالحرام إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاء، أما إن علم وليس له دواء غيره يجوز، ومعنى قول ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يجعل شفاؤكم فيما حرم عليكم، يحتمل أن يكون قال ذلك في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغني بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال تنكشف الحرمة عند الحاجة فلا يكون الشفاء بالحرام وإنما يكون بالحلال"(1).
وفي مذهب الإمام مالك أن التداوي مما لا بأس به وأن ذلك لا ينافي التوكل؛ لأن النبي كان على غاية التوكل وكان يستعد للحرب، وقال لصاحب الناقة: (اعقلها وتوكل)، ويجوز التعالج بكل ما يراه العالم بالطب نافعاً ومناسباً لصاحب المرض من الأسماء، وهذا خاص بالعلاج الحلال، أما المحرم فلا، أي لا يجوز التداوي بالخمر إلا ما قام الدليل عليه، مثل أن يدفع بها غصته أو عطشاً(2).
وعند الإمام الشافعي أن العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان(3). وذكر الجمل في حاشيته أنه لو قطع بإفادته كعصب محل الفصد وجب، وقال: ويجوز الاعتماد على طب الكافر ووصفه ما لم يترتب على ذلك ترك عبادة أو نحوها مما لا يعتمد فيه(1). وإذا اضطر المريض إلى التداوي بشرب الدم أو البول أو غيرهما من النجاسات المائعة غير المسكر جاز له ذلك بلا خلاف(2).
ويرى الإمام الغزالي أن "الأسباب المزيلة للمرض تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع، وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء المسهل وسائر أبواب الطب، أعني معالجة البرودة بالحرارة والحرارة بالبرودة، وهي الأسباب الظاهرة في الطب، وإلى موهوم كالكي والرقية. أما المقطوع فليس من التوكل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت. وأما الموهوم فشرط التوكل تركه إذ به وصف رسول الله المتوكلين، وأقواها الكي ويليه الرقية. وأما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم، وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع، بل قد يكون أفضل من فعله في بعض الأحوال وفي بعض الأشخاص، فهي على درجة بين الدرجتين"(3).
وفي مذهب الإمام أحمد يرى القاضي وأبو الوفاء وابن عقيل وابن الجوزي أن الأفضل فعله، وجزم به ابن هبيرة في الإفصاح، وقيل يجب، وزاد البعض إذا ظن نفعه. والذين قالوا بتركه ابتغوا فضيلة التوكل أو ربما قصدوا تركه لمنافاته التوكل(1).
ويرى الإمام ابن تيمية أن كل ما قاله رسول الله بعد نبوته وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة. ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرع لاستحبابه فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أم مستحب أم واجب، ثم يقول: ".. وقد يكون منه ما هو واجب وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار، فقد يحصل أحياناً للإنسان إذا استمر المرض ما إن لم يتعالج معه مات والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحياناً"(2).
يتبع