ينشط الذاكرة ويجدد الدماغ
 
 من منا لا يرغب في التمتع بذاكرة نشطة تسترجع كل شيء وتختزن فيها كل ملفات التاريخ؟
ولكن إذا ما تحقق ذلك سنندم من دون أدنى شك، فبفضل النسيان ننسى ما لا نرغب بتذكره ومن خلاله يتجدد الدماغ. الأفضل أن ننسى بعض الأمور في الحياة، ولكن النسيان هو نعمة لا يقدرها إلا المحروم منها . وهذا هو حال “أي جي”، المرأة ذات ال 42 عاما من ولاية (كاليفورنيا) الأمريكية التي أصبح النسيان بالنسبة لها حلماً تتمنى أن يتحقق. فهذه السيدة والتي كشفت مؤخرا عن اسمها الحقيقي وهو جيل برايس، وتعمل مسؤولة ادارية في مدرسة دينية في ولاية كاليفورنيا الامريكية، تتذكر كل يوم من حياتها منذ أن كانت مراهقة ولحد الآن وبتفاصيل عجيبة غريبة. وإذا ما حددت لها أي يوم منذ عام 1980 إلى وقتنا الحاضر ستعود على الفور بذاكرتها إلى ذلك اليوم لتصور لك أين كانت؟ وماذا كانت تفعل؟ وما هي الأخبار التي كانت متداولة في ذلك اليوم. وقد ظل افراد عائلتها وأصدقائها في حيرة من أمرهم ومندهشين لعدة عقود من قابليتها غير الطبيعية.
لكن هذه الموهبة ليست بدون مقابل على الإطلاق. فهذه السيدة، التي خضعت لاختبارات العلماء لمدة 6 سنوات تحت اسمها المستعار “أي جي”، رهينة دائرة التذكر لا يمكنها الفكاك منها، وهي كما وصفتها “مثل فيلم لا ينتهي أبداً”.
وحتى لو أرادت “أي جي” أن تنسى فهي لا تستطيع ذلك.
هذه الحالة هي واحدة من بين بضع حالات تمتلك نفس القابلية ويعمل علماء الأعصاب حالياً على دراستها لاكتشاف سبب وكيفية عمل الذاكرة عندهم بهذا الشكل غير العادي والمفرط.
وبعد سبر أغوار هذه الأدمغة العجيبة للبحث عما يمكن أن يكون بداية خيط الاكتشاف، لم يكن واضحا أمام العلماء إلا شيء واحد وهو إن الذاكرة الصحية السليمة لا تعني فقط تلك التي تحتفظ بأشياء ذات معنى بل إن الأهم هو أن تكون قادرة على نسيان البقية.
فمنذ سبع سنوات لاحظت (أي جي) لأول مرة أنها تتمتع بقدرات استثنائية فكتبت إلى الدكتور جيمس ماكوج، عالم النفس في جامعة كاليفورنيا المتخصص بالعلاقة بين الجهاز العصبي والسلوك النفسي، لتطلب منه المساعدة.
ووصفت حالة ذاكرتها التي تسترجع الأحداث بشكل دائم بأنها “لا تتوقف، خارجة عن السيطرة وهي مرهقة تماما” كما أنها “حمل ثقيل” هي مسؤولة عنه وضحيته في نفس الوقت.
وقد لقي الموضوع اهتماما بالغا من “جيمس ماكوج” وزميليه “اليزابيث باركر” و”لاري كاهيل”، وهما أيضا من جامعة كاليفورنيا، وبدأوا تحقيقاتهم في ذاكرة (أي جي). ووجدوا في الاختبارات الأولية أنها كانت قابلة بشكل دقيق على تحديد أيام كل أعياد الفصح ولمدة 24 عاما، بالإضافة إلى مكان تواجدها في تلك الأيام، وماذا كانت تفعل، وهي تفاصيل تمت مقارنتها لاحقا مع محتويات دفتر مذكراتها. 
وليس هذا فقط، بل كانت (أي جي) قادرة على تحديد أي يوم من الأسبوع لأي تاريخ منذ عام 1980 وإعطاء العلماء التاريخ المضبوط لأحداث منسية وغير مهمة على الإطلاق مثل (من أطلق النار على جي آر؟) في أحد مشاهد المسلسل التلفزيون (دالاس). 
وبعد أن اقتنع الفريق أن حالتها جديدة على العلم ولم يسبق أن تعرض لها، أطلق عليها اسماً مقتبساً من اليونانية ويعني (متلازمة التذكر المفرط) وذلك عقب اكتشافهم لبعض الحالات التي يبدو أن أصحابها يعانون من نفس الحالة.
إذن ما الذي يجعل مثل هؤلاء الأشخاص يختلفون عنا وباستطاعتهم إخبارنا عن ضبابية عمل الذاكرة العادية؟ 
ان مسار هذه الحالة يمكن أن يكون في أي مرحلة من مراحل التذكر.
وبصورة عامة تتشكل الذاكرة من ثلاث مراحل : التشفير، الخزن ومن ثم الاسترجاع . ويبدو أن هذه المراحل تعمل عند (أي جي) وأمثالها المصابين بهذه الحالة بطريقة أكثر فاعلية بكثير من باقي البشر.
ولكن ربما هناك فرضية أخرى حيث يمكن أن نفسر ذاكرة (أي جي) غير العادية بفشل الاستراتيجيات التي تستخدمها أدمغتنا لمساعدتنا على نسيان أشياء لا نريد أن نتذكرها.
بمعنى آخر، تبدأ الذكريات الجديدة بالتشكل عند الاستثارة المؤقتة لتشابك شبكة الأعصاب. فإذا استدعيت شيئا ما من الذاكرة فإنك ستعمل حينها على تفعيل نفس المسار العصبي، وكلما حدث ذلك بكثرة ازدادت معها أهمية تنشيط الدماغ للذاكرة وتحولها إلى ذاكرة طويلة الأمد من خلال تشكيل روابط دائمة بين الأعصاب.
وتتقوى هذه الروابط في كل مرة يستدعي الشخص شيئاً ما في الذاكرة لتكون بالتالي سهلة الاسترجاع.
ويحتوي الدماغ على العديد من الروابط المتشابكة الكامنة والتي، على الأقل نظريا، لا حدود لعدد الذكريات طويلة الأمد التي يمكن للدماغ خزنها.
ان السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لا نتذكر كل شيء؟
ويجيب “دان شاكتر”، من جامعة هارفرد، بالقول “مثل هذا النظام القادر على تسجيل كل تفصيل شئنا أم أبينا ويجعل المعلومات متاحة في إطار قواعد متطورة هو نظام ستنتج عنه فوضى عارمة”.
ويؤكد هذا العالم أن الإنسان ينسى لأن الدماغ قد طور استراتيجيات جعلته يتخلص من المعلومات غير المهمة أو المنتهية.
وتتسم فاعلية النسيان بأنها الجزء الحيوي من الذاكرة النشطة تماما. فحينما ننسى شيئاً مفيداً فإن ذلك يعني أن نظام التشذيب ليس على ما يرام. وفي كتابه الذي صدر عام 2001 بعنوان (الخطايا السبع للذاكرة)، يشرح “دان شاكتر” عدة طرق يمكن أن نستخدمها كي ننسى.
وقد أطلق على إحداها (الخطيئة) سريعة الزوال، وهي الاستراتيجية التي بواسطتها نزيل معلومة منتهية، مثل رقم هاتف قديم أو ماذا تناولنا الأسبوع الماضي.
وبما أن استعادة واستخدام المعلومة يرسخها في الذاكرة فإن عقلنا يبين لنا أنه من الأفضل مسح المعلومة التي نادرا ما نستخدمها.
والخطيئة الأخرى هي شرود الذهن، مثل تلك الحالة التي نشفر فيها معلومة حول المكان الذي وضعنا فيه المفاتيح لأن انتباهنا كان في مكان آخر.
وهناك أيضا مشكلة العرقلة، حيث يعمل الدماغ على الاحتفاظ بشيء في الذاكرة لصالح شيء آخر منافس في الذاكرة كي لا يتشوش تفكيرنا، مثل الكلمة التي لها معنيان.
ويحدث أحيانا أننا نستحضر أولا المعنى الذي لا نريده ثم نجهد في تذكر المعنى الآخر.
ويعتقد “دان” أن كل واحدة من هاتين الاستراتيجيتين لها غرضها الملائم، فهي تمنعنا عن خزن الذكريات المملة، المربكة أو المنتهية.
فنحن نريد أن نتذكر رقم الهاتف الحالي وليس القديم وأين وضعنا السيارة في الموقف اليوم وليس في الأسبوع الماضي. وعلى ما يبدو، لا تعمل ذاكرة “أي جي” بنفس هذه الطريقة. 
والسؤال هو لماذا لا يوجد جواب لحد الآن؟
الاختلاف في ذاكرة الأشخاص
التشفير واستعادة الذكريات
  
المصدر : مجلة الصحة والطب .