الثالث: عن أبي بصرة الغفاري أنه لقي أبا هريرة وهو جاء، فقال: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الطور، صليت فيه، قال: أما إني لو أدركتك لم تذهب، إني سمعت رسول الله (ص) يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى).
أخرجه الطيالسي (1348) وأحمد (6 / 7) والسياق له، وإسناده صحيح.
وله عند أحمد طريقان آخران، إسناد الاول منهما حسن، والاخر صحيح.
وأخرجه مالك والنسائي والترمذي وصححه من الطريق الثالث، إلا أن أحد الرواة أخطأ في سنده فجعله من مسند بصرة بن أبي بصرة.
وفي متنه حيث قال: (لاتعمل
المطي).
الرابع: عن قزعة قال: (أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر، فقال: أما علمت أن النبي (ص) قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي (ص) والمسجد الاقصى)، ودع عنك الطور فلا تأته).
أخرجه الازرقي (في أخبار مكة) (ص 304) بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيح، وأورد المرفوع منه الهيثمي في (المجمع) (4 / 4) وقال: (رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله ثقات).
وفي هذه الاحاديث تحريم السفر إلي موضع من المواضع المباركة، مثل مقابر الانبباء والصالحين، وهي وإن كانت بلفظ النفي (لا تشد)، فالمراد النهي كما قال الحافظ، على وزن قوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، وهو كما قال الطيبي: (هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به). قلت: ومما يشهد لكون النفي هنا بمعنى النهي رواية لمسلم في الحديث الثاني: (لا تشدوا).
ثم قال الحافظ: (قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد)، الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها، لان المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، ولكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا المخصوص، وهو المسجد).
قلت: وهذا الاحتمال ضعيف، والصواب التقدير الاول.
لما تقدم في حديث أبي بصرة وابن عمر من أنكار السفر إلى الطور.
ويأتى بيانه، ثم قال الحافظ:
(وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الانبياء، ولان الاول، قبلة الناس، وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الامم السالفة، والثالث أسس على التقوى.
(قال
واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى المواضع الفاضلة، لقصد التبرك بها، والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمد الجويني (1) (يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث)، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: (لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت)، واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافته أبو هريرة.
والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة: 1 - منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز، وقد وقع في رواية لاحمد سيأتي ذكرها بلفظ: (لا ينبغي للمطي أن تعمل) وهو لفظ ظاهر في غير التحريم. 2 - ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به.
قاله ابن بطال.
3 - ومنها أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب،
أو طلب عالم أو تجارة أو نزهة، فلا يدخل في النهي، ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد - وذكرت عنده الصلاة في الطور - فقال: قال رسول الله (ص): (لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الاقصى، ومسجدي).
وشهر حسن الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف).
قلت: لقد تساهل الحافظ رحمه الله تعالى في قوله في شهر أنه حسن الحديث.
مع أنه قال فيه في (التقريب): (كثير الاوهام) كما سبق، ومن المعلوم أن من كان كذلك فحديثه ضعيف لا يحتج به، كما قرره الحافظ نفسه في (شرح النخبة) ثم هب أنه حسن الحديث، فإنما يكون كذلك عند عدم المخالفة، أما وهو قدخالف جميع الرواة الذين رووا الحديث عن أبي سعيد، والاخرين الذين رووه عن غيره من الصحابة كما تقدم بيانه، فكيف يكون حسن الحديث مع هذه المخالفة!؟ بل هو منكر الحديث في مثل هذه الحالة، دون أي شك أو ريب.
أضف إلى ذلك أن قوله في الحديث (إلى مسجد) مما لم يثبت عن شهر نفسه فقد ذكرها عنه عبد الحميد ولم يذكرها عنه ليث بن أبي سليم، وهذه الرواية عنه أرجح لموافقتها لروايات الثقات كما عرفت.
وأيضا فإن المتأمل في حديثه يجد فيه دليلا آخر على بطلان ذكر هذه الزيادة فيه، وهو قوله: أن أبا سعيد الخدري احتج بالحديث على شهر لذهابه إلى الطور.
فلو كان فيه هذه الزيادة التي تخص حكمه بالمساجد دون سائر المواضع الفاضلة، لما جاز لابي سعيد رضي الله عنه أن يحتج به عليه، لان الطور ليس مسجدا.
وإنما هو الجبل المقدس الذي كلم الله تعالى موسى عليه، فلا يشمله الحديث لو كانت الزيادة ثابتة فيه.
ولكان استدلال أبي سعيد به والحالة هذه وهما، لا يعقل أن يسكت عنه شهر ومن كان معه.
فكل هذا يؤكد بطلان هذه الزيادة ه وأنها لا أصل لها عن رسول الله (ص)
__________
(1) هو عبد الله بن يوسف شيخ الشافعية ووالد إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله، كان إماما في التفسير والفقه والادب.
مات سنة (438).