بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم.. الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه..
القول المبين في العلاقة بين الجن والشياطين:
لكي نقف على العلاقة أو الفرق بين الجن والشياطين يسعفنا استدعاء مقاربتين اثنتين: الأولى لغوية، ونقصد بها النظر في مادة كلا من المصطلحين "جن" و"شطن"، والثانية اصطلاحية ونعني بها التدبر فيما تحتويه الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة من مدلولات في هذا المضمار:
1- ففيما يخص مصطلح: "الجن"، فقد ورد في معاجم اللغة، مادة جن ما يلي: (جَنَّ يَجِنُّ جِنَّ جَنًّا: استتر، وجَنَّ الشيءَ يَجُنُّه جَنّاً سَتَره، وكلُّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك. ويقال (جنه الليل) أي أخفاه وستره بظلامه، ومنه قوله تعالى
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا..) سورة الأنعام/76. وجَنَّه الليلُ يَجُنُّه جَنّاً وجُنوناً وجَنَّ عليه يَجُنُّ بالضم، جُنوناً و أَجَنَّه سَتَره; وبه سمي الجِنُّ لاسْتِتارِهم واخْتِفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجَنينُ لاسْتِتارِه في بطنِ أُمِّه. ومنه قوله تعالى (إذ انتم أجنة في بطون أمهاتكم..) سورة النجم/32، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري: (الصوم جنة) قال صاحب النهاية: أَي يَقي صاحبَه ما يؤذِيه من الشهوات. وقال القرطبي: جنة أي سترة.
وجن الرجل جنونا فهو مجنون: إذا غاب عقله واستتر رشده فارتفع عنه التكليف لعدم وعي عقله وحضوره قال تعالى (أم به جنة) سبا/8. انظر "المحيط و"محيط المحيط".
أما من حيث الحمولة اللغوية لمصطلح "الشيطان":
فإذا اعتبرت النون زائدة كان اسم الشيطان مأخوذا من شاط يشيط إذا هلك، أَو من اسْتَشَاطَ. يقال: استشاط غضباً إِذا احْتَدَّ في غضبه والْتَهَبَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، والسيوطي وصححه: "إذا استشاط السلطان تسلط الشيطان"، وذلك كما قال أهل التفسير يعني أنه إذا تحرَّق من شدَّة الغضَب وتلهَب وصار كأَنه نار تسلَّط عليه الشيطانُ فأَغْراه الإيِقاع بمن غَضب عليه.
وإذا اعتبرت النون أصلية يكون الإسم من شطن: أي بعد عن الخير. يقال: بئر شطون أي بعيدة القعر. والشطن هو الحبل، سمي بذلك لبعد طرفيه وامتداده. والشيطان سمي شيطاناً لبعده عن الحق وتمرده، ومن ثم كان كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطانا. وعلى لسان صاحب المحيط: (الشَّيْطانُ: كُلُّ مُتمرِّدٍ مُفسِد؛ يا لَهُ مِن شَيطانٍ)..
ويقول المفسر الشهيد رحمه الله تعالى: الشيطنة هي (التمرد والغواية والتمحض للشر، صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن. وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً، فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية. وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه!. وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.) الأنعام/112. ولذلك يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في مدح عمر رضي الله عنه: (إني لأنظر إلى شياطين الجن و الإنس قد فروا من عمر. أخرجه السيوطي عن عائشة رضي الله عنها. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. انظر الحديث رقم 2496).
ولذلك لا يسعنا إلا أن نقول بأن الشيطان هو في الأصل واحد من الجن ليس إلا..
2- ومما يؤكد على ذلك، وهنا نأتي على المقاربة الاصطلاحية، الوقوف على ما وصف به سبحانه أولئك النفر من الجن الذين أسلموا بعدما سمعوا الوحي من السماء: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وإنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا. سورة الجن/1-3)، والذي تدل عليه هذه السورة والتفاسير الواردة فيها أن هؤلاء النفر كانوا إلى حين ذلك اليوم يسترقون السمع من السماء ليزودوا الكهنة والعرافين بالأخبار والأكاذيب، فهم يقولون: (وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا)، وذلك يعني أنهم يشهدون على أنفسهم أنهم كانوا من أتباع إبليس شياطين مجندون في صفه وحزبه قبل إسلامهم، إلا أنهم بعد أن أسلموا أصبحوا يتبرؤون منه وينعتونه بالسفيه قائلين: (وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططا). ويقول بن كثير في مختصر تفسيره: (يخبر تعالى عن الجن حين بعث اللّه رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرساً شديداً، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها لئلا يسترقون شيئاً من القرآن، وهذا من لطف اللًه تعالى بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً** أي من يروم أن يسترق السمع اليوم، يجد له شهاباً مرصداً له، لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه ويهلكه.. وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقي، كما تقدم حديث ابن عباس عند قوله في سورة الأحقاف: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن** الآية. ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر، وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، فأتوا إبليس فحدَّثوه بالذي كان من أمرهم فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها، فأتوه، فشم فقال: صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا فوجدوا نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائماً يصلي في المسجد الحرام، يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصاً على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وسلم "هذه بعض رواية ذكرها السدي". مختصر بن كثير.
كما يسعفنا أيضا تأمل وصف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيطان الذي وكل بابن آدم أنه واحد من الجن، فعن أبن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك؟ قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير" رواه مسلم في صحيحه. والسيوطي في صحيح الجامع الصغير. وصححه الألباني. وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم. رواه مسلم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
أخوكم في الله "ساجد" الله وليه..