هناك أمراض وآفات خطيرة مهلكة منتشرة بين الناس قلَّ ان تسلم منها المجالس، وندر ان ينفك منها مجتمع من المجتمعات، إنها آفات اللسان، فكم من كلمة فرقت بين الاخوة وباعدت بين الأحبة، وأفسدت العلاقة بين الزملاء، وقتلت المودة بين الأصدقاء. كم شتتت من أسر، وكم دمرت من بيوتات، وأهلكت من مجتمعات.
كم فرقت بين المرء وزوجه، والابن وأبيه، والاخ واخيه، والجار وجاره، والصاحب وصاحبه، ولذا لا عجب ولا غرابة ان يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس يوما ليحذرهم من هذا الخطر الذي يداهمهم، فيقول: “يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة اخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته” رواه احمد وأبو داود.
بين أربعة سجون
إن اللسان من اصغر الأدوات التي خلقها الله لعباده، وهو عضو عظيم الشأن، له في الخير شؤون وله في الشر شؤون. وسبحان الله! قطعة لحم صغيرة لا تتعدى سنتيمترات عدة يرضى المسلم ان تجره الى النار، وإلى سخط الجبار! قطعة لحم جعلها الله عز وجل بين اربعة سجون عظيمة، فكين عظيمين وشفتين حتى تنتبه ايها الانسان للسانك فلا تطلق له العنان.
ومن أجل ذلك نرى النبي صلى الله عليه وسلم دائما يحافظ على لسانه وكلامه، فلا تخرج الكلمة منه إلا بحساب، ولا ينطق لسانه إلا بجميل القول وبديع البيان، وسبحان الله الذي علمه وأتاه جوامع الكلم، وكان إذا تكلم كأن اللؤلو يخرج من بين ثناياه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضى أبدا ان يذكر المسلم أحدا بسوء ولو كان ذلك مزاحا أو من دون قصد، وكان دائما يحذر من ان يتناول اللسان البعيد والقريب، والحاضر والغائب بسيئ الكلام، ولا يجامل في ذلك أحدا على حساب أحد ولو كان احب الناس الى قلبه، وأقربهم من نفسه.
ففي سنن ابي داود والحديث مرسل (ان عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية أنها كذا وكذا تقصد أنها قصيرة فقال: “لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته” أي لو اختلطت بماء البحر لأنتنته، والبحر لا ينتن لأن مياهه كثيرة ولكن هذه الكلمة كبيرة مع ان صفية كانت بالفعل قصيرة.
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. لأن معظم الأعمال وجميع الاقوال تكون باللسان وباليد، وقدم اللسان على اليدين لأنه كما قال الأئمة: “صغير جرمه، كبير جرمه”، وكما قالوا: “مسه أوجع، وملمسه أفظع، وحده أحدُّ، ووقعه أشدُّ”.
فقد تغلب انسانا بسلاح وتقطع يده ثم تستسمحه فيعفو عنك، لكن قد تتكلم في عرضه فلو قدمت له الدنيا كلها يبقى في نفسه منك شيء، فكلم اللسان أنكى من كلم السنان، لأن كلم السنان يبرأ، أما كلم اللسان فلا يبرأ، لأنه يكسر القلوب ومن الصعب ان تعود القلوب سليمة بعد كسرها.
آكلو لحوم الناس
وفي الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها كأن يزني الرجل بأمه تحت ستار الكعبة، وإن أربى الربا استطالة المسلم في عرض اخيه المسلم”. وذلك، لأن من الناس من لا هم له إلا تتبع العورات، وإحصاء السيئات، اذا قابلك أو دخل بيتك كان عليك رقيبا، واذا خرج من عندك كان عليك بين الناس خطيبا.
واسمعوا اليه صلى الله عليه وسلم وهو يسوق هذا الوعيد الشديد الى آكلي لحوم الناس وأعراضهم.
ففي الحديث الذي رواه ابو داود عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم”.
فماذا يضرك ايها المسلم لو تكلمت بكلمة طيبة؟ ماذا عليك لو ابتسمت في وجه أخيك المسلم ليكون لك بذلك صدقة؟ فالكلمة الطيبة صدقة، تحيل العدو الى صديق حميم بإذن الله، وتقلب بفضل الله الضغائن التي في القلوب الى محبة ومودة وولاء، وتقطع على شياطين الإنس والجن وشاياتهم ووساوسهم وسعيهم في الأرض بالفساد “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”. ثم إن الكلمة الطيبة تصعد الى السماء فتفتح لها ابواب السماء “اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه”. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا النار ولو بشق تمرة، وان لم تجدوا فبكلمة طيبة”.
فهيا أيها المسلم الحبيب، من احتاج منك الى كلمة - جزاك الله خيرا- فأعطها له، ومن احتاج الى كلمة عفا الله عنك فقدمها له، ومن احتاج الى كلمة - بارك الله فيك - فقلها له، ولا تبخل على الناس بالكلام الطيب البديع، فكم من مشكلة قد حلت، وكم من بليَّة قد دفعت بسبب كلمة طيبة أو نصيحة صادقة.
منقول ...