قال ابن جرير الطبري : كنت في مكة في موسم الحج عام 240 للهجرة فرأيت رجلا من خرسان ينادي و يقول : يا معشر الحجاج ، يا أهل مكة من الحاضر و البادي ، فقدت كيسا فيه ألف دينار ، فمن رده إلي جزاه الله خيرا و أعتقه من النار ، و له الأجر و الثواب يوم الحساب . فقام إليه شيخ كبير من أهل مكة فقال له : يا خرساني ، بلدنا حالتها شديدة ، و أيام الحج معدودة ، و مواسمه محدودة ، و أبواب الكسب مسدودة ، فلعل هذا المال يقع في يد مؤمن فقير و شيخ كبير ، يطمع في عهد عليك لو رد المال إليك تمنحه شيئا شيئا يسيرا ، و مالا حلالا . قال الخرساني : فما مقدار حلوانه ؟ كم يريد ؟ قال الشيخ الكبير : يريد العشر مائة دينار عشر الألف . فلم يرض الخرسانى و قال : لا أفعل ، و لكني أفوض أمره إلى الله و أشكوه إليه يوم نلقاه و هو حسبنا ونعم الوكيل .
قال ابن جرير الطبري : فوقع في نفسي أن الشيخ الكبير رجل فقير و قد وجد كيس الدنانير و يطمع في جزء يسير ، فتبعته حتى عاد إلى منزله ، فكان كما ظننت ، سمعته ينادي على امرأته و يقول : يا لبابة ، فقالت : لبيك أبا غياث ، قال : وجدت صاحب الدنانير ينادي عليه و لا يريد أن يجعل لواجده شيئا ، فقلت له : أعطنا منه مائة دينار فأبى و فوض أمره إلى الله ، ماذا أفعل يا لبابة ؟ لا بد لي من رده ، إني أخاف ربي ، أخاف أن يضاعف ذنبي . فقالت له زوجته : يا رجل ، نحن نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ، و لك أربع بنات و أختان و أنا و أمي و أنت تاسعنا ، لا شاة لنا و لا مرعى ، خذ المال كله ، أشبعنا منه فإننا جوعى ، و اكسنا به فأنت بحالنا أوعى ، و لعل الله عز و جل يغنيك بعد ذلك ، فتعطيه المال بعد إطعامك لعيالك ، أو يقضي الله دينك يوم يكون الملك للمالك . فقال لها : يا لبابة ، أآكل حراما بعد ست و ثمانين عاما بلغها عمري ، و أحرق أحشائي بالنار بعد أن صبرت على فقري ، و أستوجب غضب الجبار و أنا قريب من قبري ، لا و الله لا أفعل .
قال ابن جرير الطبري : فانصرفت و أنا في عجب من أمره هو و زوجته ، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار ، سمعت صاحب الدنانير ينادي و يقول : يا أهل مكة ، يا معاشر الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر و البادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار ، فليرده إلي و له الأجر و الثواب عند الله . فقام إليه الشيخ الكبير ، و قال : يا خرساني ، قد قلت لك بالأمس و نصحتك ، و بلدنا و الله قليلة الزرع و الضرع ، فجد على من وجد المال بشيء حتى لا يخالف الشرع ، و قد قلت لك أن تدفع لمن وجده مائة دينار فأبيت ، فإن وقع مالك في يد رجل يخاف الله عز و جل ، فهلا أعطيتهم عشرة دنانير فقط بدلا من مائة ، يكون لهم فيها ستر و صيانة و كفاف و أمانة . فقال له الخرساني : لا أفعل ، و أحتسب مالي عند الله ، و أشكوه إليه يوم نلقاه ، و هو حسبنا و نعم الوكيل .
قال ابن جرير الطبري : ثم افترق الناس و ذهبوا ، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار ، سمعت صاحب الدنانير ينادي ذلك النداء بعينه و يقول : يا معاشر الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر و البادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار فليرده إلي و له الأجر و الثواب عند الله . فقام إليه الشيخ الكبير فقال له : يا خرساني ، قلت لك أول أمس امنح من وجده مائة دينار فأبيت ، ثم عشرة فأبيت ، فهلا منحت من وجده دينارا واحدا ، يشتري بنصفه إربة يطلبها ، و بالنصف الأخر شاة يحلبها ، فيسقي الناس و يكتسب ، ويطعم أولاده و يحتسب . قال الخرساني : لا أفعل ، و لكن أحيله على الله و أشكوه لربه يوم نلقاه ، و حسبنا الله و نعم الوكيل . فجذبه الشيخ الكبير ، و قال له : تعال يا هذا و خذ دنانيرك و دعني أنام الليل ، فلم يهنأ لي بال منذ أن وجدت هذا المال .
يقول ابن جرير : فذهب مع صاحب الدنانير و تبعتهما حتى دخل الشيخ منزله ، فنبش الأرض و أخرج الدنانير و قال : خذ مالك ، و أسأل الله أن يعفو عني و يرزقني من فضله . فأخذها الخرساني و أراد الخروج ، فلما بلغ باب الدار ، قال : يا شيخ ، مات أبي رحمه الله و ترك لى ثلاثة آلاف دينار ، و قال لي : أخرج ثلثها ففرقه على أحق الناس عندك ، فربطتها في هذا الكيس حتى أنفقه على من يستحق ، و الله ما رأيت منذ خرجت من خرسان إلى ههنا رجلا أولى بها منك ، فخذه بارك الله لك فيه ، و جزاك خيرا على أمانتك و صبرك على فقرك ، ثم ذهب و ترك المال . فقام الشيخ الكبير يبكى و يدعو الله و يقول : رحم الله صاحب المال في قبره ، و بارك الله في ولده .
قال ابن جرير : فوليت خلف الخراساني فلحقني أبو غياث و ردني ، فقال لي : إجلس فقد رأيتك تتبعني في أول يوم و عرفت خبرنا بالأمس و اليوم ، سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول : سمعت مالكا يقول : سمعت نافعا يقول : عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لعمر و علي رضي الله عنهما ، إذا أتاكما الله بهدية بلا مسألة و لا استشراف نفس ، فاقبلاها و لا ترداها ، فترداها على الله عز و جل ، و هذه هدية من الله و الهدية لمن حضر . ثم قال : يا لبابة ، يا فلانة ، يا فلانة ، و صاح ببناته و الأختين و زوجته و أمها ، و قعد و أقعدني ، فصرنا عشرة ، فحل الكيس و قال : أبسطوا حجوركم ، فبسطت حجري ، و ما كان لهن قميص له حجر يبسطونه ، فمدوا أيديهم ، و أقبل يعد دينارا دينارا ، حتى إذا بلغ العاشر دفعه إلي و قال : و لك دينار ، حتى فرغ من الكيس ، و كان فيه ألف دينار ، فأعطانى مائة دينار .
يقول ابن جرير الطبرى : فدخل قلبي من سرور غناهم أشد من فرحي بالمائة دينار ، فلما أردت الخروج قال لي : يا فتى إنك لمبارك ، و ما رأيت هذا المال قط و لا أملته ، و إني لأنصحك أنه حلال فاحتفظ به ، و اعلم أني كنت أقوم فأصلي الفجر في هذا القميص البالي ، ثم أخلعه حتى تصلي بناتي واحدة واحدة ، ثم أخرج للعمل إلى ما بين الظهر و العصر ، ثم أعود في آخر النهار بما فتح الله عز و جل علي من تمر و كسيرات خبز ، ثم أخلع ثيابى لبناتى فيصلين فيه الظهر و العصر ، و هكذا فى المغرب و العشاء الآخرة ، و ما كنا نتصور أن نرى هذه الدنانير ، فنفعهن الله بما أخذن ، و نفعني و إياك بما أخذنا ، و رحم صاحب المال في قبره ، و أضعف الثواب لولده و شكر الله له .
قال ابن جرير : فودعته ، و أخذت مائة دينار ، كتبت العلم بها سنتين ، أتقوت بها و أشتري منها الورق و أسافر و أعطي الأجرة ، و بعد ستة عشر عاما ذهبت إلى مكة ، و سألت عن الشيخ ، فقيل لي : إنه مات بعد ذلك بشهور ، و ماتت زوجته و أمها و الأختان ، و لم يبق إلا البنات ، فسألت عنهن فوجدتهن قد تزوجن بملوك و أمراء ، و ذلك لما انتشر خبر صلاح والدهن فى الآفاق ، فكنت أنزل على أزواجهن ، فيأنسون بي و يكرموني حتى توفاهن الله ، فبارك الله لهم فيما صاروا إليه .