البر يولد البر
بسم الله الرحمن الرحيم
البر اسم جامع للخير، ويأتي بمعنى الإحسان إلى الوالدين والأقربين، كما يأتي بمعنى الصلة، وهو في استعمال الشرع: (كلمة جامعة لكل أصناف الخير، ويُراد منه ما هو زائد عن حدود التقوى، فهو مرتبة فوق التقوى، ودون مرتبة الإحسان...). والرجل البار رجل وفيّ عطوف في محبته، ويظهر أثر بره في تعامله مع والديه، وأقاربه، وجيرانه، وضيوفه، ومعارفه، ومعارف والديه، وأيتام المسلمين. ويتميز سلوك البار بالمداومة على الصلة؛ بالزيارة وبشاشة الوجه، والاستمرار في بذل المعروف، والإنفاق على الأرحام والمعارف، والإيثار على النفس.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم البر في مقابل الإثم في نصوص عديدة، مفسرة مرة باطمئنان النفس إلى الحلال الطيب، الذي لا شبهة فيه فقال: «البر ما اطمأنت إليه النفس» (المجموع: [9/150])، وفي رواية: «البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب» (صحيح الجامع: [2881]). «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك» (صحيح مسلم: [2553])، وقيل في شرحه: "أي التخلق بالأخلاق الحسنة مع الخلق والخالق، والمراد هنا المعروف، وهو طلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى وأنه يحب للناس ما يحب لنفسه...".
ولأن درجة البر من أعلى الدرجات فلا يصل إليها المسلم إلا بعد مجاهدة للنفس، وإيثار للآخرة على علائق الدنيا وزينتها، ولذلك قال تعالى: **لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ** [آل عمران من الأية:92].
حتى لا يكون للقلوب تعلق إلا بما عند الله، ولتخلص النفوس لبارئها، وعندئذ يعلو مقامها عند الله، ولذلك «فالناسُ رجلانِ: رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ» – كما جاء في الحديث الصحيح – فالبر تقي كريم على الله، ومن كان كريما على الله كان كريما على عباده الصالحين والعقلاء، ولذلك يقول بعض الحكماء: لا تصادق عاقا فإنه لن يبرّك، وقد عقّ من هو أوجب حقا منك عليه.
ومن أوجب البر الإحسان إلى الأقرب فالأقرب، وليس أقرب من الوالدين، وقد أمرنا بالإحسان إليهما، وبمصاحبتهما بالمعروف، وبشكرهما، وبالصبر عليهما، وعدم التضجر منهما، وبالتواضع لهما وحسن الحديث معهما، والدعاء لهما... وقد جاء في الحديث: " «إن الله يوصيكم بأمهاتكم -ثلاثا- إن الله تعالى يوصيكم بآبائكم -مرتين- إن الله تعالى يوصيكم بالأقرب فالأقرب» (صحيح الأدب المفرد: [44])، والهالك من أدرك والديه فلم يبرهما، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذل والهوان على من فاتته فرصة البر بوالديه فقال: «رغم أنفه. ثم رغم أنفه. ثم رغم أنفه... من أدرك والديه عند الكبر: أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» (صحيح مسلم: [2551])، لأن الحياة فرص، وتفويت الفرصة المتاحة ليس من شأن المؤمن الفطن.
وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثلاثة الذين لا يدخلون الجنة (العاق لوالديه) كما وصفه في حديث آخر بأنه ممن «لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» (صحيح الجامع: [3065])، ولا يسلم العاق من عذاب الله حتى في الدنيا، لقوله صلى الله لعيه وسلم: «بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق» (صحيح الجامع: [2810])، بالإضافة إلى أن العقوق من الكبائر. وكما أنه كبيرة شرعا، فإنه من أكبر صور الجحود وعدم الوفاء في نظر العقلاء.
وقد جعل الله البر بالوالدين بابا للفوز برضاه سبحانه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما» (الجامع الصغير: [4457]).
وهو من أحب الأعمال إلى الله «أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ الصلاةُ لوقتِها، ثَمَّ برُّ الوالدينِ، ثُمَّ الجهادُ في سبيلِ اللهِ» (الجامع الصغير: [196]).
وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في التماس رضا الأم بقوله: «الزم رجلها فَثمَّ الجنة» (حسنه الألباني في صحيح الجامع: [1248])، وآثر الصحابي أن يقدم خدمة والديه على الجهاد الكفائي، فقال له: «فيهما فجاهد» (صحيح الجامع: [4275]) –يعني الوالدين-.
وفي قصة الثلاثة الذين حبسهم المطر في غار، وانسد عليهم الغار بصخرة كبيرة، مثل بليغ لتنزل رحمة الله وتفريج الكروب، إذا ما صلحت العلاقات المالية، وحفظت الأعراض، و استقرت العلاقات الأسرية، حيث توسّل كل منهم بصالح عمله، ومنهم الحريص على رضا والديه والمقدم لهما على أهله وولده، فكانت تنفرج الصخرة كلما دعوا حتى خرجوا من الغار سالمين.
ومن أبلغ البر بالوالدين وأصدقه وأخلصه ما يداوم عليه البار في حضور الوالدين، وفي غيبتهما، وفي حياتهما، وبعد موتهما، ومن صور هذا البر إكرام أصدقائهما وأحبابهما، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب» (صحيح الجامع: [1525]). وفي رواية أخرى: «من البر أن تصل صديق أبيك» (صحيح الجامع: [5901])، و«من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده» (الجامع الصغير: [8321])، يقول النووي: "وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه، وتُلحق به أصدقاء الأم، والأجداد، والمشايخ والزوج والزوجة".
ومن إكرام الأب إكرام العم لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن عم الرجل صِنْو أبيه» (صحيح مسلم: [983])، ومن البر بالأم الإحسان إلى الخالة، فقد ورد أن رجلا أذنب ذنبا كبيرا وتساءل إن كان له توبة؟ فدلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من البر يكفر عنه ما أذنب، فقال له: «ألك والدان؟»، قال: لا. قال: «فلك خالة؟»، قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فبِرَّها إذاً» (صحيح ابن حبان: [435]).
وأثر بر الولد يصل إلى والديه، حتى بعد موتهما؛ بدعائه لهما، كما في الحديث: «أربع من عمل الأحياء تجري للأموات: رجل ترك عقبا صالحا يدعو له ينفعه دعاؤهم....» (صحيح الجامع: [888])، وكم يستبشر قلبك حين تعلم أن استغفارك لأبيك المؤمن يرفع درجته في الجنة، ويعجب هو هناك، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لتُرفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟! فيُقال: باستغفار ولدك لك» (صحيح الجامع: [1617]).
ومن صور البر إليهما بعد موتهما التصدق عنهما، جاء في الحديث الصحيح: أنَّ رجلًا قال للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أبي مات وترك مالًا ولم يُوصِ. فهل يُكِفِّرُ عنه أن أَتصدَّق عنه؟ قال: «نعم» (صحيح مسلم: [1630])، ولقد كان من بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمه رغم أنها ليست من أمته أنه استأذن ربه في الاستغفار لها حيث قال: «استأذنتُ ربِّي أن أستغفرَ لأمِّي فلم يأذنْ لي. واستأذنتُه أن أزورَ قبرَها فأذِن لي» (صحيح مسلم: [976])، وورد عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: قدمت عليّ أمي وهي راغبة مشركة فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة مشركة، أفأصلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صليها» (صحيح البخاري: [3183]).
هذا شأن البار حين يكون ابنا، وهو إن نشأ على البر انعكس أثر بره في التعامل مع بنيه، وربما كانت التوجيهات النبوية إلى البر بالآباء أكثف وأغزر، لأن الإنسان بفطرته ميال إلى ولده، حريص عليه، متلهف للأخذ بيده إلى معالي الأمور، بينما قد ينسى البشر جيلا سابقا في طريقه إلى أن يولى، وهم في غمرة انشغالهم بجيل لاحق، يوشك أن يتمكن في الأرض، فاحتاج البشر إلى لفته تذكرهم بفضل الجيل السابق، لئلا يغفلوا عنه، وليقدموا إليه بعض صور الوفاء بحقه، وهم أنفسهم في طريقهم إلى أن يكونوا في يوم من الأيام ذلك الجيل السابق، وسيندبون ضعف الوفاء في بنيهم إن لم يبروهم.
ومن صور البر بالأبناء التي وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم العدل بينهم، بحيث لا تثور الضغائن، ولا تتحرك الأحقاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اعدلوا بين أولادكم في النِحَل -العطايا- كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف» (صحيح الجامع: [1046])، ولما جرت به بعض الجاهليات من إيثار الأولاد على البنات، فقد خص رسول الله عليه وسلم البر بالبنات بلفتات خاصة، منها قوله: «ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، فيحسن إليهن، إلا كن له سترا من النار» (صحيح الجامع: [5372]).
وصاحب البر يتعدى بره الوالدين والأبناء إلى الأرحام والأقارب، ولأن الوفاء والإحسان أصيل فيه، فإنه يتميز به مع جميع الناس الذين يتعامل معهم، وفي مقدمتهم الأقرب فالأقرب، ولذلك حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على توثيق هذه الصلات فقال: «اتقوا الله وصلوا أرحامكم» (حسنه الألباني في صحيح الجامع: [108])، وهذه الصلة من أحب الأعمال إلى الله: «أحب الأعمال إلى الله: إيمان بالله ثم صلة الرحم...» (حسنه الألباني في صحيح الجامع: [166])، وهي من أبواب الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: «أطب الكلام، وأفش السلام، وصل الأرحام، وصل بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام» (صحيح الجامع: [1019]).
ولما لبر الأرحام وصلتهم من المنزلة عند الله، فقد أخذ على نفسه –سبحانه- أن يصل البار الواصل، كما جاء في الحديث من قول الله للرحم: « أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك» (صحيح البخاري: [5987])، وجعل الوصل من أسباب البركة في العمر، كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصلْ رحمه» (صحيح البخاري: [5985]).
هذا بالإضافة إلى أثرها الاجتماعي في التأليف والمحبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل، منسأة في الأجل» (صحيح الجامع: [3768]). وكما يعجل الله عقوبة العاق والقاطع فإنه ليعجل المثوبة في الدنيا للبار الواصل، كما في الحديث: «... وإن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنموا أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا» (صحيح الجامع: [5705])، وهذا رغم فجورهم.
وقد يقابل الواصل بالجفاء، مما قد يغريه بالقطيعة، ولكن الله نصيره إذا ما داوم الصلة، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله: إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: «لئن كنت كما قلت، فكأنما تُسفُّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» (صحيح مسلم: [2558]).
وخير الوصل، والخالص لوجه الله، ما كان بالبر والإحسان إلى من يقابلك بالعداوة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الصدقة، الصدقة على ذي الرحم الكاشح» (صحيح الجامع: [5])، أي المعادي، يقول ابن الجوزي في بيان علة الأفضلية: "وإنما فُضّلت الصدقة عليه لمكان مخالفة هوى النفس، فأما من أعطى من يحب إنما ينفق على قلبه وهواه"، وقد كان حال البارّين الواصلين لأرحامهم على هذه الصورة من الإحسان، حتى مع اختلاف الدين، ويشهد لذلك ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهديت إليه حُلل كان قد قال عن مثلها: "«إنما يَلْبَسُ هذه مَن لا خلاقَ له». فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منها بِحُلَلٍ، فأرسَلَ إلى عمرَ بحلةٍ، فقال: كيف ألبَسُها وقد قلتَ فيها ما قلتَ؟ قال: «إني لم أُعْطِكَها لِتَلْبَسَها، ولكن تَبِيعُها أو تَكْسوها». فأرسلَ بها عمرُ إلى أخٍ له مِن أهلِ مكةَ قبلَ أن يُسلِمَ" (صحيح البخاري: [5981]).
ويجب على البار أن يستمر في صلة أرحامه ولو بأدنى صور الوصل، كما قال صلى الله عليه وسلم: « بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام» (حسنه الألباني في صحيح الجامع: [2838]) -أي صلوا أرحامكم-.
وتتسع دائرة البر لتشمل الجيران، وقد أوصى بهم جبريل كثيرا: « لقد أوصاني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه يورثه» (صحيح الجامع: [5126])، وقال صل الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره...» (صحيح الجامع: [6501])، ونفى الإيمان الكامل عمن «لا يأمن جاره بوائقه» (صحيح البخاري: [6016])، و«من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» (صحيح الجامع: [5505]). وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «يا أبا ذرٍّ إذا طبختَ مرقةً فأَكثِرْ ماءَ المرقةِ، و تعاهَدْ جيرانَك، أو اقسِمْ في جيرانِك» (صحيح الأدب المفرد: [83])، وقد ذُكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل وتصّدّق، وتؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم: «لا خير فيها، هي من أهل النار» (صحيح الأدب المفرد: [88]).
وكثير من صور البر تقتضي جودا وإنفاقا، ومما حث به رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " نفقة الرجل على أهله صدقة"، " وأفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار، يعفهم الله ويغنيهم به؟!"
كل هذه الصور إنما هي أمثلة من حياة البار، وإن كانت مظاهر بره تسع جميع المتعاملين معه من القريبين منه والمحتكين به.
والبر يولّد البر، والصلة تستدعي مزيدا من الصلة، وتلتحم أواصر الأسر، وتتوثق العلاقات الاجتماعية، فإلى مزيد من البر والصلة.
محمود الخزندار