فضائل شهر رمضان - خطبة الجمعة 01-09-1433هـ
فضائل شهر رمضان
سماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، حياة المسلم موصوفة بالطيب والسعادة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، فوصفت حياة المؤمن بأنها طيبة، ووصفه بأنها السعادة: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هذه الحياة الطيبة السعيدة، ما سبب حصول المسلم عليها إن حصوله عليها إنما استحقها بكمال تعلق قلبه بربه محبة وخوفا ورجاءا، فالمؤمن يعلم حقا أن الله خلقه لعبادته وحده لا شريك له ليعمر الأرض بطاعة الله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، يعلم حقا أنه عبد لله خاضع لأوامره مطيعا له مجتنبا نواهيه، لأن هذا الذي يمثل حقيقة الإيمان بالله، إذا، فالمؤمن على يقين جازم بأنه خلق ليعبد الله وحده لا شريك له: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فخلقه الله للعبادة وحده لا شريك له لتكون كل حياته لله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لا شَرِيكَ لَهُ)، ثم المؤمن مع هذا فرحٌ بخطاب الله له بما يأمره به وبما ينهاه عنه، فعندما يسمع الله يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعلم أن هذا شرف من الله له، وعلوا لمنزلته أن خاطبه بأمره بعبادته وأنه خلقه لذلك، ثم يسمع الله يناديه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فيستجيب لهذا النداء، ويسمع الله يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، ويسمع الله يقول له: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، وقول الله له: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأمر بالصلاة والزكاة، ثم يسمع الله يقول له: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فيحج بيت الله، ويعلم أنها تكريم من الله له، ثم يسمع الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) فيتلقى هذا الأمر برحابة الصدر والفرح والسرور أن الله خاطبه باسم الإيمان، خاطبه بأسماء صفاته، وهو إيمانه بالله مذكرا له ذلك الواجب العظيم والركن الأكيد من أركان الإسلام: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فالمسلم دائما فرح بأداء فرائض الإسلام، إن أداء فريضةً فالقلب متعلق بأداء الفريضة الأخرى، وإن أداء زكاة عام فالقلب معلق بأنه بتوفيق الله سيؤديها في عام آخر، إن صام رمضان فقلبه متعلق متطلع إلى ذلك الشهر متى يأتي، وإن حج فالقلب في رغبة في تكرار الحج وأدائه، إذا فالمسلم في هذه الدنيا فرح، فرح قلبه مملؤون فرحاً وسروراً وارتباطا بتعلقه بربه وقوة صلته بربه، واستجابته لأمر ربه، وإعراضه عما نهى الله عنه.
أيها المسلم، هذا اليوم يوم الجمعة أول شهر رمضان المبارك، أول شهر التاسع شهر رمضان، أهلَّ الشهر علينا بفضل الله وكرمه ونحن في أمن واستقرار وثبات وخيرات متتابعة ونعيم مترادفة فلنشكر الله على هذه النعمة ولنثني عليه بما هو أهله، ونسأل الله أن ينقذ الضعفاء والمظلومين من ظلم الظالمين وعدوان المعتدين.
أيُّها المسلم، هذا شهر رمضان أحد أركان الإسلام الركن الخامس أو الرابع من أركان الإسلام، افترض الله صيامه على أمة الإسلام كما افترضها على من قبلنا من اتباع الأنبياء: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، أمرنا بصيام هذا الشهر فنحن نصومه طاعةً لله، واستجابةً لأمر الله وتنفيذا لذلك، هذا الشهر العظيم الذي افترضه الله علينا بين لنا حكمته في ذلك فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فبيَّن تعالى أن حكته من فرض الصيام علينا لنكون بهذا الصيام من المتقين، ولنبلغ بهذا الصيام درجة المتقين الذين اتقوا الله في قلوبهم فقوي الإيمان، واتقوا الله بالقول في اللسان، واتقوا الله بعمل الجوارح، هذا التقوى الذي إذا تأصل في القلب أداء العمل الصالح، التقوى ها هنا، فالتقوى الحقيقة في القلب هو الذي يثمر الأعمال الصالحة المتعددة.
أيُّها المسلم، لهذا الشهر فضائل عديدة، وخصائص كثيرة بيَّنها ربنا وبينها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يذكر الإنسان نفسه إخوانه ليزداد المؤمن يقينا ورغبة في الخير وحبا له، والمؤمن مسلم لله أمره: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)، فمن فضائل هذا الصيام حصول التقوى للمسلم إذا صام هذا الشهر بتوفيق من الله بإخلاص ويقين فإنه يتحقق له بتوفيق الله التقوى على كثرة إخلاصه وقوة إيمانه، ومن فضائله أن الله افترضه على المسلمين قديما وحديثا: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، ومن فضائله أنه سبب لتكفير ما مضى وسلف من الذنوب: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ"، ومن فضائله أن الله أضافه إليه وأضاف جزاءه إليه يقول صلى الله عليه وسلم: قال الله: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ؛ وإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ولِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ إذا أفطر عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ إذا لقي رَبِّهِ فرح بلقاء ربه".
أيُّها المسلم، كل عملك لك إلا الصوم فإن الله أضافه إليه، لأن الصوم سر بين العبد وبين ربه يظهر فيه الإخلاص الصادق، إذ المسلم في بيته يخلو بطعامه وماءه وزوجته لكن يمتنع من ذلك في نهار الصيام طاعةً لله لعلمه أن الله يرضى منه ذلك، وأن الله مطلع على سره وعلانيته: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، فيزداد خوفا من الله ورغبةً فيما عند الله، وثانيا: أن الله تكفل بجزائه فقال: "وَأَنَا أَجْزِى بِهِ"، والله من فضله جعل حسنة المؤمن بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، لكن الصائم يوفى أجره بغير حساب لأن الصوم من الصبر والله يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، والصوم جنة يقيك المكارة وزلات اللسان والأخطاء، " وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ" فهو جنة يمنعك من أن تخوض مع الجاهلين في خوضهم، ومع السفهاء في سفههم؛ بل تترفع عنهم بقوله: "فإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شاتمه؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"، أذكرك بأني صائم وصومي يمنعني من اللغو والرفث ويحملني على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، و" لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ"عندما تخلو المعدة من الطعام والشراب تتصاعد منها أبخرة كريهة في مشام الناس، لكنها عند الله أطيب من ريح المسك.
أيُّها المسلم، والصائم يفرح فرحتين فرحة عند فطره عندما يباح له الطعام والشراب تلك النفس بالطبع فيفرح بذلك إلا أن فرحه هذا مقرون بطاعة ربه وشكره لله وثناءه على الله، ثم فرحته الكبرى وفوزه الأعظم حينما يلقى ربه فيجد ثواب صيامه مدخر إليه أحوج ما يكون إليه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) يوم ينادى الصائمون ليدخلوا من أحد أبواب الجنة المخصصة لهم إن في الجنة بابا يقال باب الريان يدخل منه الصائمون فإذا دخلوا أغلق ذلك الباب.
أيُّها المسلم، خصكم الله يا أمة محمد بأن ملائكة الرحمن تستغفر لكم حتى تفطروا، وإن الله يصفد الشياطين والجن فلا يخلصوا في رمضان إلا ما كانوا يخلصون بغيره لعظم الطاعات وقلة السيئات، وأن الله يزين جنته كل يوم ويقول: "يُوشِكُ عِبَادِى الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ"، وأنه يغفر لنا في آخر ليلة: قَالَ: "لاَ وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ".
أمة الإسلام، استقبلوا هذا الشهر بالفرح والسرور، وحمدوا الله أن بلغكم صيامه، وسأله القبول والتأيد والثواب يقول صلى الله عليه وسلم يوما: "مَا مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ شَرُّ لَهُمْ مِنْهُ بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ قَبْلِ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشقَاءَهُ قَبْلِ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَاكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ النفقة لتقوي على الْعِبَادَةِ وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ تتبع عورات الناس وغَفَلاَتِهم فغُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ"، ويقول صلى الله عليه وسلم يوما عندما يحضر رمضان: "أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فيحط الخطايا ويستجيب الدعاء ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فالمحروم من حرم فضل الله"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَعَرَفَ حُدَودَهُ وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ منه كَفَّرَ مَا كَانَ قَبْلَهُ"، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويزف لهم البشرى بمقدم هذا الشهر فيروى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر جمعة من شعبان فقال: "أيها الناس أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤم، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له من الأجر مثل أجور الصائم من غير أن ينتقص ذلك من أجر الصائم شيء، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف فيه عن مملوكه غفر الله له، وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتين اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وخصلتان لا غنى بكم عنهما: تسألون الله الجنة، وتسعوذون به من النار، ومن سقى فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة"، فحمدوا الله على بلوغه، وسلوه التوفيق والسداد، واستقبلوه بالسرور وحمدوا الله على هذه النعمة، وتقربوا إلى الله فيه بما يرضيه، أسأل الله لي ولكم الثبات على الحق والاستقامة عليه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني إيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله، شريعة الإسلام قامت على اليسر والتيسير: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)، ويقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فالحمد لله على كل حال، هذا الشهر العظيم افترض الله صيامه على المسلم، البالغ، العاقل، القادر، المقيم هذا يلزمه الصوم أداء بلا شك لأنه أحد أركان الإسلام، أما غير المسلم ما لم ينطق بالشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فلا يخاطب بالصيام وهو على كفره وضلاله إذا لا ينفع مع الكفر إيمان: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، ويؤمر به الصبي ويروض عليه قبل بلوغه لعله أن ينشأ محبا له ما لم يكن في الأمر مشقة فكانوا أصحاب رسول الله يصومون صبيانهم ويعطوا اللعب في نهارهم حتى يشغلهم عن طلب الماء والشراب، ولا يخاطب به غير العاقل فالمجنون لا يخاطب إلا إذا فاق من جنونه، والهرم الذي بلغ فيه مبلغا لا يحسن ما يقول ولا يدري ما يقول فهذا ملحق بفاقد العقل فلا شيء عليه، والمربض الذي أثبت الطب الحديث أن صومه لا يتفق مع مرضه إذ الأمراض خطير لا يمكن الصوم معه كالمصابون بالسرطان عياذا بالله أو بالوباء الكبدي أو فشل كلوي أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة التي يثبت الطب بأنه لا ينفع الصيام فإن المسلم يفطر ويطعم عن كل يوم مسكين، لأن الله جعل الإطعام قائما مقام الصيام في أول الأمر قبل أن ينسخ فقال: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، ثم أوجب الصيام على القادرين: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، ويبقى الإطعام يقوم مقام العاجز عن الصيام، أما المرض الأخرى غير المحظور فهو على مراحل إما أن يكون المرض يسيرا لا يتنافى مع الصوم فعلى المرء أن يصوم، وإن كان هذا المرض وإن كان صومه مع المرض فيه مشقة عليه وتعب عليه فليفطر وليقضي يوما آخر، وإن كان الصوم يؤخر البؤر ويزيد المرض أو يثقله فإنه يفطر والله يقول: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، المسافر له أن يترخص في السفر لأن الله يقول: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ) فللمسافر أن يفطر إذا كانت المسافة تزيد على ثمانين كيلو فله أن يفطر وعليه الرخصة؛ ولكن إن رأى أن الصيام أيسر له وحتى لا يتحمل القضاء فصام فلا شيء عليه، وحمزة الأسهمي قال يا رسول الله: إني شاب ولي جمل أعالجه، أكريه وأسافر عليه ويدركني هذا الشهر وأنا شاب أقوى على الصيام وأرى أن الصيام أولا بالفطر فماذا ترى، قال: "كل ذلك يا حمزة"، قال أنس كنا نسافر مع رسول الله فمن الصائم ومن المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، وإن صام أجزئه ذلك إذا كان يخشى من مشقة القضاء ولا مشقة للسفر فصام فله ذلك، والحائض والنفساء يفطران بمجرد الحيض والنفاس ولا يصح صومهما مع ذلك، ومن احتاج إلى فطر لإنقاذ معصوم كفرق الدفاع المدني وأمثالهم الذين ربما يصادفهم الشهر بعض المتاعب والمشاق من إطفاء الحريق أو نحو ذلك وإنقاذ الغريق وأمثاله من الحوادث الذي لا بد فيها من نشاط وجد فلهما أن يفطروا حتى يؤدوا مهمتهم الواجبة عليهم، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
أخي المسلم، إن من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم المبادرة بالفطر بعد تحقق غروب الشمس لأن الله يقول: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) فإذا غربت الشمس وتأكدنا من غروبها سن لنا المبادرة بالإفطار لأن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول لنا: "إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ إِلَىَّ الله أَعْجَلُهُمْ فِطْراً"، وقال: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ"، وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي هذه سنته، أما الذين يؤخروا الفطر حتى تظلم النجوم ويذهب النور وتعلوا الظلمة فها أولائي أدعيا إلى الإسلام وليسوا من أهل الإسلام، فالمسلمون يبادرون بالفطر متى تحققوا غروب الشمس يقول لصلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
أخي المسلم، إن أجرت السحور سنة مباركة، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم يقول صلى الله عليه وسلم: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَ السَّحَرِ"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"، وقال: "تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ"، فتناول أخي المسلم وجبة السحر وإن قلة، وإن كنت ممن وجبات أكلك تتأخر بالليل قبل السحور فتناول لكن عند السحور اجعل ولو شيئا يسيرا لتحي به السنة وتقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن نقضي أيام شهرنا في أمن واطمأن، واستقرار، وسعادة في الدنيا والآخرة إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا وأصلح ولاة أمور المسلمين عامة، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِالعزيزِ لكل خير، اللَّهمَّ كن له عونا ونصيرا في كل ما همه، اللَّهمّ أمده بتوفيقك وتأيدك ونصرك، اللَّهمّ أمده بتوفيقك وعونك ونصرك وألبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، وجعله بركة على نفسه وعلى مجتمع المسلم، اللَّهمَّ شد أزره بولي عهده سلمان بن عبدِالعزيزِ ووفقه للصواب فيما يقول ويفعل وهده إلى الحق وأعنه عليه، وجعله من أنصار دينك إنَّك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، اللَّهمّ أهلَّ علينا رمضان بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، اللَّهمّ وفقنا فيه لصالح القول والعمل.
لقد صمنا هذا اليوم بناءً على رؤية شرعية التي ثبتت لدى المحكمة العليا القضائية رؤية اشترك فيها أكثر من ثمانية ممن عدلوا من القضاء أنهم رأوا هذه الهلال لهذا اليوم، فصيامنا ولله الحمد صيامنا موافقٌ لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نزال عليها إن شاء الله دائما في صومنا وفطرنا وحجنا، لأننا نسمع الرسول الله يقول: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ"، وقال: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوه، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ" فرأيناه وصمنا طاعة لربنا، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله على كل حال، فلا شكوك ولا ظنون ولا أوهام ولا قيل ولا قال، سُنّة محكمة اتبعناها طاعة لله، سلكها ولاة أمرنا قادة المسلمين، سلكوا هذا المسلك وعملوا به وساروا عليه، ونحن إن شاء الله على ذلك سائرون، وليعلم الأدعياء الفلك، أنه لا اعتبار لقولهم ما دامت السنة واضحة جلية، فالحمد لله على هذه النعمة، ونسأله الثبات على الحق.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.