الحمد لله رب العالمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
قراءة القرآن بصورة جماعية لها صور متعددة وهي كالتالي:
أولاً: القراءة الفردية والاستماع الجماعي:
القراءة تكون فردية وأما عن الباقون ممن حولك فإنه يستمعون لك، هذه الصورة هي الأصل ولا شك أنها مستحبة.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ، قلت: ءأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: فإني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: " فَكَيْفَ إِذَاْ جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا " ، قال: أمسك، فإذا عيناه تذرفان. صحيح البخاري برقم 4582.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأما قراءة واحد والباقونيستمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها كأبيموسى وغيره "ا.هـ مجموع الفتاوى 5/345
ثانياً: الإعادة من الثاني لما قرأه الأول بغرض التعليم:
فتقرأ ما تيسر لك من الذكر الحكيم ثم يأتي الأخر فيعد قراءة ما قرأته وذلك لغرض المدارسة والحفظ والتصحيح، هذه الحالة جائزة وهي مستحبة، وهي الصورة المشهورة في مدارسة القرآن بين جبريل والنبي صلى الله عليهما جميعاً، فكان كل منهمافي رمضان يعرض على الآخر، فيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة ويعيدها عليه جبريل وهكذا إلى أن يختم القرآن دراسة وحفظاً ونحو ذلك.
قال السيوطي رحمه الله: " وأما لو أعاد ما قرأه الأول وهكذافلا يكره؛ لأن جبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن برمضان " ا.هـ مطالب أولي النهى 1/598
وقال الخرشي: " كما لا نكره المدارسة بالمعنى الذي كان يدارس به جبريلالنبي صلى الله عليه وسلم برمضان من قراءته وإعادة النبي صلى الله عليه وسلم. "ا.هـشرح مختصر خليل1/353
ثالثاً: الإدارة:
أن يقرأ ما تيسر له ثم يسكت ثم يقرأ الآخر من حيث انتهى الأول فيكمل القراءة ثم يسكت ثميقرأ الآخر وهكذا، هذه الصورة مستحبة عند جماهير أهل العلم خلافاً للحنابلة القائلين بالكراهة ولا وجه لهم في ذلك.
فإذا كان قولهم للحالة الثانية هو للاستحباب فما الفرق بينها وبين هذه الحالة، فالثانية يعيد الأخر ما انتهى إليه الأول وأما في الثالثة فإنه يكمل القراءة من عند انتهاء الأول لقراءته، فالكل له معنى التلاوة.
قال ابن مفلح رحمه الله : " وكرهأصحابنا قراءة الإدارة، وقال حرب: حسنة، وحكاه شيخنا عن أكثر العلماء. " ا.هـ الفروع 1/554 ويقصد بـ " شيخنا " أي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
رابعاً: قراءة الجميع بصوت واحد:
الكل يقرأ بصوت واحد مجتمعين، هذه الصورة حسنة عند أكثر العلماء خلافاً للأحناف والمالكية فإنها محرمة عندهم لكونها لم تكن من عمل السلف، كما أنها لا تخلو من رياء وتشويش واختلاط في الأصوات وهذا فيه مخالفة صريحة للإنصات والتدبر لكلام الله تعالى.
قالشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقراءة الإدارة حسنة عند أكثرالعلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية قولان فيكراهتها." ا.هـ الفتاوى الكبرى 5/345
فالصحيح أنها محرمة لتضمنها ترك الاستماع والإنصات ولما فيها من تشويش واختلاط في الأصوات وترك للتدبر، وقد يكون هناك مباهاة للأصوات ورياء.
فإن الخير كل الخير هو في اتباع سلفنا الصالح والاستماع والإنصات والتدبر لكلام الله تعالى،والخطأ كل الخطأ هو في ترك اتباعهم وترك الإنصات والخشوع لقراءة القرآن.
فإن تنبه لما سبق، أقول:
وأما دعوى الاجتماع للقرآن لغرض الختم والذي يقال عنه بـ " الختم الجماعي "فلا يخلو حاله من حالتين هما كالتالي:
أولاً: دعوى فردية: وهو أن يأخذ كل عضو جزءا من القرآن فيقرأه في بيته وعند انتهاء جميع الأعضاء من قراءة الأجزاء المطلوبة منهم، فإنه يقال لهم أنهم " ختموا القرآن " !
ثانياً: دعوى جماعية: فإما أن تكون في زوايا المساجد، فيجتمع الناس في المسجد ثم يتفرقون حلقاً حلقاًوعلى كل جماعة أن تقرأ الجزء المطلوب منها أو أن تكون في المنتديات: بأن يقوم العضو بكتابة ما انتهى إليه الأول بغية الختم، وبعد أيام يقال للجميع أنهم " ختموا القرآن ". !
هذه البدعة وهذا الكسل والفتور لا أصل لها في ديننا، ولو كانت هذه الدعوى خيراًلفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ولكن لم يكن هذا الأسلوب بهذا الغرض في التعامل مع القرآن من الهدي، بل إنه لا يتحقق قطعاً بها الختم الشرعي للقرآن.
والدليل يطلب ممن أثبت أمراً من الأمورالشرعية، وإلا فالأصل في العبادات المنع والتوقيف حتى يثبت دليل المشروعية، والدليل على عدم المشروعية هو عدم الدليلالدال على الجواز.
ولا يقال أن هذا العمل هو من باب التشجيع أو أنه من جنس الاجتماع على البر والتقوى أو أن نية الفعل حسنة، فهذا لا يقال في عبادة لا أصل لها وأيضا كونها من البدع المنكرة، فما عند الله لا ينال بمعصية، وكل تقرب إلى الله بفعل ما نهى عنه فهو بدعة ومعصية في آن واحد.
ولا يخفى أن تخصيص هيئة للقراءة لم يرد بها الشرع تعد من المحدثات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " صحيح البخاري برقم 2697
وقال الإمام مالك رحمه الله : " ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين لأن الله تعالى يقول: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً " ا.هـ الاعتصام 1/ 132
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول " سنن الدارمي 2/184
ففعل هذا العمل أو نقل بدعته ونشرها في المنتديات هو عمل قبيح يجبتجنبه، و" كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة " إصلاح المساجدص13 من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال الله تعالى: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " النور: 63
فكون أن هذه التقاسم بدعة منكرة فهو أيضا لا يخلو من مزالق، فمنها على سبيل المثال: ما يكون من اختلاط لما يحمله " توقيع " المشارك وما يختلط الصفحات من كلام ولغو، فالقرآن يكتب وتحته صور لقطط وكلام حب وصور لآدميين لا تخلو من نساء سافرات ومتبرجات وغير ذلك، فالقرآن يكتب ويمتهن، وهذا مما لايرضاه الله ولا رسوله ولا أهل القرآن.
كما أن كتابة الآيات لا تخلو من أخطاء إملائية تحيل المعنى والمضمون والعجيب في الأمر أنك لا تجد من يشير إلى هذه الأخطاء أو أن تقوم الإدارة بالتصحيح، فكل من هب ودب يكتب مقطعه القرآني وقد لا يتسنى للمشارك أن يشارك مرة أخرى، ولكن ما دام أن الأجزاء أكتملت فهو قد ختم القرآن بزعمهم .. !
وهناك على الطريقة أيضاً من يهوى " القص واللصق " من باب الاختصار، فهذا يريد أن يسرد المقطع القرآن وهناك من على وشك الانتهاء منه، وفي النتيجة تجد أن المقطع قد تكرر، وما دامت خدمة " القص واللصق " متوفرة فلا تسأل عن شبهة الرياء والسمعة في المسارعة لـ " القص واللصق " وبلا تدبر بغية تصدر صفحة الكتابة.
خلاصة ما نعتقده أن جميع صور " الختم الجماعي " للقرآن الكريم، والمذكورة في كلامنا إنما هي بدعة سيئة يجب تجنبها، ولا يخلو فعلها في المنتديات من سوء أدب مع كلام الله وامتهان لكتابه.
وأما الطريقة المثلى في ختم القرآن فهو بأن يقرأ المسلم كلالقرآن كاملاً بنفسه بتحريك لسانهوشفتيه ـ لا إمراره فقط على قلبه بتفكره فيه ـ فينال بذلك أجر الختمة والتلاوة، قال صلى الله عليه وسلم : "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " صحيح الترمذي برقم 2327.
ثم إنه يشرع الاجتماع لمدارسة القرآن في حلقات وذلك بغية التعلم والتدبر والعمل به، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مااجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه تعالى يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم، إلانزلتعليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكَرَهم اللَّه فيمنعنده " صحيح مسلم برقم 2699
نسأل الله أن يتوب علينا لنتوب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله الهادي.
أبو تيمية