الجمع بين حديث: (لا عدوى...) وحديث: (لا يورد ممرض على مصح)
قال الشارح رحمه الله: [ قال أبو السعادات : العدوى: اسم من الإعداء. كالرعوى. يقال: أعداه الداء، يعديه إعداءً: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء، وقال غيره: لا عدوى، اسم من الإعداء وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة، أو إضافتها إلى العلة، والأول هو الظاهر]. الأول ليس هو الظاهر؛ لأن سراية العلة إلى الصحيح هذا أمر متفق عليه اليوم وقد ظهر، وكذلك معروف أن وجود الصحيح بين المرضى قد يكون سبباً لتعدي المرض إليه. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً يخالف الواقع، فيكون المعنى الظاهر للحديث هو النهي، ودل على هذا المعنى النصوص الأخرى، كما دل عليه الواقع الذي اتفق عليه بين الأطباء، وبين من اطلع على ذلك. قال الشارح رحمه الله: [وفي راوية لـمسلم : أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث بحديث: (لا عدوى)، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يورد ممرض على مصح) ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث: (لا يورد ممرض على مصح) وأمسك عن حديث: (لا عدوى) فراجعوه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة -الراوي عن أبي هريرة : - فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر؟] النسخ لا يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى: أن أبا هريرة علم أن الأخير قد نسخ الأول فترك التحديث به، علم ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر هذين الحديثين التعارض، وكلا الحديثين في الصحيح، حديث: (لا عدوى)، وحديث: (لا يورد ممرض على مصح) فكلاهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين فإنه لا يصار إلى النسخ، وقد بينا الجمع بينهما، وأنه لا معارضة بينهما، فإذا قيل: إن معنى قوله: (لا عدوى) النهي، يعني: لا يكون أحدكم سبباً لإعداء أخيه، سواءً بنفسه أو بفعله أو بغير ذلك، فإنه يكون على هذا متفق مع الحديث الآخر، : (لا يورد ممرض على مصح) وليس بينهما أية معارضة، بل كل واحد يصدق الآخر ويوافقه، وهذا أولى من أن يقال: إن هذا الأخير ناسخ للأول. أما كون أبي هريرة رضي الله عنه أنكر أنه حدث بهذا، فهذا لأنه نسي، وهذا نادر جداً، بل لم يأت أن أبا هريرة نسي شيئاً إلا هذا، فإنه كان من الحفاظ، وبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، وقد حفظ ما لم يحفظه غيره من الصحابة، وكثرت الأحاديث عنه، ومن أجل ذلك أغاظ كثيراً من أعداء الإسلام فصاروا يقدحون فيه، ومعلوم أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عدول، عدلهم الله جل وعلا فقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [التوبة:100]، فأخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم، وأنهم راضون عنه، فدل هذا على أنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لأنه أخبر أنه أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، وإذا أخبر الله جل وعلا عن أحد من الخلق أنه قد رضي عنه فلا يمكن أنه يكفر أو يرتد؛ لأن الله علام الغيوب، يعلم ما سيكون، فهو يعلم أنهم سيستمرون على ذلك إلى أن يلقوا ربهم. وهكذا في الآيات الأخرى قوله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] إلى آخر الآية، ولهذا اتفق أهل السنة على أنهم عدول بتعديل الله لهم، وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء تحذير الرسول صلى الله عليه و سلم عن الوقوع فيهم، فقال: (الله الله، لا تتخذوا أصحابي غرضاً، فإن من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: (دعو لي أصحابي، فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) يعني: لو أنفق مثل أحد ذهباً -لو أمكن هذا- لم يبلغ المد الذي أنفقه أحدهم في سبيل الله ولا نصف المد، وذلك أن الله اختارهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فسعدوا بصحبته، وبتلقي العلم والإيمان من الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمجالسته وامتثال أمره، والقتال بين يديه، وغير ذلك مما فضلهم الله جل وعلا به. ......
المصدر
( شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [79] )
للشيخ : ( عبد الله بن محمد الغنيمان )