رابعا : اخلاص العمل لله والبعد عن الرياء :
أن أعظم الأصول المهمة في دين الإسلام هو تحقيق الإخلاص لله تعالى في كل العبادات، والابتعاد والحذر عن كل ما يضاد الإخلاص وينافيه، كالرياء والسمعة والعجب ونحو ذلك 0
يقول الْعَبْدَرِيُّ : ( فَإِنِّي كُنْت كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ سَيِّدِي الشَّيْخَ الْعُمْدَةَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الْمُحَقِّقَ الْقُدْوَةَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ يَقُولُ : ورحم الله احد العلماء إذ يقول : وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلّا، فانه ما أُتىَ على كثير من الناس إلا من تضيع ذلك )( المدخل للْعَبْدَرِيُّ – 1 / 1 ) 0
إنّ تعريف الإيمان عند أهل السنة هو: ( إقرار باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان ) 0
ويُعَدُّ الإخلاص أهم أعمال القلوب المندرجة في تعريف الإيمان، وأعظمها قدراً وشأناً، بل إن أعمال القلوب عموماً آكد وأهم من أعمال الجوارح، ويكفي أنّ العمل القلبي هو الفرق بين الإيمان والكفر، فالساجد لله والساجد للصنم كلاهما قام بالعمل نفسه، لكن القصد يختلف، وبناء عليه آمن هذا وكفر هذا 0
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بيان أهمية أعمال القلوب : ( وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل محبته لله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك". أ.هـ
فأقول: "هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.
فالظالم لنفسه: العاصي بترك مأمور أو فعل محظور.
والمقتصد: المؤدي للواجبات، والتارك للمحرمات.
والسابق بالخيرات: المتقرّب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه.
وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تُمحى عنه؛ إما بتوبة والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإما بحسنات ماحيه، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك )( مجموع الفتاوى – 10 / 5- 6 ) 0
ويقول ابن القيم رحمه الله : ( أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإنّ النيّة بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح ماتت، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح". أ.هـ وقال شيخ الإسلام: "والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسّط عمل القلب، فإن القلب ملكٌ، والأعضاء جنوده، فإذا خبث خبثت جنوده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ في الجسد مضغة... الحديث )( بدائع الفوائد 3 / 244 ) 0
* تعريف الإخلاص:
قال العز بن عبد السلام : ( الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيماً من الناس ولا توقيراً، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي )( مقاصد المكلفين - ص 358 ) 0
قال سهل بن عبد الله : ( الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة ) 0 أ.هـ
وقيل : ( هو تفريغ القلب لله" أي: صرف الانشغال عمّا سواه، وهذا كمال الإخلاص لله تعالى ( انظر الإخلاص للعوايشة - ص 20 ) 0
وقيل : ( الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين ) 0
ويقول الهروي : ( الإخلاص تصفية العمل من كل شوب ) 0
ويقول بعضهم : ( المخلص هو: الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله ) 0
سئل التستري : ( أي شيء أشد على النفس ؟! قال : " الإخلاص ؛ لأنه ليس لها فيه نصيب " 0
ويقول سفيان الثوري : ( ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي؛ إنها تتقلبُ عليّ )( نقلاً من كتاب الإخلاص د. عبد العزيز عبد اللطيف ) 0
ومدار الإخلاص في كتاب اللغة على الصفاء والتميز عن الأشواب التي تخالط الشيء يقال : هذا الشيء خالص لك: أي لا يشاركك فيه غيرك والخالص من الألوان عندهم ما صفا ونصع. ويقولون خالصة في العشرة : صافاه ( باختصار من مقاصد المكلفين - ص 359 ) 0
* منزلة الإخلاص:
الإخلاص هو حقيقة الدين، وهو مضمون دعوة الرسل قال تعالى :
( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء )
( سورة البينة – الآية 5 )
وقوله سبحانه وةتعالى :
( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور )
( سورة الملك – الآية 2 )
قال الفضيل بن عياض في هذه الآية : ( " أخلصه وأصوبه " 0 قيل : " يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ " قال : أن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم تقبل وإذا صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً ؛ والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة " )( منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية – 6 / 217 ) 0
قال تعالى في محكم التنزيل :
( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
( جزء من سورة المائدة – الآية 112 )
يقول شيخ الإسلام : ( الناس لهم في هذه الآية ثلاثة أقوال : طرفان ووسط 0
فالخوارج والمعتزلة يقولون : لا يتقبل الله إلا من اتقى الكبائر، وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال 0
والمرجئة يقولون : من اتقى الشرك 0
والسلف والأئمة يقولون : لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل، ففعله كما أمر به خالصاً لوجه الله تعالى )( منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية – 6 / 217 ) 0
* الإخلاص سبب لعظم الجزاء مع قله العمل:
وقد دلّ على ذلك نصوص النبوية ومنها :
1)- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إنَّ اللهَ يستخلصُ رجلًا من أُمَّتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ ، فينشرُ عليه تسعةً وتسعين سِجِلًّا ، كلُّ سِجِلٍّ مثلُ مدِّ البصرِ ، ثم يقولُ : أَتُنكرُ من هذا شيئًا ؟ أظلمَك كتبتي الحافظونَ ؟ فيقولُ : لا يا ربِّ ! فيقول : أفلكَ عُذرٌ ؟ فيقول : لا يا ربِّ ! فيقولُ اللهُ تعالى : بلى إنَّ لك عندنا حسنةً ، فإنه لا ظُلمَ عليك اليومَ ، فتخرجُ بطاقةٌ فيها ( أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه ) ، فيقول : احضُرْ وزْنَك . فيقول : يا ربِّ ! ما هذه البطاقةُ مع هذه السِّجِلَّاتِ ؟ فقال : فإنك لا تُظلَمُ ، فتوضَعُ السَّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ ، والبطاقةُ في كِفَّةٍ ، فطاشتِ السِّجِلَّاتُ ، وثقُلَتِ البطاقةُ ، فلا يَثقُلُ مع اسمِ اللهِ شيءٌ . )
( أخرجه الترمذي وأحمد في المسند والحاكم ، وقال : " هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم " ، وقال الألباني " حديث صحيح " – أنظر صحيح الترغيب والترهيب – برقم 1533 ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح والحاكم في المسند يقول: هذا حديث صحيح لإسناد ولم يخرجه )
يقول شيخ الإسلام معلقاً على حديث البطاقة : ( فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلّا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا اله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة )( منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية – 6 / 219 ) 0
2)- وحديث المرأة التي سقت الكلب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ )
( متفق عليه )
3)- وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ، فأخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له )
( متفق عليه )
ويقول شيخ الإسلام أيضاً حول حديث المرأة التي سقت الكلب والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق : ( فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغُفِرَ لها، و إلا ليس كل بغي سقت كلباً يُغفر لها، وكذلك هذا الذي نحّى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك 0
فإن الإيمان يتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص )( منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - 6 / 221 ) 0
* ثمار الإخلاص:
لا بد من أمرين هامين عظيمين أن تتوفرا في كل عمل وإلا لم يقبل:
1)- أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله تعالى.
2)- أن يكون موافقا لما شرعه الله تعالى في كتابه أو بينه رسوله في سنته.
فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحاً ولا مقبولاً، ويدل على هذا قوله تعالى :
( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )
( سورة الكهف – الآية 110 )
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : ( وهذان ركنا العمل المتقبل ؛ لا بد أن يكون خالصًا لله، صواباً على شريعة رسول الله )( كتاب التوسل أنواعه وأحكامه – ص 16 ) 0
* ومن ثمار الإخلاص:
أولا : تفريج الكربات :
عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :
( أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: بيْنَما ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ، إذْ أصَابَهُمْ مَطَرٌ، فأوَوْا إلى غَارٍ فَانْطَبَقَ عليهم، فَقالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنَّه واللَّهِ يا هَؤُلَاءِ، لا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنكُم بما يَعْلَمُ أنَّه قدْ صَدَقَ فِيهِ، فَقالَ واحِدٌ منهمْ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّه كانَ لي أجِيرٌ عَمِلَ لي علَى فَرَقٍ مِن أرُزٍّ، فَذَهَبَ وتَرَكَهُ، وأَنِّي عَمَدْتُ إلى ذلكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، فَصَارَ مِن أمْرِهِ أنِّي اشْتَرَيْتُ منه بَقَرًا، وأنَّهُ أتَانِي يَطْلُبُ أجْرَهُ، فَقُلتُ له: اعْمِدْ إلى تِلكَ البَقَرِ فَسُقْهَا، فَقالَ لِي: إنَّما لي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِن أرُزٍّ، فَقُلتُ له: اعْمِدْ إلى تِلكَ البَقَرِ، فإنَّهَا مِن ذلكَ الفَرَقِ فَسَاقَهَا، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلكَ مِن خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عنْهمُ الصَّخْرَةُ، فَقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّه كانَ لي أبَوَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ آتِيهِما كُلَّ لَيْلَةٍ بلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فأبْطَأْتُ عليهما لَيْلَةً، فَجِئْتُ وقدْ رَقَدَا وأَهْلِي وعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الجُوعِ، فَكُنْتُ لا أسْقِيهِمْ حتَّى يَشْرَبَ أبَوَايَ فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا، وكَرِهْتُ أنْ أدَعَهُمَا، فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا، فَلَمْ أزَلْ أنْتَظِرُ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلكَ مِن خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عنْهمُ الصَّخْرَةُ حتَّى نَظَرُوا إلى السَّمَاءِ، فَقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّه كانَ لي ابْنَةُ عَمٍّ، مِن أحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ، وأَنِّي رَاوَدْتُهَا عن نَفْسِهَا فأبَتْ، إلَّا أنْ آتِيَهَا بمِئَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حتَّى قَدَرْتُ، فأتَيْتُهَا بهَا فَدَفَعْتُهَا إلَيْهَا، فأمْكَنَتْنِي مِن نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بيْنَ رِجْلَيْهَا، فَقالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ ولَا تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَقُمْتُ وتَرَكْتُ المِئَةَ دِينَارٍ، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلكَ مِن خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عنْهمْ فَخَرَجُوا )
( متفق عليه )
ثانيا : الانتصار:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)
( سورة الأنفال – 45 ، 47 )
ثالثا : العصمة من الشيطان :
( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
( سورة يوسف – 24 )
( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )
( سورة الحجر – 39 )
رابع : نيل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :
( قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: لقَدْ ظَنَنْتُ، يا أبَا هُرَيْرَةَ، أنْ لا يَسْأَلَنِي عن هذا الحَديثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ، لِما رَأَيْتُ مِن حِرْصِكَ علَى الحَديثِ، أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ مَن قَالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن قِبَلِ نَفْسِهِ )
( صحيح البخاري – برقم 99 )
خامسا : مغفرة الذنوب ونيل الرضوان :
كما في حديث البطاقة ، والمرأة البغي التي سقت الكلب ( السابق ذكرهما ) 0
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ :
( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ ، فَشَكَرَالله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ )
( متفق عليه )
* السلف والإخلاص:
قال أبو سليمان الداراني : ( طوبى لمن صحت له خطوة واحدة، لا يريد بها إلا الله تعالى )( حلية الأولياء ، وأنظر احياء علوم الدين للغزالي – 4 / 378 ) 0
وقيل لحمدون بن أحمد : ( ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا، قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق )( صفة الصفوة - ٤ / ١٢٢ ) 0
وقال رجل لتميم الداري - رضي الله عنه - : ( ما صلاتك بالليل ؟ فغضب غضباً شديداً ثم قال: والله لركعة أصليها في جوف الليل في سرّ أحب إلى من أن أصلي الليل كله، ثم أقصّه على الناس )( صفوة الصفوة – 1 / 290 ) 0
وقال أيوب السختياني : ( ما صدق عبد قط فأحب الشهرة )( سير اعلام النبلاء – 6 / 20 ) 0
وقال الإمام النووي - رحمه الله - : ( الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل. ثم لا ينبغي أن يُترك الذكر باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظن به الرياء، بل يذكر بهما جميعاً، ويقصد به وجه الله تعالى 0
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - : ( إن ترك العمل لأجل الناس رياء، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لانْسَدَّ عليه أكثر أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين )( الفتوحات الربانية على الأذكار النووية – 1 / 127 ) 0
قال ابن حجر : ( قال ابن أبي حاتم : ثنا الربيع بن سليمان ، سمعتُ الشافعي يقول - وهو مريض ، وذكر ما جمع من الكتب - : ( وددتُ لو أن الخلق تعلموه ، ولا ينسب إلىَّ منه شيء ) 0
قال : وحدثنا أبي ، ثنا حرملة ، سمعت الشافعي يقول : ( وددتُ أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أُوجر عليه ، ولا يحمدوني )( توالي التأسيس لابن حجر – ص 106 )
وفي رواية : ( وددتُ أن الخلق تعلموا هذا العلم - يعني علمه وكتبه - أن لا ينسب إلى حرف منه )( التبيان في آداب حملة القرآن للنووي – ص 33 ) 0
وقال جبير بن نفير : ( سمعت أبا الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق، فكرر التعوذ منه، فقلت: مالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟! فقال: دعنا عنك، دعنا عنك ، فوالله ، أنّ الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الوحدة فيخلع منه )( الفريابي في صفة النفاق – ٨٦ ) 0
وقال بشر الحافي : ( لأن اطلب الدنيا بمزمار أحب إلى من أن اطلبها بالدين )( مختصر منهاج القاصدين – ص 214 ) 0
وعن يحي بن أبي كثير قال : ( تعملوا النية ، فإنها ابلغ من العمل )( حلية الأولياء - 3 / 70 ) 0
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله : ( الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام : صبر الأوامر والطاعات التي يؤديها ، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يسخطها )( مدارج السالكين – 1 / 165 ) 0
قال ابن القيم – رحمه الله - : ( قال ابن عقيل : كان أبو إسحاق الفيروز بادي لا يخرج شيئاً إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التزيين والتحسين للخلق. ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعتين فلا حرج أن شاع سمه واشتهرت تصانيفه شرقاً وغرباً ، وهذه بركات الإخلاص )( بدائع الفوائد – 3 / 149 ) 0
* ما يتوهم انه رياء وشرك وليس كذلك :
1)- حمد الناس للرجل على عمل الخير:
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال :
( قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟ قالَ: تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ )
( رواه الإمام مسلم في صحيحه - برقم 2642 )
2)- التحدث عن المعاصي لو أن الله يكره ظهور المعاصي ويحب ستره :
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال :
( اجتنبوا هذه القاذوراتِ التي نهى اللهُ عزَّ وجلَّ عنها ، فمن ألمَّ فليستتِرْ بسترِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، فإنَّهُ من يُبْدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ )
( السلسلة الصحيحة – 663 )
3)- ترك الطاعات خوفا من الرياء لأن ذلك من مكائد الشيطان :
قال إبراهيم النخعي : ( إذا أتاك الشيطان وأنت في صلاة فقال : إنك مراءٍ، فزدها طولاً )( الآداب الشرعية لابن مفلح – 1 / 267 ) 0
4)- نشاط العبد بالعبادة عند رؤية العابدين :
قال المقدسي : ( يبيت الرجل مع المتهجدين فيصلون أكثر الليل وعادته قيام ساعة فيوافقهم، أو يصومون ولولاهم ما انبعث هذا النشاط، فربما ظن ظان أنّ هذا رياء وليس كذلك على الإطلاق، بل فيه تفضيل، وهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى ولكن تعوقه العوائق وتستهويه الغفلة فربما كانت مشاهدة الغير سبباً لزوال الغفلة". ثم قال: "ويختبر أمره بأن يمثل القوم في مكان لا يراهم ولا يرونه، فان رأي نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وان لم يسخ كان سخاؤها عندهم رياء وقس على هذا )( مختصر منهاج القاصدين - ص 234 ) 0
( ولا ينبغي أن يؤيس نفسه من الإخلاص بأن يقول : إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء وأنا من المخلصين، فيترك المجاهدة في تحصيل الإخلاص لأن المخلط إلى ذلك أحوج )( في مختصر منهاج القاصدين - ص 229 ) 0
5)- عدم التحدث بالذنوب وكتمانها :
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
( كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه )
( متفق عليه )
6)- اكتساب العبد لشهرة من غير طلبها وترك العمل خوفا أن يكون شركا :
قال الفضيل بن عياض : ( ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من اجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منه )( باختصار تصرف من كتاب الإخلاص للعوايشة - 25 – 27 ) 0
قال النووي معلقا على كلام الفضيل : ( ومعنى كلامه رحمه الله أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مراء لأنه ترك العمل لأجل الناس إما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إلا أن تكون فريضة أو زكاة واجبة أو يكون عالما يقتدى به فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل )( شرح الأربعين النووية - ص 11 ) 0
7)- أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أظهر الجميل من أحواله فيسر بحسن صنع الله وستره المعصية فيكون فرحه بذلك لا بحمد الناس ومدحهم وتعظيمهم :
في زاد مسلم عن أبي ذر قال :
قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ :
" أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟ قالَ: تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ "
( صحيح مسلم – برقم 2642 )
( مختصر منهاج القاصدين باختصار ) 0
يقول ابن تيمية - رحمه الله - : ( ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فانه يصليه حيث كان ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه انه يفعله سراً لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص 0 إلى أن قال : " ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه إن ذلك رياء فنهيه مردود عليه من وجوه:
1- إن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفا من الرياء بل يؤمر بها وبالإخلاص فيها 0
2- إن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا اشق بطونهم " ( صحيح البخاري – برقم 4351 ) 0
3- إن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذ رأوا من يظهر أمراً مشروعاً قالوا : " هذا مراءٍ " 0 فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذراً من لمزهم فيتعطّل الخير 0
4- إنّ مثل هذا من شعائر المنافقين وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ " سورة التوبة – 79 )( مجموع الفتاوى – باختصار – 23 / 174- 175 ) 0
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - : ( اتصال الرياء بالعبادة على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس مِن الأصل ؛ كمن قام يصلِّي مراءاة الناس ، مِن أجل أن يمدحه الناس على صلاته ، فهذا مبطل للعبادة 0 الوجه الثاني : أن يكون مشاركاً للعبادة في أثنائها ، بمعنى : أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ، ثم طرأ الرياء في أثناء العبادة ، فهذه العبادة لا تخلو من حالين :
الحال الأولى : أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها ، فأولُّها صحيح بكل حال ، وآخرها باطل 0
مثال ذلك : رجل عنده مائة ريال يريد أن يتصدق بها ، فتصدق بخمسين منها صدقةً خالصةً ، ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقية فالأُولى صدقة صحيحة مقبولة ، والخمسون الباقية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص 0
الحال الثانية : أن يرتبط أول العبادة بآخرها : فلا يخلو الإنسان حينئذٍ مِن أمرين :
الأمر الأول : أن يُدافع الرياء ولا يسكن إليه ، بل يعرض عنه ويكرهه : فإنه لا يؤثر شيئاً لقوله صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي ما حَدَّثَتْ به أنْفُسَها، ما لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ " ( متفق عليه – واللفظ لمسلم ) 0
الأمر الثاني : أن يطمئنَّ إلى هذا الرياء ولا يدافعه : فحينئذٍ تبطل جميع العبادة ؛ لأن أولها مرتبط بآخرها 0
مثال ذلك : أن يبتدئ الصلاة مخلصاً بها لله تعالى ، ثم يطرأ عليها الرياء في الركعة الثانية ، فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخرها 0
الوجه الثالث : أن يطرأ الرياء بعد انتهاء العبادة : فإنه لا يؤثر عليها ولا يبطلها ؛ لأنها تمَّت صحيحة فلا تفسد بحدوث الرياء بعد ذلك 0
وليس مِن الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته ؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة 0
وليس مِن الرياء أن يُسرَّ الإنسان بفعل الطاعة ؛ لأن ذلك دليل إيمانه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " مَن سرَّته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن " ( الأيمان لابن تيمية – وقال الألباني حديث صحيح – رقم 39 ) 0
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ " جزء من حديث رواه ابو ذر الغفاري – وقال الألباني حديث صحيح – انظر صحيح ابن ماجة - رقم 2423 " ( مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين - 2 / 29 ، 30 ) 0
وقد تعمدت الحديث عن موضوع الاخلاص لأن كثير مما يقوم به هذا الرجل قد يوقعه في موضوع الرياء من خلال اظهار القدرات الخارقة المزيفة التي يدعيها ونشر مقاطع كثيرة يتبين من خلالها الكذب البواح ، وكذلك السفر الى كثير من بقاع الأرض داعيا القدرة على شفاء الأمراض ، ومن هنا كان لزاما أن ابين بعض الأمور المتعلقة بمسألة الرياء وخطورة ذلك على المسلم 0
* الرياء والاخلاص :
- أنواع الرياء :
يقول ابن الجوزي – رحمه الله - : ( الرياء اما أن يكون جليا وأما ان يكون وخفيا ) 0
فالجلي : هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه.
والخفي : مثل الرياء الذي لا يبعث على العمل لمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه، فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه.
وأخفي من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، وأجلي علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل ولا يقصد الرياء بل يكرهه، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروّح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي )( الفيض الرحماني شرح كناب الطب ال****** – ص 160 ، 162 ) 0
ومتى لم يكن وجود العبادة كعدمه في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء ( رأي الشيخ محمد بن صالح العثيمين ) 0
الرياء : ( هي الطاعة التي يظهرها الفاعل كي يراها الناس )( قواعد الأحكام في اصلاح الأنام للعز بن عبدالسلام – 1 / 147 ) 0
* من دقائق الرياء وخفاياه:
قد يخسر الإنسان عمله بسبب انعدام الإخلاص، وذلك أمّا بالرياء والشهرة والشرف والسمعة والعجب.
والرياء : هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس، فيحمدوا صاحبها، فهو يقصد التعظيم والمدح والرغبة أو الرهبة فيمن يرائيه.
أما السمعة : فهي العمل لأجل سماع الناس ( فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة تتعلق بحاسة السمع 0
وأما العجب : فهو قرين الرياء 0
وقد فرّق بينهما شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : ( الرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس )( مجموع الفتاوى – 10 / 277 ) 0
* هنا ثلاث أمور دقيقة للرياء على النحو التالي:
أولها: ما ذكره أبو حامد الغزالي في أحبائه حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي: ( وأخفى من ذلك أن يختفي ( العاقل بالطاعة ) بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدأوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، ولو لم يفعل ذلك ما استبعد تقصير الناس في حقه )( إحياء علوم الدين – 3 / 305 – 306 ) 0
ثانيها : أن يجعل الإخلاص وسيلة لا غاية وقصداً لأحد المطالب الدنيوية ( كالحكمة - كالكرامة - كالحوائج الدنيوية ) 0
ثالثها : ما أشار إليه ابن رجب بقوله : " وها هنا نكته دقيقة وهي أن يذم الإنسان نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه يتواضع عن نفسه ويرتفع بذلك عنهم ويمدحونها به، وهذا من دقائق أبواب الرياء وقد نبه السلف الصالح " ، قال مطرف بن عبد الله ابن الشخير: "كفى بالنفس إطراء أن تذمّها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه". [ شرح حديث ما ذئبان جائعان ] (نقلا من كتاب الإخلاص والشرك ، الدكتور عبد العزيز عبد اللطيف - ص 46 ) 0
* الصبر على الطاعة ثلاثة أنواع :
صبر قبل الطاعة - وصبر أثناء الطاعة – صبر بعد الطاعة 0
رابعها : ربما كره الرياء ولكنه عندما يتذكر أعماله ويثني عليه لم يقابل ذلك بالكراهية، بل يشعر بالسرور، ويشعر أنّ ذلك روح عنه شيئاً من عناء العبادة فهذا نوع دقيق من أنواع الشرك الخفي )( الإخلاص - العوايشه - ص 71 ، ونقله من مختصر منهاج القاصدين ) 0
* أمور تعين على تحقيق الإخلاص :
أ - أن يعلم المكلف يقيناً بأنّه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجراً، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه، ولا معاوضة 0
ب - مشاهدته مِنَّه الله عليه وفضله وتوفيقه، وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو، وكل خير فهو مجرد فضل الله ومنته 0
ت - مطالعته عيوبه وآفاته وتقصيره منه وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان، فقلّ عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب وإن قل، وللنفس فيه حظ، سئل صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته؟! فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". فإذا كان هذا التفات طرفه فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله؟! )( مدارج السالكين ) 0
ث - تذكير النفس بما أمر الله به من إصلاح القلب وإخلاصه ، وحرمان المرائي من التوفيق 0
ج - الخوف من مقت الله تعالى، إذا اطلع على قلبه وهو منطوٍ على الرياء 0
ح - الإكثار من العبادات غير المشاهدة وإخفاؤها، كقيام الليل، وصدقة السر والبكاء خالياً من خشية الله 0
خ - تحقيق تعظيم الله، وذلك بتحقيق التوحيد والتعبّد لله بأسمائه الحسنى وصفاته " العلي العظيم – العليم – الرزاق – الخالق " 0
د - أن يشعر أنه عبد محض لله تعالى 0
ذ - معرفة أسماء الله وصفاته وتعظيم الله 0
ر - تذكر الموت وأهواله 0
ز - الإكثار من الأعمال المخفية 0
س - أن يرد الرياء بالاقتداء 0
ش - أن يعلم عاقبة الرياء 0
ص - الإلحاح على الله بالدعاء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء والإلحاح على الله 0
ض - تدبر القرآن 0
ط - التخلص من حظوظ النفس، فانه لا يجتمع الإخلاص في القلب وحب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلّا كما يجتمع الماء والنار، فإذا أردت الإخلاص فاقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وقم على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، حينئذ فقط يسهل عليك الإخلاص، والطمع يسهل ذبحه باليقين أنه ليس من شيء تطمع فيه إلا وبيد الله خزائنه، لا يملكها غيره 0
ظ – المجاهدة : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )( سورة العنكبوت – الآية 69 ) 0
فالمطلوب منك بذل الجهد في دفع خواطر الرياء وعدم الركون إليها، وكلّما أولى لا بد من قياسها حتى تصل إلى المرحلة التي قال الله تعالى فيها ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ )( سورة الحجر – الآية 42 ) 0 وهي المرحلة التي تكون النفس فيها مطمئنة بطاعة الله، ساكنة إليها لا تخالجها الشكوك الأثيمة 0
ع - إخفاء الطاعات وعدم التحدّث بها 0
غ - عدم الاكتراث بالناس 0
ف - الخوف من الشرك بنوعيه 0
ق - الدعاء بكفارة الرياء ، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يا أبا بكرٍ ، لَلشِّركُ فيكم أخْفى من دبيبِ النَّملِ والذي نفسي بيدِه ، لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ ، ألا أدُلُّك على شيءٍ إذا فعلتَه ذهب عنك قليلهُ و كثيرهُ ؟ قل : اللهم إني أعوذُ بك أن أشرِكَ بك وأنا أعلمُ ، وأستغفِرُك لما لا أَعلمُ )
( الحديث رواه معقل بن يسار – وقال الألباني حديث صحيح – انظر " صحيح الأدب المفرد " – برقم 551 )
ك - تعاهد النفس بالوعظ ومجالس الذكر ومصاحبة أهل الإخلاص 0
ل - تذكّر عظم نعمة الله سبحانه على المرء وشكرها، ونسبتها إلى مسببها ، والاعتراف بها ظاهراً وباطناً 0
م - اعتياد الطاعات بحيث تصير جزءاً لا يتجزأ من حياة المرء 0
بعد عرض موضوع الاخلاص بكل تفصيلاته وكذلك موضوع الرياء وحرص المسلم حرصا شديدا على اتقاء مسألة الرياء ، أقول وبالله التوفيق :
اولا : من خلال استعراض كثير من مواقف المذكور وبعده عن منهج الكتاب والسنة واقوال علماء الأمة يخشى ان يقع في هذا الداء العظيم ، وبخاصة لو تمعنا بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كما ورد اعلاه " لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ " 0
ثانيا : عرض كثير من المقاطع والتي يستعرض فيها قدراته وكأنه أصبح عيسى ابن مريم بمعجزاته من احياء الموتى وابراء الأعمى والأبرص وما شابه ذلك ، وهذا مما لا شك فيه قد يوقع بالعجب والخيلاء ، ولا ننسى عند ذكر هذا حديث أبو هريرة – رضي الله عنه – انه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي :
( قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : الكبرياءُ ردائي ، والعظمةُ إزاري ، فمَن نازعَني واحدًا منهُما ، قذفتُهُ في النَّارِ )
( وقال الألباني " حديث صحيح " – انظر صحيح الجامع - برقم " 4309 " )
تقول لجنة الإشراف العلمي منهج العمل في الموسوعات - الدرر السنية : ( الكِبرياءُ والعَظمةُ وما يُقارِبُهما مِن المعانِي مِن الصِّفاتِ التي اختصَّ المولى عزَّ وجلَّ بها نفْسَه عن سائرِ الخلقِ، وهي في حَقِّه سبحانَه صفاتُ كمالٍ، وأمَّا في حقِّ الخَلقِ فهي صفةُ نقْصٍ 0
وفي هذا الحَديثِ القُدسيِّ، يقولُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: قال اللهُ عزَّ وجلَّ الكِبرياءُ رِدائي ، أي الشَّرفُ والترفُّع على كلِّ مَن سِواه , بأن يَرى لذاتِه سُبحانه فَضلًا وشرفًا عليهِم ، و" الرِّداءُ " : ما يلبَسُه الرجلُ على الرأسِ والكَتِفينِ، وهذا من بابِ تَقريبِ المعانِي بضَربِ الأمثالِ ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شيءٌ ، ولا تُمثَّلُ صِفاتُه بصِفاتِ المخلوقينَ ، وقد قالَ تعالى : ( " وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ " ( سورة الجاثية – الآية 37 ) ؛ فهوَ المتفرِّدُ به في الكونِ كلِّه ، ولا يجوزُ للعِباد أن يتَّصِفوا بها؛ فقد توعَّد اللهُ المتكبِّر بجهنَّمَ؛ كما قالَ تَعالى : " قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " ( سورة الزمر – الآية 72 ) 0
" والعَظمةُ إِزارِي " ، أي : الكَمالُ والشَّرفُ والاستِغناءُ له في نفسِه سُبحانه وتَعالى ، و" الإِزارُ" : أي : ما يلبَسُه الرَّجُلُ من وسَطِه إلى قدَميْه، وهو أيضًا من باب تقريبِ المعاني ، ولا تُمثَّلُ صِفاتُ اللهِ تعالى بخَلْقِه ، " فمَنْ نازَعني واحدًا مِنهما " ، أي : مَن شارَكني وقاسَمني وحاولَ الاتِّصافَ بأيِّ واحدةٍ مِنهما ، " قَذَفْتُه " ، أي رمَيتُه وألقَيتُه في النارِ؛ لأنَّه شارَكَ اللهُ تعالى فيما يختصُّ به سُبحانَه؛ فكما أنَّ الرِّداءَ والإزارَ لا يَشترِكُ مع الإنسانِ فيهما أحدٌ ؛ فكذلِكَ الكِبرياءُ والعَظمةُ لا يَشتركُ فيهما أحدٌ معَ اللهِ سُبحانَه وتَعالى 0
ووصْفُ اللهِ تَعالى بأنَّ العَظَمَة إزارُه والكبرياءَ رِداؤُه كسائرِ صِفاته؛ تُثبَت على ما يَليقُ به سبحانَه ، والواجبُ الإيمانُ بها وإمرارُها كما جاءتْ ؛ دونَ تَحريفٍ ولا تَعطيلٍ ، ودون تَكييفٍ أو تمثيلٍ 0
وفي هذا الحديثِ : أنَّ صِفاتَ الكِبرياءِ والعَظمةِ في حقِّ اللهِ كمالٌ ، وفي حقِّ المخلوقينَ نَقصٌ 0
ثالثا : التنقل بين مدن العالم واستعراض هذه القدرات وبخاصة استخدام أسلوب الكذب تارة والتمويه تارة أخرى كما سوف يتضح لنا من خلال أقوال الاخوة الأفاضل لاحقا ، وهذا كسابقه قد يوقع في الكبر والعجب والعياذ بالله ) 0
تابع ما بعده /