موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 24-04-2023, 11:32 PM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : عبد الله بن عباس ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي

الدرس 49/50 ، سيرة الصحابي : عبد الله بن عباس ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

مع الدرس التاسع والأربعين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم علم كبير من أعلام الصحابة إنه عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه .
هذا الصحابي الجليل مَلَكَ المجدَ من كل أطرافه ، فقد اجتمع له مجد الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومجد القرابة ، فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومجد العلم ، فهو حبر هذه الأمة ، وبحر علمها الزاخر ، ومجد التُّقى ، فقد كان صوَّاماً بالنهار ، قواماً بالليل ، مستغفراً بالأسحار ، بكاءً من خشية الله ، حتى خدَّد الدمع خديه .. صار على خديه خدود من شدة بكائه ، وبكاءُ الرحمة أعلى أنواع البكاء ، والقلب القاسي أبعد القلوب عن البكاء ، ومن لم يبكِ ، أو لم يتباكَ فعنده خلل خطير ، وعلامة إيمان المؤمنين :

(سورة الأنفال)
علامة الإيمان أن جِلْدَ المؤمن يقشعر من خشية الله ، قال تعالى :

(سورة الزمر ، الآية 23)
أمَّا الذي لا يبكي ، و لا يدعو ، و لا يلجأ ، ولا يمرِّغ جبهته في أعتاب الله عز وجل فقد اختل إيمانه .
الإيمان يشمل غذاء العقل وهو العلم ، وغذاء القلب ، وهو الذكر ، أمّا غذاء الجسد فهو الطعام والشراب .
إنه عبد الله بن عباس ، ربَّاني هذه الأمة ، أعلمُها بكتاب الله ، وأفقهُها بتأويله ، وأقدرها على النفوذ إلى أغواره ، وإدراك مراميه وأسراره .
يكفيه شرفاً ما قاله فيه عليه الصلاة والسلام ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا فَأُخْبِرَ فَقَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ *
(متفق عليه)
وفي حديث آخر عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ *
(متفق عليه)
وفي رواية عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ *
(متفق عليه)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ *
(رواه أحمد)
معنى التأويل ، أي إدراكُ كلام الله عز وجل ، وإدراكُ معانيه الدقيقة ، ومراميه البعيدة، وإدراك أعماقه ، وهذه نعمة كبرى من نعم الله عز وجل .
وهذا النص وصف اللهُ به سيدنا يوسف عليه السلام فقال :

[سورة يوسف]
فأن تفهم النص فهماً عميقاً ، فهماً دقيقاً ، وتفهم مراميه البعيدة ، وتفهم أبعاده كلها ، هذه نعمة من نعم الله عز وجل ، قال تعالى :

[سورة الأنبياء]
هذا يعبّر عنه العلماء باليقين الإشراقي ، وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بل وصف سببه، قال : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْمَلْ *
(رواه أبو نعيم عن أنس)
هذا هو اليقين الإشراقي ، لكن اليقين الإشراقي يجب أن يكون منضبطاً بالكتاب والسنة .
الشيء الغريب أن هذا الصحابي الجيل لما توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام ما كانت سنه تزيد عن ثلاثة عشر عاماً ، فيا أيها الصغار أين أنتم ؟.
صحابي جليل ، حبر هذه الأمة ، عَلَم من أعلامها ، أعلمُها بكتاب الله ، حينما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ما كانت سنه تزيد عن ثلاث عشرة سنة فقط ، ومع ذلك فقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفًا وستمائة وستين حديثًا ، أثبتها البخاري ومسلم .
أثبت البخاريُّ ومسلمٌ لعبد لله بن عباس ألفاً وستمائة وستين حديثاً صحيحاً ، رواها ابن عباس عن رسول الله ، وقد سمعها منه شفاهاً ، وكانت سنه لا تزيد عن ثلاث عشرة سنة .
كان عظيماً .. والصغار المتعلِّمون عظماء ، والمتعلمون عظماء ..
لما وضعته أمه حملته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فحنكه بريقه الشريف ، فكان أول ما دخل جوفه ريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت معه التقوى والحكمة :

[سورة البقرة]
ما إن حُلت تمائمه ـ يعني فكت أربطته ـ حتى لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ملازمة العين لأختها ، فكان يُعدُّ له ماء الوضوء إذا همَّ أن يتوضأ ، ويصلي خلف رسول الله إذا وقف للصلاة ، ويكون رديفه على راحلته إذا عزم على السفر ، حتى غدا كظله ، يسير معه أنَّى سار ، ويدور معه أنى دار ، ومع ذلك كان هذا الصحابي الفتى الصغير يحمل بين جنبيه قلباً واعياً ، وذهناً صافياً ، وحافظة دونها كل آلات التسجيل ، ذاكرة رائعة قوية جداً .
قال مرةً عن نفسه : همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للوضوء ذات مرة ، فما أسرع أن أعددتُ له الماء ، فَسُرَّ بما صنعت ، ولما همَّ بالصلاة أشار إليّ أن أقف بإزائه ، فوقفت خلفه ، فلما انتهت الصلاة مال عليَّ ، وقال : ما منعك أن تكون بإزائي يا عبد الله ؟ لم تخلفت خطوة ؟
قلت : يا رسول الله ، أنت أجلُّ في عيني ، وأعزّ من أن أوازيك في الصلاة .
ما هذا الأدب ؟ .. الآن ترى معلمًا عمره خمسون سنة ، وتلميذه الصغير يمشي أمامه بمتر أو بنصف متر .
يقولون ؛ مرةً أحد رؤساء الجمهورية في فرنسا (ديغول) كان يمشي وإلى جانبه رئيس الوزارة ، فقال له : خطوة إلى الوراء يا سيد ، ليعرف الناس أن في هذا البلد رجل واحد .
رفع النبي عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ *
(متفق عليه)
فهل دعاء النبي قليل ؟ .. نبي هذه الأمة ، أقرب الخلق إلى الله عز وجل يدعو لإنسان اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ *
(رواه أحمد)
إنّ هذا شرف عظيم .
لقد استجاب الله عز وجل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، فآتى الغلام الهاشمي الحكمة ، ففاق بها أساطين الحكماء .
استمعوا أيها الإخوة إلى موقف من مواقف هذا الصحابي الجليل الفتى الصغير ؛ لما اعتزل بعض أصحاب عليٍّ وخذلوه ، في نزاعه مع معاوية رضي الله عنهما :
فعن عبد الله بن عباس قال : " لما اعتزلت الحرورية - وهم الخوارج ، وكان من أشد الناس عبادة - فكانوا في وٍاد على حدتهم ، قلت لعليٍّ : يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم ؟ فأتيتهم ولبست أحسن ما يكون من الحلل فقالوا : مرحبا بك يا ابن عباس، فما هذه الحلة ؟ قال : ما تعيبون عليَّ ... لقد رأيت علَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الحلل ، ونزل :

(سورة الأعراف ، الآية 32)
قالوا : فما جاء بك ؟ قلت : أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختَنِه ، وأول من آمن به ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ؟ قالوا : ننقم عليه ثلاثا : قلت ما هن ؟ قالوا : أولُّهن أنه حكم الرجال في دين الله ، وقد قال الله تعالى :

(سورة الأنعام الآية 57)
قلت : وماذا ؟ قالوا : وقاتل ولم يَسْبِ ، ولم يغنَم ، لئن كانوا كفارا لقد حَلَّتْ له أموالهم ، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دمائهم ، قلت : وماذا ؟ قالوا : ومحا اسمه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين .
قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم ، وحدثتكم من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا تشكون أترجعون ؟ قالوا : نعم ، قلت : أما قولكم أنه حكَّم الرجال في دين الله ، فإنَّ الله تعالى يقول :

(سورة المائدة الآية 95)
وقال في المرأة وزوجها :

(سورة النساء ، الآية 35)
أنشدكم الله أفحكمُ الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحقُّ أم في أرنب فيها ربع درهم ؟ قالوا : اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم ، قال : أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، وأما قولكم : إنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم ، أتَسْبون أمَّكم ، أم تستحلُّون منها ما تستحلُّون من غيرها ؟ فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام ، إن الله تعالى يقول :

(سورة الأحزاب الآية 6)
وأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتهما شئتم ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا فقال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، فرجع منهم عشرون ألفا ، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا .
وكان من ثمرة هذا اللقاء وما أظهره به عبد الله بن عباس من حكمة بالغة وحجة دامغة أنْ عاد منهم عشرون ألفاً إلى صفوف الإمام علي .
إذًا ليس ثمة أقوى من الحجَّة ، أحياناً تسمع قصصًا لا تنتهي ، هذه القصص كلها تنقضها آية واحدة ، إنّ فلانًا قرأ في الفنجان ، وفلانًا يعلم الغيب ، وفلانًا طمأنوه ، والله عز وجل قال :

[سورة الأنعام]
النبي عليه الصلاة والسلام على عظم شأنه وعلو قدره لا يعلم الغيب .
فلان ينفعك إذا نظر إليك ، بنظرة يتجلى الله عليك ، فلان إذا نظر إليك نظرة فتح الله بها عليك ، هذا كله ينقضه قول الله تبارك وتعالى :

[سورة يونس]
هذا مقام النبي فكيف بِمَن هو دون النبي ؟ .. فما مِن شيءٍ أروع من التوحيد ، وأروع من الحجة القوية ، والمؤمن كأنه في قلعة ، بالأدلة التي يملكها ، والحجج التي آتاه الله إياها، والكتاب الذي نوّر الله قلبه به ، والسنّة التي سالت مع دمائه ، هذا كله يجعله في حصن حصين من كل خرافة ، من كل دجل من كل تزوير ، من كل مبالغة ، لأنّ أخطر شيء في الدين المبالغات .
يعني هناك أخ لا يُنجب أولادًا ، إنه عقيم ، التقى مع رجل من أهل العلم ، ولكن من غير المنضبطين بالكتاب والسنة ، قال له : كُلْ هذه التفاحة ، وسوف تنجب إن شاء الله ! .. والذي قّدم له التفاحة عقيم !. إذا كنت أنت لا تملك لنفسك أن تنجب ولداً ، أفتملك هذا لغيرك؟.
قال الله عز وجل :

[سورة الشورى]
والله أيها الإخوة ، أتمنى وأرجو من كل واحد أن يعمل جرد حساب لتصوراته ، ولمعلوماته الدينية ، هناك أشياء غير صحيحة ، هناك عقائد فاسدة عقائد زائغة ، كل شيء تعتقده يجب أن يكون لك عليه دليل من كتاب الله وسنة رسوله ، وإلا كنتَ ضحية أفكارك الزائغة .
أريد أن أقول لكم كلمة : إنّه ما مِن عقيدة تعتقدها إلا وتظهر في سلوكك ، ولو أنه جدلاً أو فرضاً اعتقدت شيئاً ولم يظهر في السلوك فعندئذ هذه العقيدة لا قيمة لها ، وهي لا تقدِّم ولا تؤخِّر .. ولكنّ هذه العقيدة التي تعتقدها لا بد أن تظهر في سلوكك ، إذًا فانتبه .
لو أنّ إنسانًا توهَّم أن النبي عليه الصلاة والسلام ، يأتي لأهل الكبائر من أمته فيشفع لهم، هكذا توهّم ، فهذه العقيدة مؤداها خطير ، فهذا الإنسان قد يتساهل ، وينتقل من الصغائر إلى أكبر منها ، فإذا شارف على الكبائر قال : شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي *
[أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد]
فهو يردِّد هذا الحديث ، وقد خدعتهُ نفسُه الأمّارة بالسوء ، وهذا الاعتقاد يوقعه في الكبائر .
يوجد فهم سقيم جداً ، لقوله تعالى :

[سورة الفرقان]
فكلما كانت السيئة كبيرة بُدِّلت بحسنة كبيرة ، فهذا الفهم خطير جداً ، يدفع الإنسان إلى أن يرتكب أكبر الكبائر متوهِّمًا أنّ الله يبدلها له أكبرَ الحسنات ، ليس هذا هو المعنى إطلاقاً ، المعنى أن المؤمن إذا تعرف إلى الله ، وأشرق في قلبه نور الإيمان ، وتجلّى اللهُ على قلبه ، عندئذ الصفات السيئة التي كان متمثلاً بها تنقلب إلى صفات حسنة ، لقد كان بخيلاً فصار كريماً ، كان جبانًا فصار شجاعاً ، كان طائشاً فصار متزيناً ، كان ملحداً فصار منصفًا ، كان قاسيًا القلب فصار رقيق القلب .
هذا معنى الآية ، ليس معنى الآية أنه كلما ارتكبت سيئة كبيرة تنقلب إلى حسنة كبيرة ، هذا معنى خطير جداً ، وفهمٌ سقيم .
فنحن نرجو الله تعالى ألاّ يتسرب إلى عقولنا عقائد زائغة ، قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة.
وبعد أن توفي النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول هذا الصحابي الجليل عن نفسه : كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله أتيت باب بيته في وقت قيلولته ، وتوّسدتُ ردائي عند عتبة داره ، فيسفو عليّ الريح من التراب ما يسفو ، و لو شئت أن أستأذن عليه لأذِن لي ، و إنما كنت أفعل ذلك لأطيِّب نفسَه ، فإذا خرج من بيته ، و رآني على هذه الحال قال : يا ابن عمِّ رسول الله ما جاء بك ؟ هلاَّ أرسلتَ إليَّ فآتيك ، فأقول : أنا أحَقُّ بالمجيء إليك ، فالعلم يؤتَى ولا يأتي .
كان يتلطف مع أصحب رسول الله الذين سمعوا منه بعض الأحاديث ، وكان يتلطف في التأدب معهم ، حتى يعطوه مما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينام على عتبة داره ، والرياح تسفيه بالرمال ، فإذا خرج الصحابي رأى ابن عباس ؛ ابن عم رسول الله على عتبة البيت فيستحي منه ، ما الذي جاء بك ؟ قل لي أنا آتيك : لا ، العلم يؤتى ، ولا يأتي .
مرةً أحد خلفاء بني العباس حج البيت ، وقال أريد عالماً أستفيد من علمه ، فأتباعه توجهوا إلى الإمام مالك ، إمام دار الهجرة ، وقالوا له : تفضّل فالخليفة يدعوك إليه ، قال : قولوا له : يا هارون ؛ العلم يؤتى ولا يأتي .
فلما أبلغوه قال حق ، أنا آتيه ، فلما أبلغوه أنه سيأتيك ، قال : قولوا له لا أسمح لك بتخطي رقاب الناس ، قال : صدق .
فلما وصل إلى مجلس علمه جلس على كرسي ، فقال الإمام مالك : من تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه ، فقال : خذوا عني هذا الكرسي ، وجلس مع الناس .
العلم يؤتى ولا يأتي ، هذه كلمة ابن عباس ، ثم أسأله عن الحديث ، وذلك بعد أنْ أقام على باب بيته زمنًا حتى خرج .
وكان ابن عباس يذل نفسه في طلب العلم ، وهو ابن عم رسول الله ، ولكن مِن أجل أن يطلب العلم .. والحقيقة أنّ النبي الكريم يقول : تواضعوا لمن تعلمون منه ، وتواضعوا لمن تعلِّمونَه ، ولا تكونوا جبابرة العلماء *
(الجامع الصغير عن أبي هريرة)
الطالب الأديب يأخذ كل علم أستاذه عن طيب خاطر ، لكن إن كان هناك سؤال فيه جفاء، وتعليق فيه قسوة ، وانتقاد لاذع ، وسوء أدب بالمعاملة ، فهذا ينفر الإنسان .
***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
***
دخل رجل على الطبيب فشهر عليه سلاحًا ، قال : له اذهب معي في ليلاً ، ذهب الطبيب معه في الليل ، و وصف له أدوية ، كلها غير موجودة في الصيدليات .
***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
***
ورأى عالمٌ أحَدَ التلاميذ سيئ الأدب ، فقال له : يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك .
حتى الصحابة الكرام دهشوا لأدب رسول الله ، حتى قالوا متسائلين : ما هذا الأدب ؟ قال : " أدبني ربي فأحسن تأديبي *
(الجامع الصغير عن ابن مسعود)
ما رُئِيَ مادًّا رجليه قط ، اللهم صلِّ عليه ، كان رقيقًا جداً ، وكان يستحي كما تستحي العذراء في خدرها ، وما واجه أحداً من أصحابه بما يكره ، كان إذا أراد أن يوجه الناس يصعد المنبر ، والمقصود عنده واحد فيقول :
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ .....*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ......*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ ........*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ............*
مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي ..........*
(متفق عليها)
ما هذا الأدب ؟ !!
صحابي أخرج ريحًا كريهةً في حضرته ، بعد أن أكل أصحابه لحم جزور ، قال لأصحابه : " كل من أكل لحم جزور فليتوضأ " .
هذا هو الحياء ، هذا الذي انتقض وضوءه ، سوف يقوم ويتوضأ وحده ، ويتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه ، فالنبي غطى الموضوع ، قال كل من أكل لحم جزور فليتوضأ ، قالوا: كلنا أكل لحم جزور .. قال كلكم فليتوضأ ، ستراً لحاله .
قال : لا تحمِّروا الوجوه ، هذا هو الأدب الذي علمنا إيّاه النبي عليه الصلاة والسلام .
وهذا زيد بن ثابت ، كاتب الوحي ، ورأس أهل المدينة في القضاء والفقه والقراءة والفرائض ، كما يروي ذلك عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يوما ، فأخذ ابن عباس بركابه ، فقال له : تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا ،فقال زيد : أرني يدك ، فأخرج يده ، فقبَّلها ، فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
(كنز العمال)
ابن عباس أمسك له ركاب دابته ، وزيد بن ثابت قبل يده ، الأول قال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، والثاني قال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
يا أيها الإخوة ؛ مجتمع المؤمنين مجتمع راقٍ جداً ، واللهِ ينبغي أن نعيش هذه الأخلاق ، احترموا بعضكم ، يؤلمني بعض المزاح بين الشباب ، احترموا مشاعرَ بعضكم ، اعرفوا قدر بعضكم ، تكاملوا فيما بينكم ، واجعلوا من مجتمعكم مجتمعاً يشبه مجتمع أصحاب رسول الله .
أحد الصحابة قال : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس ، فإذا نطق قلت أفصح الناس ، فإذا تحدث قلت : أعلم الناس .
أجملهم وأفصحهم وأعلمهم .
بلغ هذا الصحابي الجليل من علو القدر على حداثة سنه أن سيدنا عمر بن الخطاب إذا واجهته معضلة دعا جُلَّ الصحابة ، ودعا معهم عبد الله بن عباس ، فإذا حضر رفع منزلته وأدنى مجلسه ، وقال له : لقد أعضل علينا أمراً أنت له ولأمثاله .
الصحابة الكرام تألموا ، طفل صغير يجلس بينهم ويُسأل ويُستفتى ويؤخذ رأيه من قبل أمير المؤمنين ، فمرة عاتبوا سيدنا عمر .
وعوتِب مرةً في تقديمه له ، وجعله مع الشيوخ ، وهو ما زال فتى ، فقال : إنه فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول .
مرة عرض سيدنا عمر سورة النصر على أصحاب رسول الله فقال : ماذا فهمتم منها تكلموا؟
فسأل ابن عباس قال : هي نعيُ النبي ، لقد فَهِم منها فهماً عميقاً ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ قَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ *
(رواه البخاري)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْذَنُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَأْذَنُ لِهَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَمِنْ أَبْنَائِنَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ قَالَ فَأَذِنَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالُوا أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ وَيَتُوبَ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ قُلْتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ فَقَالَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَذَلِكَ عَلَامَةُ مَوْتِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَقَالَ لَهُمْ كَيْفَ تَلُومُونِي عَلَى مَا تَرَوْنَ *
(رواه البخاري)

[سورة النصر]
يعني انتهت مهمتك ، بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وانتهى كل شيء ، ونُعِيَتْ له نفسُه .
من مواعظ هذا الصحابي الجليل ، أنه كان يقول : يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبة ذنبك ، واعلم أن ما يتبع الذنب أعظمُ من الذنب نفسه ، إن عدم استحيائك ممن على يمينك وعلى شمالك ، وأنت تقترف الذنب لا يقلُّ عن الذنب ، وإن ضحكَك عند الذنب ، وأنت تدري ، أو أنت لا تدري ما الله صانع بك أعظمُ من الذنب ، وإن فرحَك بالذنب إذا ظفرت به أعظمُ من الذنب ، وإن حزنَك على الذنب إن فاتك أعظمُ من الذنب .
وإن خوفك من الريح إذا حركت سترك وأنت ترتكب الذنب مع كونك لا تضطرب من نظر الله لك أعظم من الذنب .
يا صاحب الذنب استغفر لذنبك .
ما كان بعد الذنب أعظم من الذنب نفسه .
خرج معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين ذات سنة حاجًّا ، وخرج عبد الله بن عباس حاجًّا أيضاً ، ولم يكن له صولة ولا إمارة ، فكان لمعاوية موكبٌ من رجال دولته ، و كان لعبد الله بن عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم ، فكيف هذا ؟ الجواب :
إنّ الأقوياء ملكوا القوالب ، ولكنّ الأنبياء ملكوا القلوب .
المؤمن يملك القلب بكماله ، والملك يملك القوالب بقوته .
هذا الصحابي الجيل عُمِّر إحدى وسبعين سنة ، ملأ فيها الدنيا علماً وفهماً وحكمةً وتقى ، فلما أتاه اليقينُ صلى عليه محمد بن الحنفية ، والبقية الباقية من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، وجلَّة التابعين ، وفيما كانوا يوارونه التراب سمعوا قارئاً لم يروه يقرأ قوله تعالى:

(سورة الفجر)
أيها الإخوة الكرام ، هذا الصحابي الجليل نموذجٌ للصغار ، إن طفلاً صغيرً لا تزيد عمره عن ثلاث عشرة سنة يروي عن رسول الله ألفاً وستمائة وستين حديثًا صحيحًا ، هذا الصحابي الجليل كان مرجعًا لسيدنا عمر ، يسأله ، وهو عملاق الإسلام .
فالإنسان قيمته بما يعلم ، وقيمته بما يعمل ، وأيُّ مقياس آخر لا قيمة له ، وكما قيل : ابتغوا العزة عند الله ، ابتغوا الرفعة عند الله .. أيْ استعمل المقياس الذي يرفعك عند الله .
والحمد لله رب العالمين
الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 12:08 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com