هل ثبت عن السلف أنهم كانوا يتركون مجالس العلم في رمضان؟
عبدالله بن فهد الخليفي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإن مما اشتهر في هذه الأعصار أن السلف كانوا يتركون مجالس العلم في شهر رمضان ويتفرغون لقراءة القرآن.
والحق أن ذلك قد ورد عن ثلاثة من علماء السلف وهم الزهري وهو تابعي وعن الثوري ومالك وهما من أتباع التابعين، ولم يرد شيءٌ عن الصحابة في ذلك.
قال ابن رجب في لطائف المعارف (1/183):
(كان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن و إطعام الطعام).
قال ابن الحكم: (كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم).
قال عبد الرزاق: (كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن). اهـ
وهذه الآثار الثلاثة لم أجد لها أسانيد بعد البحث الطويل، ولم أجد أحداً ذكرها قبل الحافظ ابن رجب، وقد استعنت ببعض البرامج البحثية.
ثم وجدت سنداً لأثر الزهري:
قال ابن عبد البر في التمهيد (6/111):
حدثنا خلف بن أحمد , حدثنا أحمد بن سعيد قال: سمعت عبدالله ابن جعفر أبا القاسم القزويني يقول: سمعت طاهر بن خالد بن نزار يقول:
سمعت أبي يقول سمعت القاسم بن مبرور يقول: سمعت يونس بن يزيد يقول:
(كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام وكان ابن شهاب أكرم الناس وأخباره في الجود كثيرة جدا نذكر منها لمحة دالة). اهـ
أقول: وهذا سندٌ لا يصح فعبد الله بن محمد بن جعفر أبو القاسم القزويني
قال ابن عساكر في ترجمته من تاريخ دمشق (32/ 169): (قال ابن المقرئ هكذا حدثنا هذا الشيخ ورأيت أصحابنا ضعفوه بعد كتابنا عنه والله اعلم وأنكروا عليه أشياء). اهـ
وقال أيضاً (32/ 171):
أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني شفاها نا عبد العزيز بن احمد نا تمام بن محمد اجازة أنا أبو عبد الله بن مروان قال وكان خليفته يعني محمد بن العباس الجمحي على دمشق عبد الله بن محمد القزويني كتب إلي أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن مندة وحدثني أبو بكر اللفتواني عنه أخبرنا عمي عن أبيه ح قال اللفتواني وأنا أبو عمرو بن مندة إجازة عن أبيه أبي عبد الله قال قال أنا أبو سعيد بن يونس:
(عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني يكنى أبا القاسم كان فقيها على مذهب الشافعي وكانت له حلقة بمصر.
وكان قد تولى قضاء الرملة وكان محمودا فيما يتولى وكان يظهر عبادة وورعا وكان قد ثقل سمعه شديدا وكان يفهم الحديث ويحفظ.
وكان له مجلس إملاء في داره وكان يجتمع إليه حفاظ الحديث وذوو الأسنان منهم.
وكان مجلسه وقيرا ويجتمع فيه جمع كثير فخلط في آخر عمره ووضع أحاديث على متون محفوظة معروفة وزاد في نسخ معروفة مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه وسقط عند الناس وترك مجلسه فلم يكن يجئ إليه أحد توفي بعد ذلك بيسير). اهـ
وقال أيضاً:
(وأخذ عليه أنه كان إذا حدث يقول لأبي جعفر بن البرقي في حديث بعد حديث كتبت هذا عن أحد فكان ذاك يقول له نعم كتبته عن فلان وفلان فلما كثر هذا منه
قال له القزويني ما مثلي ومثلك إلا كشاعر جاء إلى رجل فمدحه بقصيدة فلما فرغ منها وانتظر جائزته قال له هذه قصيدة مقولة فحلف ذاك أنه ما قالها إلا هو وأنه سهر فيها حتى نظمها فقال له الممدوح أنا أنشدك إياها حتى تعلم أنها مقولة فأنشده إياها فأنكر الناس هذا على القزويني مع ما أنكروا عليه واتهموه بأنه يفتعل الأحاديث). اهـ
وفي سؤالات الحاكم للدارقطني:
[115] سألت أبا الحسن عن عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني المحدث بمصر
فقال: (كذاب يضع الحديث). اهـ
أقول: فهذا الأثر موضوع على الزهري والله أعلم.
وقال المزي في تهذيب الكمال (2/397):
وَقَال عَبد الله بن الحسين المصيصي: (سمعت عَبد الله بن يوسف يقول: سماعي [ الموطأ] من مالك عرض الحنيني، عرضه عليه مرتين، سمعت أنا وأبو مسهر.
قال: (وكان الحنيني إذا دخل شهر رمضان، ترك سماع الحديث.
فقال له مالك: يا أبا يعقوب، لم تترك سماع الحديث في رمضان ؟
إن كان فيه شيء يكره في رمضان، فهو في غير رمضان يكره ؟
فقال له الحنيني: يا أبا عَبد الله، شهر أحب أن أتفرغ فيه لنفسي.اهـ
المصيصي قال عنه ابن حبان في المجروحين:
كَانَ يَقْلِبُ الأَخْبَارَ وَيَسْرِقُهَا، لاَ يَجُوْزُ الاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ). اهـ
أقول: وهذا الأثر – إن صح - يخالف ذلك الذي أورده ابن رجب عن الإمام مالك، فظاهره أن الإمام مالك ينكر على من ترك مجالس الحديث في رمضان، ويقيس في ذلك قياساً صحيحاً، وهو أن ما كان قربةً في غير رمضان، فهو قربة في رمضان أيضاً، ولكن الأثر لا يصح عن مالك، وحتى الأثر الذي ذكره ابن رجب لو صح إلى ابن عبد الحكم فلا يصح عن مالك فإن ابن عبد الحكم لم يدرك مالكاً.
وقبل أن أن أتيح المجال للإخوة ليفيدوا بما عندهم في هذا الموضوع:
هنا عدة تنبيهات:
التنبيه الأول:
لا شك عند عموم المسلمين في فضل القرآن وضروروة العناية به لكل مسلم وأن ذلك يتأكد في رمضان.
قال أبو عبيد القاسم ببن سلام في فضائل القرآن [ 234 ]:
(حدثنا حجاج، عن شعبة، عن محمد بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث).
وقال ابن كثير في فضائل القرآن:
(ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان لأنه ابتدئ بنزوله ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله فى كل سنة فى شهر رمضان). اهـ
ولكن لا بد لقاريء القرآن من تدبره، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ** [ص: 29]
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/74):
الوجه الخامس والخمسون:
(ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة اليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل). اهـ
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (17/ 424):
(وأما النوع الثاني الجهال فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني و إن هم إلا يظنون.
فعن ابن عباس و قتادة فى قوله و منهم أميون أي غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا و قراءة بلا فهم و لا يدرون ما فيه.
و قوله إلا أمانى أي: تلاوة.
فهم لا يعلمون فقه الكتاب إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم.
قاله الكسائي و الزجاج و كذلك قال ابن السائب لا يحسنون قراءة الكتاب و لا كتابته إلا أمانى إلا ما يحدثهم به علماؤهم.
و قال أبو روق و أبو عبيدة أي تلاوة و قراءة عن ظهر القلب و لا يقرأونها فى الكتب ففي هذا القول جعل الأماني التى هي التلاوة تلاوة الأميين أنفسهم و في ذلك جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم و كلا القولين حق والآية تعمهما). اهـ
أقول: ولا شك أن تعلم السنة من أعظم ما يعين على فهم القرآن.
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ** [النحل: 44]
فلا يجوز والحال هذه، أن يجعل تعلم السنة المعين على فهم القرآن من الصد عن القرآن الذي يتأكد الإقبال عليه في شهر رمضان، بل إن تعلم السنة من أعظم ما يعين على فهم القرآن.
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 178): (والكلام في العلم أفضل من الأعمال، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل ووجه الله تعالى والوقوف على حقيقة المعاني). اهـ
قال الله تعالى:
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا** [الأحزاب: 34].
قال الشافعي في الرسالة [ ص77 ]:
(فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله). اهـ
أقول: فإذا كانت الحكمة هي السنة، فالأمر بذكرها شاملٌ لكل السنة، لا فرق بين شهر وشهر.
والزهري ومالك وسفيان إذا قرأوا القرآن، فقهوه على وجهه لما عندهم من علم الكتاب والسنة وآثار السلف، واكتمال أدوات الاجتهاد عندهم، وهذا لا يوجد في عامة أهل عصرنا.
قال زهير بن حرب في كتاب العلم [ 97 ]:
(ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال قال رجل لمطرف:
أفضل من القرآن تريدون؟
قال: لا, ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا).
وهذا يبين منهجية السلف في طلب فقه القرآن، وأن ذلك يكون بطلب الأحاديث النبوية والآثار السلفية.
التنبيه الثاني:
الأثر الوارد عن سفيان فيه أنه كان يترك جميع العبادة، يدل على أنه يترك فضول المباحات من باب أولى.
فلا يأتي شخصٌ مسرف في المباحات ولا يقبل على القرآن إقبال السلف، بل إذا قرأه هذه هذاً, ولا يفقه كثيراً منه، ثم يترك مجالس العلم بل ينكر على من يرى في يده كتاباً، أو يحضر مجالس العلم بحجة اتباع السلف!