موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

تم غلق التسجيل والمشاركة في منتدى الرقية الشرعية وذلك لاعمال الصيانة والمنتدى حاليا للتصفح فقط

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 24-04-2023, 11:55 PM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : سعد بن زيد ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي

الدرس 6/ 50 : سيرة الصحابي : سعد بن زيد ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 16 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من دروس السيرة النبويَّة ، وسِيَر الصحابة الكِرام رِضْوان الله عليهم أجْمعين ، وصحابِيُّ اليوم هو أحدُ الصحابة العَشَرة الذين بشَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنَّة ، وهو سعيد بن زَيْدٍ ، والأخْبار عنه قليلةٌ ، ولكن مع قِلَّتِها فيها دلالاتٌ كثيرةٌ .
هذا الصحابيّ الجليل ، والده اسمه زَيد بن عمرو بن نُفَيل ، كان مرَّةً في مكَّة المُكّرَّمَة ، وكانت قُرَيْش تحْتفلُ بأحد أعْيادِها ، فرأى الرِّجال يعْتَجِرون بالعَمائِم السُّنْدُسِيَّة الغالِيَة ، ويَخْتالون بالبُرودِ اليمانِيَّة الثمينة ، وأبصر النِّساء والوِلْدان وقد لبِسوا زاهي الثِّياب وبديع الحُلَل ، ونظر إلى الأنعام يقودُها الموسِرون بعد أن حلَّوها بأنواع الزِّينة ليذبحوها بين أيدي الأوثان .
وقف زيد بن عمرو بن نفيل والد سيدنا سعيد بن زيد ، مُسْنداً ظهره إلى جدار الكعبة وقال: يا معشر قريش ، الشاة خلقها الله عز وجل ، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت ، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل ، إني أراكم قوما تجهلون !
ماذا تَدُّلُّ هذه القصة ؟ النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبعث بعد ، وهذا الإنسان ما الذي جعله ينكر على قومه هذه الأفعال ؟ قال: يا معشر قريش ، الشاة خلقها الله عز وجل ، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت ، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت ، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل ، إني أراكم قوماً تجهلون .
أسألكم سؤالاً يبدو لكم أنه لا علاقة له بهذه القصة ، كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه ، لِمَ لمْ يقل النبي عليه الصلاة والسلام : أو يُسْلِمَانه ؟ لأن الإسلام هو الفطرة ، والفطرة هي الإسلام ، وهذا الإنسان جُبِلَ جِبِلَّةً ، وبُنِيَ بناءً ، وصُمِّم تصميما حيث إنه إذا عرف الله عز وجل ، وعرف أمره وطبَّق منهجه ارتاحتْ نفسه ، وإذا حاد عن منهج الله تغلي نفسه وتضطرب ، لذلك فالعصاة في حالة غليان ، و في حالة اختلال توازن ، كما سمَّاها علماء النفس ، وسمَّاها العلماء أيضاً ُعْقَدُة الذَّنْب ، فحينما خرج عن فطرته شعر بخلل، والله جل جلاله أشار إلى الفطرة قال تعالى:

[ طه : الآية 124]
هذه المعيشة الضنك حينما تسلك في الحياة سلوكاً غير سُلوك الدِّين ، وغير المنهج الذي رسمه الله لك تشعر بالاضطراب والضيق ، فالإنسان إذا أحبَّ ذاته ووُجوده ، وسلامة وُجوده وراحة نفْسه ، وأحَبَّ اسْتِقْرارها وطُمَأنينتها ، وأنْ تتنَزَّل السكينة على قلْبه فَعَلَيْهِ بِطاعة ربِّه عز وجل ، قيمة هذه القصة أنَّ والد سيّدنا سعيد بن زيدٍ عاشَ قبل بِعْثة النبي وما سمِع بالقُرآن ولا بِالنَّبي العَدنان ، ولا قرأ كتاب الله ، ولا نُقِلَتْ إليه الأحاديث الشريفة ؛ شيءٌ فِطْري فَفِطْرَته السليمة أبَتْ هذه العادات القبيحة ؛ شاةٌ خلقها الله ، والمطر الذي أنزله الله من السماء شَرِبَتْه فَرَوِيَت ، والكلأُ الذي أنْبَتَهُ الله من الأرض أكلَتْهُ فَشَبِعَت ، وبعد ذلك تذْبحونها على اسم اللات والعُزى ؟!
أيها الإخوة ؛ الله عز وجل يقول :

[ الروم : الآية 30 ]
إعْراب هذه الكلمات في هذه الآية أنَّك إذا أقمْتَ وجْهَكَ للدِّين حنيفاً ؛ إقامة وَجْهِك للدِّين حنيفاً هي عَيْنُها فِطْرة الله ، لذلك أيها الإخوة ؛ أصْدُقُكم أنَّ المؤمن المُسْتقيم على أمر الله يشْعر بِراحَةٍ نفْسِيَّة وطُمأنينةٍ وسكينةٍ ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لو وُزِّعَتْ على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم ، ويشْعُر المُعْرِض عن الله عز وجل باضْطِرابٍ واخْتِلال توازُنٍ وعُقْدة نقْصٍ ، وشُعورٍ بالذَّنْب وقلقٍ واضطراب وغَلَيانٍ لو وُزِّع على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم ، هذا الإنسان على الفِطْرة ؛ ما وصلته رِسالة الإسلام ، وما قرأ القرآن ، ولا الْتَقى بالنبي ولا سمع الحديث الشريف ولا استمع إلى خُطْبة ، إنما فطرته السليمة قادَتْهُ إلى اسْتِنكار أفْعال قُرَيشٍ .
أمَّا عمُّ زيد بن عمرو فهو الخطَّاب ؛ والد عمر بن الخطَّاب ، قال تعالى :

[ الروم : الآية 19 ]
قالوا: هذا الخطَّاب والد عمر بن الخطَّاب ؛ قام إليه فلطمه وقال : تبًّا لك ما زلنا نسمع منك هذا البذاء ؛ هذا الكلام السخيف ، ونحتمله حتَّى نفد صبرنا .
مرَّةً ثانية ، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى يوم القيامة ؛ هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل في كل عصرٍ ومصرٍ ، وفي كل مجتمع وبيئة ؛ وبين أهل الإيمان وأهل الكفر والعصيان ، المؤمنون يحبُّون الناس جميعاً ، هذه صبغة الله التي اصطبغوا بها ، لكنَّ أهل الدنيا لا يحبون المؤمنين ، دائماً يقفون في الصفِّ المعارض ، والمعركة بين الحقِّ والباطل معركة أزلية أبدية ، لذلك أيُّها الأخ الكريم ؛ وَطِّنْ نفسك أنَّك إذا اتَّبعتَ منهج الله فسيكون لك خصومٌ وأعداء ، ومنتقدون ومُجَرِّحون ، ولك من يعيب عليك ، ويبحث عن أخطائك الطَّفيفة ويكبِّرَها ، ليُثبِت لنفسه وللنَّاس أن الدِّين لا يصلح لهذا الزَّمان ، لهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : " أنت على ثُغرةٍ من ثُغَرِ الإسلام فلا يُؤْتَيَنَّ من قِبَلِك ".
المسلم ؛ أوَّلاً : هو بشرٌ ، وثانيًا : ليس معصوماً ، لكن أهل الباطل يسلِّطونُ على أخطائه الطَّفيفة أشدَّ الأضواء ، ويكبِّرُونها أشدَّ التَّكبير ، ويُشهِّرون به أشدَّ التَّشهير حتَّى يرتاحوا ؛ لأنَّهم إذا رأوا المسلم إنساناً ناجحاً منضبطاً ظهر خللُهم ونقصهم وعيبهم ، فإذا نهشُوه بألسنتهم ، وكبَّروا أخطاءَه ارتاحوا لذلك ، فالمسلم العاقل لا ينمكِّن أهلّ الباطل من خطأ عليه ، ولا يُمِّسك أهل الباطل خطأً يتاجرون به .
يُروَى أنَّ أحدَ الملوكَ الطُّغاةَ أرادَ أن يضعَ العلماءَ في موقفٍ صعبٍ ، فوضعَ لحمَ خنزيرٍ، وأمرهم أن يأكلوا منه ، ومن لم يأكل ضُرِبَتْ عُنُقُه ، أحدُ العلماء الورعين الذين أحَبَّهم الناسُ حبًّا جمًّا قُدِّم له اللَّحمُ ، وقيل له : هذا لحمُ ضَّأن وليس لحم خنزير ، جيء به لأجلك ؛ كُلْهُ ولا تَخَفْ ، فرفض أن يأكله حفاظاً على سمعة العلم ، وقال لهم : أنا آكلُ لحم الضَّأنِ ، ولكنه عند الناس لحم خنزير ، فرفض أن يأكله ، وضحَّى بحياته حفاظًا على سمعة العلم والعلماء .
إنَّ هذا الدِّين قد ارتضيتُه لنفسي ، ولا يُصلحُه إلاَّ السَّخاء وحُسْنُ الخُلق ، فأكرموه بهما ما صحِبْتُمُوه ، هناك داعية وهناك مُنَفِّرٌ - ولم ألقَ كلمة عكس الدَّاعية ونقيضًا لها إلاَّ هذه - الدَّاعية يقَرِّب ويُحبِّب و يُوصل بالله عزَّ وجل ، الدَّاعية يعطي المثل العالي ويُدهش الناسَ مِن كماله وأخلاقه ، أمَّا المُنَفِّرُ فيُبَعِّدُ ويَقطع ، فالإِساءةُ من مسلمٍ إساءتان ؛ لأنك إذا أسأْتَ يُقالُ لك : أهكذا الإسلام ؟! فلا تُنْسَبُ الإساءة إليك بل إلى إسلامك ، فكل إنسان له موضعٌ قِياديٌّ يُحاسب مرَّتين ، قال تعالى :

[ الأحزاب :الآية 30 ]
إن سيِّدنا عمر كان إذا أراد إنفاذَ أمرٍ جمع أهله وخاصته ، فقال : إنِّي قد أمرتُ الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا ، والناسُ كالطَّيرِ إنْ رَأَوْكُمْ وَقَعْتُمْ وََقعُوا ، وَايْمُ اللهِ لا أُوتَيَنَّ بواحدٍ من قرابتي وقع فيما نهيتُ الناس عنه إلاَّ ضاعفْتُ له العقوبةَ لمكانه منِّي ، فصارت القرابة من عمر مصيبة.
لذلك أيُّها الإخوة الأكارم ؛ موقفٌ أخلاقيٌّ واحدٌ خيرٌ من مئة محاضرة ، حسابٌ دقيق ، عفة في المحاسبة ، دخلٌ حلالٌ ، موقفٌ فيه شهامة فيه مروءة ، وإنصاف وتواضع ، أفضل بِكَثير للمسلمين اليوم من مُحاضرة عَصْماء بليغةٍ ، لذلك أصحاب النبي لو اكْتفَوا بِالكَلام لما خرج الإسلام من مكة المكرمة ، لكن وصل الإسلام إلى أطراف الصين وإلى وسط أوروبا عن طريق سلوكهم وأفعالهم ، قال له الخطاب : تباً لك يا زيد ! لا زِلنا نسْمع منك هذا البذاء ، ونَحْتمِلُه حتى نفِد صبرنا ، ثمّ أغرى به سُفهاء قَوْمه ، فآذَوْهُ ولَجُّوا في إيذائِهِ ، حتى نزح عن مكة ، والْتَجَأ إلى أحد جبالها وشِعابِها ، فَوَكَّل به الخطاب طائِفَةً من شباب قُرَيْش لِيَحولوا بينه وبين دُخول مكَّة فكان لا يدْخُلُها إلا سِراً لأنه قال كلمة الحق ، قال تعالى :

[ البروج : الآية 8 ]
البارحة جاءَتْني رسالة مِن مُوَظَّفٌ يعمل في محلٍّ تِجاري ؛ لأنه يغضُّ بصره عن محارم الله ، وعن النِّساء الكاسِيات العارِيات ، فَصَاحِبُ هذا المحلّ انْزَعَج ، أيُّ خِلافٍ بين مؤمنٍ وغير مؤمن أَدْخِلْهُ في قائِمة الصِّراع الأزلي الأبديّ بين الحقِّ والباطل ، إن لم تنْظُر فلا مكان لك عندي!! يجب أنْ تنْظر وتتكَلَّم وإلا تُنَفِّرُ الزبائن بِغَضِّك البصر عنهنّ ؛ هذا هو موقف صاحب المحلّ ! أمَّا زيدٌ والدُ سعيد قال : هذه الشاة خلقها الله عز وجل وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت ، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت ، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل، إني أراكم قوما تجهلون ! ضربه الخطاب ولطمه وأغْرى به السُّفهاء ، وأخرجه من مكة ومنعه من دخولها ، فكان لا يدْخُلها إلا سِراًّ ، قالوا : هذا زيد بن عمرو بن نفيل : اِجْتَمَعَ في غَفْلةٍ من قُرَيْش إلى كلٍّ من ورقة بن نَوْفَل ، وعبد الله بن جَحْش ، وعُثمان بن الحارث ، وأُمَيْمَة بنت عبد المُطَّلِب عمَّة النبي صلى الله عليه وسلّم ، وجعلوا يتذاكرون فيما غَرِقَتْ فيه قُرَيْشٌ من الضلال ، فقال زيْدٌ لأَصْحابه : إنكم واللهِ ، تعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ ! تعْبيرٌ لطيفٌ : ليسوا على شيء ؛ لا قِيَمَ ، ولا مبادئ ، ولا أهْدافَ ؛ إنما مصالحٌ وشَهْوةٌ لِحُبِّ المال ، إنكم والله، تعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ ! وأنهم أخْطؤوا دينَ إبراهيم وخالفوه ، فابْتغوا لِأنفسكم ديناً تَدينون به إن كنتم تُريدون النجاة ، معنى ذلك أنَّ زيد بن عمرو بن نْفيل شعر بِالخطر ، وأنَّ هناك هلاكًا وحِسابًا فقال : يا معْشر قُرَيش ، إنكم والله ، لتعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ ! وأنهم أخْطؤوا دينَ إبراهيم وخالفوه ، فابْتغوا لِأنفسكم ديناً تَدينون به إن كنتم تُريدون النجاة ، قال: فَهَبَّ الرِّجال الأربعة إلى أحْبار اليهود والنصارى وغيرهم من أصْحاب المِلَل ، يَلْتَمِسون عندهم الحَنِيفِيَّة دين إبراهيم ، وبالمُناسبة : استمعوا إلى هذه الآية الكريمة ، قال تعالى :

[ العنكبوت : الآية 69 ]
فإذا كنت في حَيْرَةٍ من أمْرك ، وبَحَثْتَ عن الحقيقة ، وجَهِدْتَ من أجْلها ودَعَوْتَ الله عز وجل ، وقلتَ : يا ربّ أبْتغي الحقيقة ، وأبتغي وجْهَك الكريم ورِضْوانك ، دُلَّني على ما يدُلُّني عليك ، اُرْزُقْني حُبَّك وحُبَّ من يُحِبُّك وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُني إليك ، اُرْزُقْني إلى أنْ ألْتَقِيَ مع أحْبابك، ومع من تُحِبُّهم ، فهذا الدعاء له أثره إنْ شاء الله وهذا قوله تعالى :

[ العنكبوت : الآية 69 ]
قال: أما ورقَةُ بن نَوْفَل فَتَنَصَّر ، وأما عبد الله بن جَحْشٍ وعُثمان بن الحارث فلم يَصِلا إلى شيءٍ، وأما زيد والد سيّدِنا سعيد فكانت له قِصَّة ولْنَدَعْ له الكلام لِيَرْويَها لنا :
قال زَيْدٍ : وَقَفْتُ على اليهودِيَّة والنَّصْرانِيَّة فأعْرَضْتُ عنهما ، إذْ لم أجِدْ فيهما شيئاً أطْمَئِنُّ إليه - طبْعاً بعد أنْ حُرِّفَ كلٌّ منهما - وجَعَلْتُ أضْرِبُ في الآفاق بحْثاً عن مِلَّة إبراهيم ، حتى صِرْتُ إلى بلاد الشام ، فَذُكِرَ لي راهِبٌ له علْمٌ من الكِتاب ، فأَتَيْتُه وقَصَصْتُ عليه أمْري ، فقال : أراك تُريدُ دين إبراهيم يا أخا مكَّة ، قُلْتُ : نعم ، وذلك ما أبْغي ، فقال : إنَّك تطْلب ديناً لا وجود له اليوم ، ولكِنَّ الحق بِبَلَدِك ، فإنَّ الله يبْعَثُ مِن قَوْمِك مَن يُجَدِّدُ دين إبْراهيم ، فإنْ أدْرَكْتَهُ فالْتَزِمْهُ ، وهذا مذكور في كتب النصارى ، كما يبيِّنه قوله تعالى :

[ الصفّ : الآية 6 ]
وهناك بعض الطبعات للإنجيل فيها إشارة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، منها إنْجيل بَرْنابا ، على كُلٍّ هذا الراهب أنْبأ زيد بن عمرو بن نفيل أنَّ هذا الدِّين الذي تبحث عنه غير موْجود ، فإذا عُدْتَ إلى مكَّة فقد آن الأوان لِيُبْعَثَ نبِيٌّ بِمَكَّة لِيُجَدِّدَ دين إبراهيم فإذا أدْرَكْتَهُ فالْتَزِمْهُ، فَقَفَل زيدٌ راجِعاً إلى مكَّة بِخُطىً حثيثَة اِلْتِماساً للنبيّ المَوْعود ، ولما كان في بعض طريقه بعث الله نبِيَّهُ محمَّداً بالهُدى ودين الحق ، وبينما هو في الطريق ظهر النبي محمّدٌ ، ودعا الناس إلى التوحيد ، ولكنَّ زيْداً لم يُدْرِكْهُ ، إذْ خَرَجَتْ عليه جماعَةٌ من الأعراب فَقَتَلَتْهُ ! فالعَرَب في ِالجاهِلِيَّة كانوا قُطاعاً للطرق ، ويئِدون البنات ، وهذا الذي يفْتَخِر بِمَرْحلة ما قبل الإسلام يفْتَخر بِماذا ؟! رجلٌ مَدَّ رِجْلَهُ وقال : من كان أشْرف مني فلْيَضْرِبها ، فنشِبَتْ حرْبٌ دامت عشر سنواتٍ ، عاد إلى مكة فَخَرَج عليه قطاع الطرق فقتلوه ، قالوا : وقبل أن يبلغ مكَّة ، وقبل أنْ تكْتَحِل عيْناه بِرُؤية النبي عليه الصلاة والسلام ، وفيما كان يلْفِظ أنْفاسه الأخيرة ، رفع بصره إلى السماء وقال : اللهمّ إنْ كُنْتَ حَرَمْتني من هذا الخير ، فلا تحْرم منه ابني سعيداً ! هنا وَقْفَة لطيفة، وهي : قد يكون الأب ليس من الفِئة المُتَعَلِّمة ، فإذا أنْجَبَ مَوْلوداً ووجَّهَهُ إلى العِلْم الشرعي ، وأصْبح هذا الغُلام عالِماً جليلاً ؛ فكُلُّ دَعْوة هذا الغُلام في صحيفة الأب ، فما أجْمل الدُّعاء ! فالذي عنده ابن يا إخْوان ، عليه أنْ يعتني به كثيراً ؛ بِتَعْليمه العلمَ الشرعي ، والآداب الإسلاميَّة ، ويدْفَعُهُ إلى مَرْضاة الله ، لأنَّ كلّ أعمال الابن في صحيفة الأب ، فزيدٌ لم يلتقِ بالنبي ، ولكنَّ هذه الدَّعْوة تركتْ أثراً كبيراً ، قال : اللهمّ إنْ كُنْتَ حَرَمْتني من هذا الخير ، فلا تحْرم منه ابني سعيداً! أما أنْ تتزَوَّج وتتْرُك أولادك في ِالطُّرقات ، يمارَسُون هِواياتهم ، ويشبّون على معْصِيَة الله ، وقد تذهب أخلاقهم ، فهل هذه أُبُوَّة ؟! في حين أنّ هناك من يُنْفِقُ أكثر وَقْتِه في تَرْبِيَة ابنه ، فهذا الذي يُنْفقُ وَقْته في تَرْبِيَة ابنه يُعْتبر هذا أهمُّ وَقْتٍ تُنْفِقُهُ في حياتك ، لأنَّ ابنك اسْتِمْرارٌ لك ، وخليفةٌ لك ، وكلّ الخير الذي يظهر من ابنك في صحيفتك ، من أراد ألاّ يموت وأنْ يبْقى ذِكْره حياًّ فعليه بِتَرْبِيَة ابنه ترْبِيَةً إسلاميةً صحيحة ، فَلَعَلَّهُ ينْفع الناس من بعْده ، والإنسان إذا مات انْقطع عمله إلا من ثلاث : أحد هذه الثلاث ولدٌ صالحٌ يدْعو له ، فهذا كانت له حُرْقة ، وهي تَمَني لِقاء النبي ، ولكنَّ فضل الله عز وجل كبير ؛ فإنَّك إنْ كنتَ في أوَّل الطريق وجاءتْك المَنِيَّة فإنّ اللهَ عز وجل يُحاسِبُك الله وكأنَّك بلَغْتَ نِهاية الطريق ، وهذا من كرم الله عز وجل ؛ إنسان خرج من بيته يطلب العلم فإن أدْرَكَتْهُ المَنِيَّة فهو في ذِمَّة الله ، وكأنه بلغ نِهاية العِلْم ؛ وهذا من كرم الله عز وجل ، فربنا عز وجل اسْتجاب لِزَيْدٍ دَعْوَته الحارَّة ، وسيّدنا سعيد بن زيد ما أَنْ بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام حتى بادر إلى الإيمان به ، وكان من السابقين السابقين ؛ آمن به من قبل أنْ ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار الأرقم ، والحقيقة أنّ سيّدنا سعيد بن زيْدٍ أسْلَمَ وأسْلَمَت معه زوْجته فاطمة بنت الخطاب ؛ أُخْتُ عمر بن الخطاب ، وقد لَقِيَ هذا الفتى القُرَشي من قومه ما كان خليقاً أنْ يفْتِنَهُ عن دينه ، فلقد آذتْهُ قريشٌ وضغطتْ عليهِ ، إلا أنه اسْتطاع أنْ يأخذ منها عمر ابن الخطاب ، وهنا وقفةٌ جديرة ؛ وهي أنَّ الله عز وجل إذا أكرمك بِهِداية إنْسان فلن يسْبِقَكَ؛ مادام عن طريقك فَكُلُّ أعْمالك في صحيفتك ؛ ضغطوا عليه ، وآذَوْه لكنه اسْتطاع أنْ ينتزع منهم عِمْلاقهم سيّدنا عمر ، حتى إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يدْعو ويقول : اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ ؛ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ *
[ رواه الترمذي عن ابن عمر]
وقِصَّة إسْلام عمر قِصَّةٌ مؤَثِّرة جداً ؛ بلغه أنَّ أُخْته قد أسْلَمَتْ فانْطَلَق لِيَقْتُلها ، وسمع القرآن الكريم فَلانَ قلبه ، وخشع فُؤاده ، وانْهَمَرَتْ دُموعه ، واتَّجَهَ نحو النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد تَوَجَّس أصْحاب النبي خيفَةً من عمر بن الخطاب ، فإذا هو قد جاء مُسْلِماً !! قد يكون شخصٌ عبئًا على الإسلام ، وآخر في خِدْمة الإسلام ، فَسَيِّدُنا عمر واحدٌ كَأَلْف، وشاء الله أنْ يسلم على يد سعيد بن زيد وأخته فاطمة ، فمهما لَقِيَ سعيد من اضطهاد من قومه لكنَّ الله عز وجل وفَّقَهُ إلى أنْ يجعل هذا الإنسان العظيم يُسْلِمُ على يَدَيْه ، فَسَيِّدُنا عمر في صحيفة سيّدنا سعيد بن زيد وفي صحيفة أُخته فاطمة بنت الخطاب .
سيّدنا سعيد بن زيد حينما أسلم ، كانت سِنُّهُ لا تزيد عن عشْرين عاماً ، وأنا أقول لكم : يا معْشر الشباب كلما بَكَّرْتُم بمَعْرِفَة الله كُلَّما شَكَّلْتم حياتكم وِفْقَ منهج الله ، واخْتَرْتُم مهْنَةً تُرْضي الله، وألْصق شيءٍ بالإنسان مَن ؟ زوْجَتُهُ ومهنتُه ، فإن اخْتار زوْجَةً فاسِدَةً مِن أهل الدنيا ، شَهْوانِيَّة شيْطانِيَّة ، ثمَّ اهْتدى إلى الله عز وجل فإنّه يتَمَزَّقُ تَمَزُّقاً لا حُدود له ، فهو في وادٍ وهي في وادٍ !! ولا شيءَ أسعد للمؤمن من زوْجَةٍ تُعينه على دينه ، ولا أسعد للمؤمن من أنْ يصلي قِيامٍ ليلٍ مع زوْجَته ؛ يوقِضُها أو توقِضُهُ ، ولا شيءَ أسعد للمؤمن من أنْ يكون هو وأهله على شاكلةٍ واحدة ، لذلك كلما بكَّرْتُم بِمَعْرِفة الله شكَّلْتم حياتكم وِفْقَ مَنْهَج الله ؛ فإذا اِخْتَرْتم زَوْجاتٍ وِفْق منهج الله سَعِدْتم بِهِنّ وسَعِدن بِكم .
سيّدنا سعيد بن زيد شَهِد مع النبي عليه الصلاة والسلام المشاهد كلَّها ، إنّها هِمَّة عالية ؛ وقد يقول لك أخٌ : أنا آتي للدرس الجمعة والسبت والأحد ، نقول له : تُشْكر على هذه الهِمَّة العالية ، ونسأل اللهَ عز وجل أنْ يُبارك له في وقْته ؛ هُمْ في مساجِدِهم ، والله يُبارك لهم في حوائِجِهم ، قال تعالى :

[ الليل : الآية 5-13 ]
إذا كان الله معك فَمَن عليك ؟! وإذا كان عليك فمن معك ؟! يا رب ماذا فَقَدَ من وَجَدك ، وماذا وجد من فقدك ؟! قال تعالى :

[ الأحزاب : الآية 41 ]
فقد كان الصحابة أعلى منازل من شباب زماننا، فيقولون لك : شَهِد المشاهد كلَّها ، بدْرًا وأُحدًا والخندق وحُنينًا وتبوكَ ومُؤتة ، أما الآن فلا حرْب ولا غزوة ، وما عليك إلا أن تحضر الدرس وتسْتمع إلى كلام الله ، والسنَّة النبوية المطهَّرة ، ولأقوال الصحابة ومواقفهم المُشَرِّفة ، ثمّ إنَّ المسجد نظيف ، وهناك تكْبير صوت ، وتَهْوِيَة وتدْفئة مرْكزيَّة ، لا تحْتاج عند الدخول إلى وَصْل أو قسيمة أو اسْتِلام ، عكسَ دُخولِك للمحامي أو الطبيب ، فإنّه يكلِّفك مالاً كثيرًا ، لكن بيْتَ الله دُخوله سَهْل ، إذاً هذا الصحابي شَهِد المشاهد كلَّها إلا بدْراً ، لكنه تخَلَّف عن بدْرٍ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كلَّفَهُ بِمُهِمَّة ، فلما عاد إلى المدينة كان النبي قد خرج إلى بدْرٍ فلما لَحِقَ بالنبي عليه الصلاة والسلام كانت المعركة قد انتَهَتْ ‍، فالنبي عليه الصلاة والسلام أعْطاه سَهْماً ، وكأنه قد شَهِدَ بدْراً إكْراماً له .
هذا الصحابي الجليل ، سعيد بن زَيْد أسْهَم مع المسلمين في اسْتِلاب عرْشِ كِسْرى ، وتقْويض مُلْك قيْصَر ، وكانت له في كُلِّ مَوْقِعَةٍ خاض غمارَها المسلمون مواقف مشْهودة ، وأيادٍ بيْضاءُ حميدة ، ومن أرْوَعِ بُطولاته يوْمَ اليَرْموك ، فقد قال : لما كان يوم اليرْموك كنا أربعةً وعشرين ألْفاً ، أو نحْواً من ذلك ، فَخَرَجَتْ لنا الروم بِعِشْرين ومئة ألف - أما نحن المسلمين الآن فمليار ومئتا ألف !! وكَلِمَتُهُم ليست هي العُلْيا ، والعالم كلهُ خمسةُ مِلْيارات - وأقْبلوا علينا بِخُطىً ثقيلة ، كأنهم الجِبال تُحَرِّكُها أيْدٍ خَفِيَّة ، وسار أمامهم الأساقِفَة والبطارقة والقِسِّيسُون يحْمِلون الصُّلْبان ، وهم يَجْهَرون بالصلوات فَيُرَدِّدُها الجَيْش من ورائِهم ، ولهم هزيمٌ - دَوِيٌّ - كَهَزيم الرعد ، عِشْرون ومئة ألف أمام أربعةٍ وعشرين ألفًا ! فلما رآهم المسلمون على حالتهم هذه هالَتْهُم كثْرَتُهُم ، وخالط قُلوبهم شيءٌ من خَوْفِهم ، فعنْدها قام أبو عُبَيْدة بن الجراح أمينُ هذه الأمة يَحُضُّ المسْلمين على القِتال ، فقال : عِباد الله ، اُنْصُروا الله ينْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامكم ، عباد الله اصْبِروا فإنَّ الصبر منْجاةٌ من الكُفْر ، ومرْضاةٌ للربِّ ، ومدْحَضَةٌ للعارِ ، أشْرِعوا الرِّماح ، واسْتَتِروا بالتُّروس ، والْزَموا الصَّمْتَ إلا من ذِكْر الله تعالى في أنفسكم حتى آمركم إنْ شاء الله ، أحْياناً موقِفٌ واحدٌ يُغَيِّر مجْرى معْركة ، قال سعيد بن زَيْد : عند ذلك خرج رجُلٌ من صُفوف المُسْلمين ، وقال لأبي عُبَيْدة : إني أزْمَعْتُ أنْ أقْضِيَ نحبي الساعة ، فَهَل لك من رِسالة تبْعَثُ بها للنبي صلى الله عليه وسلَّم ؟! هكذا كان الصحابة ؛ رأى المَوْت وبعده الجنَّة ، رأى الموتَ يتألَّق ، فقال أبو عُبَيْدة : نعم ، أقْرِئه مني ومن المسلمين السلام ، وقُل له يا رسول الله : إنا وجَدْنا ما وعدنا ربنا حقاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام لما انْتَهَتْ معركة بدْرٍ ، ورأى صناديد قُرَيْش قد قُتِلوا وهم جُثَثٌ مُتَفَسِّخة خاطبهم واحدًا واحداً : يا شيبةُ ، يا عُتْبة ، يا فُلان ، وتَرْوي كُتُب السيرة أنهم خاطَبَهُم فَرْداً فرْداً ، قال : هل وجَدْتم ما وعَدَ ربكم حقاً ؟ فإني وَجَدْتُ ما وعدني ربي حقاً ؛ لقد أخْرَجْتُموني وآواني الناس ، وخَذَلْتُموني ونصَرَني الناس ، قالوا : يا نَبَيَّ الله ، أَتُخاطِبُ قومًا جَيَّفوا ؟! قال : ما أنتم بِأَسْمَع لما أقول منهم ، ولكنَّهُم لا يُجيبونني ، فهذا الرجل الشُّجاع الذي قال: إني أزْمَعْتُ أنْ أقْضِيَ نحبي الساعة ، فهل لك من رسالةٍ تبْعَثُها لِرَسول الله ؟ فقال أبو عُبَيْدة : نعم ، أقْرِئه مني ومن المسلمين السلام ، وقُل له : يا رسول الله إنا وجَدْنا ما وعدنا ربنا حقاً .
أحدُ الصحابة خاضَ معركةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فلما انْتَهَت المعْركة وَوُزِّعَتْ الغنائِم أعْطَوْهُ نصيبهُ فقال : ما هذا ؟! قالوا : هذا غنيمةٌ لك ، فقال : ما أسْلَمْتُ على هذا ! أنا أسْلَمْتُ وعاهَدْتُ الله على الموت لا على أخذ الغنائم ، فلما بلَّغوا النبي تأثَّرَ تأثُّراً شديداً ، وفي المعْركة القادمة وُجِدَ مقْتولاً ، ومن شِدَّة ما مثَّل به الكُفار لم تَعُدْ تبْدو ملامِحُهُ ، إنما عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ من خَنْصَرِهِ ، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام : هذا الذي رفض أن يأخذ الغنيمة وقال : آمنتُ على الذَّبح ، فقال عليه الصلاة والسلام : هو هو، قالوا : هو هو ، فَبَكى النبي عليه الصلاة والسلام .
قال سعيد فما إنْ سمِعْتُ كلامه ورأيته يمْتَشِقُ حُسامه ، ويَمْضي إلى لِقاء أعْداء الله حتى خررتُ إلى الأرض ، وجَفَوْتُ على رُكْبَتَي ، وأشْرَعْتُ رُمْحي ، وطَعَنْتُ أوَّل فارِسٍ أقبل علينا ، ثمَّ وَثَبْتُ على العَدُوّ ، وقد انْتَزَعَ الله كُلّ ما في قلبي من الخوف ، فالإنسان إذا نوى أعانه الله ، وبِالمُناسبة مرَّ معي قَوْلٌ مأثورٌ يُعْزى إلى النبي عليه الصلاة والسلام :" ما كان الله لِيُعَذِّب قَلْباً بِشَهْوَةٍ تركها صاحِبُها في سبيل الله " حينما تخْتارُ اخْتِياراً صحيحاً فالله عز وجل يمْلأُ قلبك غنىً وشَجاعَةً وطُمَأنينةً ، إذا خاف الناسُ فأنت مُطْمئِنّ ، وإذا ارْتَعَدَت فرائِص الناس فأنت مُتماسِك ، فهذا الصحابي يقول : لقد انْتَزَعَ الله كل ما في قلبي من الخوف ، فثار الناسُ في وُجوه الروم ، وما زالوا يُقاتِلونهم حتى كُتِبَ لهم النَّصْر ؛ أربعة وعشرون ألفاً انْتصروا على مئة وعشرين ألفاً! عِلْماً أنه إذا الْتقى مؤمن وكافر فالمَعْركة قصيرة لأن الموازين لِصالِح المؤمن والله معه ، وإذا الْتقى الكُفار مع بعضهم بعضاً فإنَّ المعركة تطول ، لأنَّ الموضوع للقُوَّة من السِلاحٍ والتكنولوجيا، كلُّ المُقَوِّمات التي يقولها الناس تدْخل في الحِسابات ، أما إذا كان فريق مؤمنٌ وفريقٌ غير مؤمن فالمعركة يحْسِمُها الله عز وجل بِتَأييده للمؤمنين .
سيِّدُنا سعيد بن زيد شَهِد فَتْح دِمَشْق ، فلما دانت للمسلمين بالطاعة جعله أبو عُبَيْدة بن الجراح والِياً عليها ، فكان سعيد أوَّل من وَلِيَ إمْرةَ دِمَشْق من المُسْلمين وهناك اسْتِنْباطٌ آخر ، في زمن بني أُميَّة وقعتْ لسيِّدنا سعيد بن زيد حادثة ظلّ أهل المدينة يتحدَّثون بها زمناً طويلاً ، وهذه القِصَّة أيها الإخوة تقع في كُلِّ زمان ، ذلك أنَّ أرْوَى بنت أُوَيْس زعمتْ أنَّ سعيد بن زيد - الصحابي الجليل وأحد المُبَشَّرين بالجنَّة - قد غَصَب شيئاً من أرضِها وضمَّها إلى أرْضه ، وجعلتْ تلوك ذلك بين المُسلمين ، وتتحدَّثُ به إلى أنْ رفَعَتْ أمْرها إلى مروان بن الحكم والي المدينة ، امرأةٌ أرادت أنْ تُشَهِّر بهذا الصحابي زاعِمَةً أنه أراد اغْتِصاب أرضِها وضمَّها إلى أرضه ، ولاكتْ هذا بِلِسانها ، وأذاعَتْهُ ونشَرَتْهُ ، وأرادتْ أنْ تفْضَحَهُ ، وأنْ تطْعن في أمانته ، وأنْ تهزَّ مكانته ، ولم تكْتفِ بِهذه الإشاعات وهذا الإرْجاف ، بل رفعتْ شَكْوى إلى والي المدينة ، واضْطرّ الوالي أنْ يُرْسِل إليه أشْخاصاً لِيُحَقِّقوا في الأمر ، فأرسل مروان بن الحكم أُناساً يُكَلِّمونه بِذلك ، فَصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله ، فأحْياناً يكون الشخصٌ له دَعْوة إلى الله ، ومؤمن ومسْتقيم ، يأتي خصْمٌ له يتَّهِمُهُ باتِّهامات لا أصْل لها ، بل باطلة ، ثمّ يُرَوِّجُها ، وذلك غافِلٌ عن كلِّ هذا ، حتى يصل الأمر إلى أنْ تسمع كلّ البلدة عما أذيع عنه ؛ أين دينه واسْتِقامته ؟ لأنَّ الشيطان يؤُزُّ الكافرُ أزاًّ ، فهذا الصحابي الجليل تألَّم أشّدَّ الألم ، وهل معْقولٌ أنْ يعْتدي هذا الصحابي المُبَشَّر بالجنة على أرْضِها ؟ وأين قَوْلُ النبي واتِّباعُ السُّنة ؟ وأين اسْتِقامته وطهارته وعِفَّتهُ ؟ إذا كان لك أخٌ مؤمن وتعرفه حقَّ المعْرفة وسَمِعْتَ عنه قِصَّة بِإمْكانك أنْ تنْفِيَها عنه وأنت مُطْمَئِنّ ، لا يُعْقَلُ أنْ يفعل هذا ، سيِّدُنا الصِّديق قيل له : اُنْظر ما قال صاحِبُك ؛ إنه ذهب إلى بيت المقْدِس ، وكانوا أساساً غير مُعْترفين به كَنَبِيّ ، وفوق هذا وذاك قال لهم : إنْ قال هذا فقد صَدَق ، فمن أساء الظنَّ بِأخيه المؤمن فقد أساء الظنَّ بِرَبِّه ، هذا مؤمن ويعرف الله ، ولا يسْتطيع أنْ يأكل دِرْهمًا حرامًا ، الإيمان قَيْدُ الفَتْك ، وحينما يُتَّهَمُ المؤمن يهْتزُّ عرشُ الرحمن ، إنسانٌ مُسْتقيمٌ عرف الله ، والْتَزَم أمْره ، وضَحى بالغالي والرخيص ، والنفْس والنَّفيس ، ثمَّ تَتَّهِمُهُ أنت ، وبِبَساطةٍ !! فَهذه المرأة أساءتْ إلى هذا الصحابي إساءةً بالغة ؛ يبْدو أنها شيْطان ، وأنَّ الشيْطان يؤُزُّها أزاًّ ؛ فشَهَّرتْ وأرْجَفَتْ ، ونشرتْ القِصَّة ، واشْتَكَتْ ، فصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله وقال :
يَرَوْنني ظالِماً أظْلِمُها ، فكيفَ أظْلِمُها وقد سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : من ظلمَ شِبْراً من أرْضٍ طُوِّقَهُ يوم القِيامة من سبْعِ أرضين" اللهم إنها قد زعَمَتْ أنني ظلمْتُها ، فإنْ كانت كاذِبَةً فأعْمِ بصَرَها وألْقِها في بِئرها الذي تُنازِعُني فيها ، وأظهرْ من حقي نوراً يُبَيِّنُ للمسْلمين أنني لم أظْلِمْها " يا رب انْصُرني ، وأظهِر الحق ، وابْتَهَل إلى الله عز وجل من أعْماق قلبه ، فالله عز وجل استجاب له ، وأظْهرُ الحق .
إنَّ المؤمن ليس له اخْتِيار إذا رأى أمر الله وأمر رسوله فالله عز وجل قال :

[ الأحزاب : الآية 36 ]
وإذا قال الله أو قال رسولُه فالمؤمن يقول : سمعًا وطاعة .
حديثٌ عن رسول الله سَمِعَهُ بِأُذُنه من النبي صلى الله عليه وسلَّم :" من ظلمَ شِبْراً من الأرْضٍ كلَّفه الله تعالى أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين ثمّ يطُوِّقُهُ يوم القِيامة حتى يقْضي بين الناس"
[ رواه الطبراني في الكبير ]
وقال :" اللهم إنها زعَمَتْ أنني قد ظلمْتُها فإنْ كانت كاذِبَةً فأعْمِ بصَرَها ، وألْقِها في بِئرها الذي تُنازِعُني فيها ، وأظهر من حقي نوراً يُبَيِّنُ للمسْلمين أنني لم أظْلِمْها " يقولون : لَحْمُ العُلماء مسْموم فإذا انْزَعَجْتَ من إنسانٍ له دَعْوة فلا تكِدْه لأنَّ الله أكبر .
قال : فَلَمْ يمْضِ على ذلك إلا القليل حتى سال العقيق - وهو وادٍ في المدينة ويذكرُهُ المُنشدون - سال هذا الوادي سيْلاً لم يسِل مثله قطّ فَكَشَفَ عن الحدِّ الذي كانا يخْتَلِفان فيه ، وظهر للناس جميعاً أنَّ سعيداً كانَ صادِقاً ، ولم تَلْبث المرأة بعد ذلك إلا شَهْراً حتى عَمِيَتْ ، وبينما هي تطوفُ في أرْضِها تِلك سَقَطَتْ في بئْرها ، قال عبد الله بن عمر : فَكُنا ونحن غِلْمان نسْمع أحدهم يقول للآخر : أعْماك الله كما أعمى أرْوى ، فأصْبَحَتْ مضرب المثل ، وجعلها الله نكالاً ، فعلى الإنسان ألاّ يقترب من حدود شَخْصٍ من ذوي الخير ، ومن أصْحاب الدعوة ، ومن شَخْصٍ تسْتفيد منه الناس ، عليك أنْ تبْتعد عنه ، وقُلْ : حَسْبِيَ الله ونِعْم الوكيل ، ولا عَجَبَ في ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : اتَّقوا دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حِجاب "
[ رواه أحمد ]
فإذا شكاك إنسانٌ إلى الله ينْبغي - إنْ كنتَ تعرف الله - أنْ ترْتعدَ فرائِصُك ، وألاّ تنام الليل .
هناك خَبَرٌ في كتاب صِفَة الصَّفْوة ، يقول : له مِن الولد عبد الله الأكبر ، هذا واحد ، وعبد الله الأصغر ، وعبد الرحمن الأكبر ، وعبد الرحمن الأصغر ، وإبراهيم الأكبر ، وإبراهيم الأصغر ، وعمرو الأكبر ، وعمرو الأصغر وطلحة ، ومحمد ، وخالد ، وزيد ، واُمُّ الحَسَن الكبرى ، وأمُّ الحسن الصغرى ، وأمُّ حبيب الكبرى ، وأمُّ حبيب الصغرى ، وأمُّ زيد الكبرى والصغرى ، وعائِشَة ، وعاتِكَة وحَفْصَة وزَيْنب وأمُّ سلمة وأمُّ موسى وأمُّ سعيد ، وأمُّ النعمان ، وأمُّ صالح ، وأمُ خالد وأمُّ عبد ، ودَجْلة ، رزَقَهُ الله أولاداً كُثراً .
الآن ما الذي يُؤكِّدُ أنه من أصْحاب الجنَّة ؟ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى التِّسْعَةِ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ آثَمْ قِيلَ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَاءَ فَقَالَ اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ قِيلَ وَمَنْ هُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قِيلَ فَمَنْ الْعَاشِرُ قَالَ *
[رواه الترمذي]
كان العَشَرَة المُبشَّرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبل حِراء ، قال له : اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ، وذكر من كان على الجبل .
[ رواه الترمذي]
قال سعيد بن زيد : أشْهد أني سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : أبو بكرٍ في الجنة وعمر في الجنَّة وعثمان في الجنَّة ....وسعْدُ في الجنَّة قال : فإن شِئتم أخْبرتكم بالعاشر وقال : أنا " وهذه أكبر شهادة أنْ يقول لك النبي : أنت من أهل الجنَّة " وعلماء العقيدة يقولون : ليس من أهل الجنَّة على التحْقيق إلا هؤلاء العشرة ، والبَقِيَّة على الرجاء ، والذين على التحقيق فهم العشرة المُبَشَّرون من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ويبدو أنهم بذلوا كلّ شيء ، وأحبوا رسول الله حباًّ جماً ، ولكن أبواب البُطولة مفْتوحة ، فالله هو ربنا ، والأعمال الصالحة مُتاحَةٌ لكم جميعاً ، فبِإمكانكم أنْ تطلبوا المال ، وأن تبْذلوه ، وأن تدعوا إلى الله ، وأنْ تلْتَزِموا الشرع ، وأنْ تكونوا قُدْوَةً لِغَيْرِكم ، كلُّ هذا بِإِمْكانكم لأنَّ الله عز وجل قال :

[ الواقعة : الآية 13-14 ]
عدد غفير ولكن بالنسبة للآخرين هم قليل ، فإذا كنتم طموحين ، وأردتم أنْ تبْلغوا أعلى المراتب عند الله عز وجل ، كما قال النبي الكريم :" ابتغوا الرِّفْعة عند الله .." لتبتغيها أيها المؤمن عند الله، ولا تبْتغها عند أهل الدنيا .
وهذه هي قصَّة سيّدنا سعيد بن زيد وقصة أبيه ، وفي هذه القِصَّة على قِلَّة أخْبارها عِبَرٌ واضحة ، ولكنها تحْمل اسْتِنْباطات كثيرة ؛ فالأب قال داعيًا : اللهم إن حَرَمْتني هذا الخير العظيم فلا تحْرِم منه ابني سعيدًا ، فَكُلُّ واحدٍ منا إذا كان له ابنٌ فعليه أنْ يعْتني به أشَدَّ العِناية ؛ لِيُعَلِّمْهُ العِلم الصحيح ، ليُراقب سُلوكه ، ولِيَدْفَعه لِطاعة الله ، فإذا نجا وأفْلح كان كلُّ عمله في صحيفة أبيه ، كما أنَّ عمل سيِّدنا سعيد بن زيدٍ في صحيفة والده زيد بن عمرو بن نفيل .
والحمد لله رب العالمين


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 05:23 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com