حدّثته كثيراً وحدّثني ثمّ اتفقنا على...
وصلنا أخيراً إلى البحر...!
في رحلة مع الأقارب والأصدقاء...
تسارع الجميع إليه في اندهاش وكأنهم يحاولون الإمساك به قبل أن يتبخر!
أمّا أنا فلم أبرح مكاني! بقيتُ أتأمّله وأسبّح الله...
.....................
.........
...
ثــمّ...
خطوت خطوتي الأولى نحوه؛ فرأيتُ موجه يعلو في غضَب!
وسمعته يصيح في وجهي: إني سـئمت غفلة البشر ولَهْوَهم...!
سمعته يئنّ... يرسل آهاته وتسبيحاته بتتابع...! يستغفر الله ممّا يرى ويسمع...
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44] وجاء في الحديث القدسي: (ما من يوم إلا ويستأذن البحر ربه، يقول: يا رب ائذن لي أن أهلك ابن آدم فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، وتقول الأرض: يا رب ائذن لي أن أبتلع ابن آدم فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، وتقول السماوات: يا رب ائذن لي أن أطبق على ابن آدم فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، فيقول لهم الله: دعوهم، لو خلقتموهم لرحمتموهم).
- يا بحر! إنّي أتيتك متأمّلة، مستغفرة، شاكرة، داعية؛
فاهدأ ورحّبْ بي... واستقبِلْني بسرور؟!
ثمّ أغمضتُ عينيّ وتفكّرت: ليت موجك يا بحر يغمر قلبي؛ فيغسله من الخطايا والذنوب...! هيّا تقدّم...
عندها علا الموج أكثر! وصاح البحر: إلى ماذا تستمعين؟! إيّاك أن تقتربي...!
- إنّني أستمع إلى ترتيل لآياتٍ من القرآن الكريم؛ فهو أجمل ما يُستمع إليه في هذا المكان... انصت أيّها البحر معي: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
عندها اطمئنَّ! فاستطعتُ الاقتراب منه! والجلوس إلى جانبه؛
لأبوح له ويبوحَ لي... لأفهمه ويفهمني...
- هل تعلم يا بحر؟! أنا أحبّ الماء جدّاً! ليس في لينه وعطائه فحسب! بل وفي عنفوانه أيضاً...
- لا تتعجّب يا صديقي! فقد منحني عنفوان الماء أكثر ممّا منحني عطاؤه وحنانه في الحرّ وعلى الظمأ! قد منحني لذة وطعماً وحلاوة لم أذقها قط في حياتي! "لا إله إلا الله" وحده! علّمني عنفوان البحر الإخلاص! والتجرّد واللجوء إلى الله...
لا زلت أذكر مشهد الغرق! وغضب الماء! وصوت الموج! وخوفنا! لا زالت صيحات الصّغار وآهات الكبار تدقّ مسمعي، إنّها ذكرى تسبّب لي قشعريرة! فلم يكن أمامنا سوى أن نقول "يا ربّ" بصوت متوسّل! وإخلاص لذيذ! وبكلّ القلب لا ببعضه! ربّما أنّني تمنّيت زوال المحنة وقتها ولكنّي تمنّيت أيضاً أن لا يزول الشعور!
ما أجملَ الإخلاص أيّها البحر! وما ألذ طعمه!
إنّه غذاء القلب وراحته وقوّته واستغناؤه عمّا سوى الله...
ولكنّه صعب! أليـس صعباً أيّها البحر؟!
امتدّ البحر أمام ناظري؛ ليُجيبني...
- كم أنت كبير أيّها البحر! لكن رحمة الله أكبر...
وكم السّماء واسعة! لكن رحمة الله وسعت كلّ شيء!
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله...
شعرت بأنّ قلبي يتليّن! والدّماء تتدفق في عروقي...
- مضى الوقتُ سريعاً معك أيّها البحر...
سأذهب الآن... إلى اللقاء يا صديقي... إلى اللقاء...
- مهلاً! أهكذا يفترق من اجتمع على طاعة الله، ولله؟!
- عذراً أيّها البحر! تملّكني جمال الاستغفار والتأمّل في عظمة الله!
- اقتربي ثانية... سأهديك هدية، وأنصحك نصيحة؛
هديتي من مائي لتتوضئي به،
ونصيحتي: لزوم الاستغفار...
أرأيتِ ما يفعل الماء حين ينزل على الأرض اليابس؟
كمثل ذلك وأكثر يفعل الاستغفار مع القلب؛ فاجعلي قلبك رطباً بالاستغفار دائماً...
توضأت بماء البحر في السّحَر وردّدت بعد الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله اللهمّ اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين... اللهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدّنس... اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد.
ولكن هل يُتْقِنُ ويَفْقَهُ البحرُ تسبيحه وعبادته لله أكثر منّي!
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله...
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [سورة النور 41]