وصف شمس الدين الموصلي في القرن الرابع عشر الميلادي :
أصبحت أفقر من يروح ويغتدي
ما في يدي من فاقة إلا يدي
في منزل لم يحو غيري قاعدا
إذا رقدت رقدت غير ممدد
لم يبق فيه سوى رسوم حصيرة
ومخدة كانت لأم المهتدي
ملقى على طراحة في حشوها
قمل كمثل السمسم المتبدد
والفأر تركض كالخيول تسابقت
من كل جرداء الأديم واجرد
هذا ولي ثوب تراه مرقعــا
من كل لون مثل ريش الهدهد
جاء في ديوان أبي النواس :
رأيت الفضل مكتئبا
يناغي الخبز والسمكا
فأســبل دمعه لما
رآني قادمــــــا وبكى
فلما ان حلفت له
بأني صائم ضحكــــ
حافظ ابراهيم لم يملك غير ان يستجدي حذاء من جاره حامد سري ليلبسه ويحضر به حفلة عرسه. قال:
أحامد كيف تنساني وبيني
وبينك يا أخي صلة الجوار
أيشبع مصطفى الخولي وأمسي
أعالج جوعتي في كسر داري
وبيتي فارغ لا شيء فيه
سواي وإنني في البيت عاري
ومالي «جزمة» سوداء حتى
أوافيكم على قرب المزار
ومضى الشاعر ليستجدي منه الطعام ايضا:
وعندي من صحابي الآن رهط
إذا أكلوا فآساد ضواري
فإن لم تبعثن اليّ حالا
بمائدة على متن البخار
تغطيها من الحلوى صنوف
ومن حمل تتبل بالبهار
فإني شاعر يخشى لســاني
وسوف اريك عاقبة احتقاري
لماذا أوغل الشعراء في ذم البخل والبخلاء ،ووصف حياة الفقر المؤلمة ، بروح السخرية على الأغلب ؟؟؟
سؤال يسافر عبر العصور المختلفة .... ليكشف عن حال " التجويع الشعري " الذي حصل ولا زال ،
وليس جوع المعدة فقط ، وأن دخلتُ من هذا المدخل فحسب ، تحفّظا وتحسّبا .....
بل جوع العاطفة .. جوع القلب ....جوع أي شيء !
نريد ببساطة ان نعرف السبب الحقيقي قبل ان تُصاب قصائدنا بالقحط والجفاف التام ، حيث يصبح العلاج صعبا ، بطبيعة الحال ..
هل هذه " الجوعيات " مسيطرة على الشعر العربي بسبب معاناة الفقر والجوع التي لا زال الانسان العربي مرتميا بين احضانها ،؟؟ هل الفقر ....الفقر المادي ..الفقر العاطفي ..الفقر الاجتماعي .... هو نوع الواقع الاجتماعي الذي شكّل الأرضية لهجاء وذم البخلاء ، ووصف الحياة المجدبة ، وخريف العمر ؟
أليس هذا الانكشاف التام وفتح جميع الاوراق هو مدعاة للإفلاس الدائم .?
أم أن على الشعر أن يوطّن نفسه مع الإفلاس ..الإفلاس من كل شيء .؟
ولن ينزل الشاعر لاستخلاص قعر الشعر القويم الا ان كان مفلسا ماديا .. وعاطفيا ....??
هل الشعراء أنفسهم هم المسؤولون عن فقر رصيدهم الانساني بسبب حياتهم التي اتسمت على الاغلب بالمجون والاستهتار والفذلكة المتواصلة حتى في وصف همومهم وتجاربهم المؤلمة..والعديدة ؟؟
هل لأنهم وضعوا أنفسهم حماة لشريحة معينة من المجتمع تميز بالبطالة والفقر والبخل ، أو وضعوا أنفسهم منظّرين لمكسوري الروح والقلب ، فانعكس هذا على طبيعتهم وجعلهم لا يتوقون الى مقومات الحياة الراقية السعيدة ؟
حتى وان فرضنا توفر عناصر الماء والخضراء والوجه الحسن ؟
أم أنهم كانوا يشهرون سلاح الشعر في وجه أي حاكم يتوانى عن اغداقهم بالهدايا والعطايا ، فكانوا يعطونهم قسرا خوفا من أن يقوم لسانهم الشعري في تأريخ ملحمة في هجائهم؟؟
ولو فرضنا أن شاعر العصر القديم يهدف الى سد جوعه او ستر عورته من خلال التكسب الشعري بالهجاء والثناء ، فإلامَ يهدف شاعر العصر الحديث من خلال هذا النوع من الأشعار الجائعة ؟
أم ان الشاعر يستلذ الواقع المؤلم ، ويستجدي نظرة عطف من الآخر حتى يقول فيه كلمة طيبة ،أو يحن عليه الآخر فيعطيه مشاعر يستجديها ؟؟
لطالما كشفت الكثير من الاشعار الحالة المادية و النفسية العاطفية أو الواقعية أو الاجتماعية أو السياسية ،،،وحتى المرضية لبعض الشعراء ، ومن هنا أتوجه بدعوة عامة الى جميع الشعراء ،، أن يرتدوا الكثير من الملابس ، فأجمل الشعر وأجوده ما أُحيط بغلالة كثيفة تشير بشكل غامض ضمني ، فإن طاوعه القلم على السفور التام ، فإن قصيدته وكلماته تفقد جمالها وكينونتها وسريتها وغموضها ..وشاعريتها ورقتها ...
وعذرا لجميع الشعراء السابقين ، واللاحقين ....
فالشعر فن....
والفكر فن آخر ....
وللفنون.... جنون . !