فصـــل
( كَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) .
أي : وكفارة الظهارة : عتق رقبة ، فإن يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً .
والدليل على ذلك :
قال تعالى ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) .
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ : ابْنُ الْعَلاَءِ الْبَيَاضِيُّ قَالَ : كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لاَ يُصِيبُ غَيْرِي ، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنَ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَابَعُ بِي حَتَّى أُصْبِحَ ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ ، إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ ، وَقُلْتُ امْشُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللهِ e قَالُوا : لاَ وَاللَّهِ ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ e فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةُ ؟ قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ مَرَّتَيْنِ وَأَنَا صَابِرٌ لِأَمْرِ اللهِ ، فَاحْكُمْ فِيَّ مَا أَرَاكَ اللَّهُ ، قَالَ : حَرِّرْ رَقَبَةً ، قُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا ، وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي ، قَالَ : فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، قَالَ : وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلاَّ مِنَ الصِّيَامِ ، قَالَ : فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) رواه أبو داود .
أولاً : عتق رقبة .[ أي تخليصها من الرق ] .
أولاً : قال ابن قدامة :...أَنَّ كَفَّارَةَ الْمُظَاهِرِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، عِتْقُ رَقَبَةٍ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
ثانياً : يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
أ- حملاً للمطلق هنا على المقيد في آية القتل
ب- ولحديث الجارية ( قال لها رسول الله: أين الله ؟ قالت: في السماء ، فقال: من أنا ؟ قالت: أنت رسول الله ، قال : أعتقها فإنها مؤمنـة ) رواه مسلم .
وجه الدلالة : أنه علل جواز إعتاقها عن الرقبة بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة.
ثالثاً : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا رَقَبَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا .
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْلِيكُ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ ، وَيُمْكِنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا مَعَ مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا ، فَلَا يُجْزِئُ الْأَعْمَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ فِي أَكْثَرِ الصَّنَائِعِ ، وَلَا الْمُقْعَدُ ، وَلَا الْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ آلَةُ الْبَطْشِ ، فَلَا يُمْكِنْهُ الْعَمَلُ مَعَ فَقْدِهِمَا ، وَالرِّجْلَانِ آلَةُ الْمَشْيِ ، فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ تَلَفِهِمَا ، وَالشَّلَلُ كَالْقَطْعِ فِي هَذَا .
وَلَا يُجْزِئُ الْمَجْنُونَ جُنُونًا مُطْبِقًا ، لِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ ، ذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالْعَمَلِ .
وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي . ( المغني ) .
رابعاً : وَيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ ، لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ وَالْإِجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ ، فَأَشْبَهَ الْعَمَى .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ ، وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ الْمَنَافِعَ ، وَالْعَوَرُ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ .
وَيُفَارِقُ الْعَمَى ؛ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا ، وَيَمْنَعُ كَثِيرًا مِنْ الصَّنَائِعِ ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ .
وَيُفَارِقُ قَطْعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِإِحْدَاهُمَا مَا يَعْمَلُ بِهِمَا ، وَالْأَعْوَرُ يُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا يُدْرِكُ بِهِمَا . ( المغني ) .
خامساً : وَيُجْزِئُ الْأَحْمَقُ ، وَهُوَ الَّذِي يُخْطِئُ عَلَى بَصِيرَةٍ ، وَيَصْنَعُ الْأَشْيَاءَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، وَيَرَى الْخَطَأَ صَوَابًا ، وَمَنْ يُخْنَقُ فِي الْأَحْيَانِ ، وَالْخَصِيُّ ، وَالْمَجْبُوبُ ، وَالرَّتْقَاءُ ، وَالْكَبِيرُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ، لَا يَمْنَعُ تَمْلِيكَ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ ، فَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهِ كَالسَّالِمِ مِنْ الْعُيُوبِ . ( المغني ) .
ثانياً : صيام شهرين متتابعين .
أجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً ، أَنَّ فَرْضَهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) .
أولاً : يجب التتابع في صيامهما ، فلو أفطر بينهما يوماً واحداً من غير عذر استأنف من جديد .
قال ابن قدامة : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ ، ثُمَّ قَطَعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَأَفْطَرَ ، أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِوُرُودِ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهِ ، وَمَعْنَى التَّتَابُعِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ صِيَامِ أَيَّامِهَا ، فَلَا يُفْطِرُ فِيهِمَا ، وَلَا يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ . ( المغني ) .
وقال : ... وَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرَيْنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، أَوْ قَطَعَ التَّتَابُعَ بِصَوْمِ نَذْرٍ ، أَوْ قَضَاءٍ ، أَوْ تَطَوُّعٍ ، أَوْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّتَابُعِ الْمَشْرُوطِ ، وَيَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَاهُ .
ثانياً : فإن تخلل هذا القضاء شهر رمضان ، فإنه يصوم رمضان ثم يكمل من اليوم الثاني من شوال .
ثالثاً : إن تخلله فطر واجب كعيد الفطر أو الأضحى أو أيام التشريق لم ينقطع .
رابعاً : إن أفطر بعذر يبيح الفطر فإن التتابع لا ينقطع ، أما إذا تحيل بالسفر على الفطر فإن التتابع ينقطع .
فالخلاصة : أن التتابع في الصيام لا ينقطع في ثلاث مسائل :
إذا انقطع التتابع بصوم واجب كرمضان .
وإذا انقطع لفطر واجب كالعيدين وأيام التشريق .
وإذا انقطع التتابع لعذر يبيح الفطر في رمضان .
خامساً : إن أفطر لصوم مستحب انقطع التتابع .
سادساً : المذهب : المعتبر بالشهرين الأهلة إذا ابتدأ من أول الشهر سواء كان 30 يوماً أو كان 29 يوماً .
وإن ابتدأ من أثناء الشهر فالمعتبر العدد .
مثال : رجل صام من (1) محرم، وكان محرم (29) يوماً ينتهي الشهر, وكان مثلاً صفر (29) يوماً فإنه يجزي ويكون صام (58) يوماً .
لكن إن صام من أثناء الشهر فالمعتبر العدد، فلو صام من اليوم ( 11 ) من محرم ، فإنه ينقضي الشهر الأول ( 11 ) من صفر، ثم يشرع في ( 12 ) صفر وينقضي الشهر ب( 12 ) من ربيع الأول . فيكون قد صام ( 60 ) يوماً .
والصحيح أن المعتبر بالشهرين الأهلة مطلقاً سواء صام من أول الشهر أو من أثنائه .
سابعاً : فإذا جامعها في أثناء الشهرين نهاراً فإنه يستأنف الصيام من جديد وهذا بالإجماع .
أما الجماع بالليل هل يقطع التتابع ؟ قولان للعلماء :
قيل : يقطع التتابع .
لعموم الآية ( ... فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) . فالله أمر بصيام الشهرين خاليين من الوطء ، فإن وطىء ليلاً لم يصدق أنه صام الشهرين خاليين من الوطء .
وقيل : إذا أصابها ليلاً أثم بوطئه قبل إتمام الصوم ، لكن لا ينقطع التتابع .
وهذا قول الشافعي واختاره ابن المنذر وابن قدامة .
لأن وطء الليل لا يبطل الصيام ، فلا يُوجب الاستئناف .
وقالوا : لأن التتابع في الصيام معناه : اتباع صيام يوم بالذي قبله ، وهذا حاصل .
ثالثاً : فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً .
قال ابن قدامة : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ الرَّقَبَةَ ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ ، أَنَّ فَرْضَهُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ، وَجَاءَ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ e سَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ لِكِبَرٍ ، أَوْ مَرَضٍ يَخَافُ بِالصَّوْمِ تَبَاطُؤَهُ أَوْ الزِّيَادَةَ فِيهِ ،
أولاً : الواجب إطعام ستين مسكيناً لا يجزىء أقل من ذلك ، فمن أطعم واحداً [ 60 ] يوماً لم يكن أطعم إلا واحداً فلم يمتثل الأمر .
قال ابن قدامة : الْوَاجِبُ فِي الْإِطْعَامِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا ، أَجْزَأَهُ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ( فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) .
وَهَذَا لَمْ يُطْعِمْ إلَّا وَاحِدًا ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ الْأَمْرَ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، فَلَمْ يُجْزِئْه . ( المغني ) .
ثانياً : يجزىء كل شيء يكون قوتاً للبلد ، لأن الله تعالى قال ( إطعام ستين مسكيناً ) ولم يخصص من أي نــوع ، فيرجع ذلك إلى ما جرى به العرف . وهذا اختيار ابن تيمية .
وذهب بعض العلماء : أنه لا يجزىء من الطعام إلا ما يجزىء في صدقة الفطر .
ثالثاً : لا يجزىء إخراج القيمة في كفارة الظهار .
وهذا مذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
لقوله تعالى (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) .
وجه الدلالة : أن الشارع أمر بالإطعام ، ومن أخرج القيمة لم يصدق عليه أن أطعم المساكين .