البرزخ والنعيم والعذاب
أنه ينبغى أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة
قال تعالى ((ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون))
وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة وسمى عذاب القبر ونعيمه وأنه روضة أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق
فالمصلوب والحرق والغرق وأكيل السباع ! والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذى تقتضيه أعماله وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما
فقد ظن بعض الأوائل انه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادا وذرى بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال قم فإذا هو قائم بين يدى الله فسأله ما حملك على ما فعلت فقال خشيتك يا رب وأنت أعلم فما تلافاه أن رحمه
فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال حتى لو علق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما
فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها يصرفها كيف يشاء ولا يستعصى عليه منها شيء أراده بل هى طلوع مشيئته مذللة منقادة لقدرته ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته
......معادين... وبعثين
أن الموت معاد وبعث أول فإن الله سبحانه وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزى فيهما الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى
فالبعث الأول..... مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول
والبعث الثانى..... يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار ! وهو الحشر الثانى
ولهذا في الحديث الصحيح وتؤمن بالبعث الآخر فإن البعث الأول لا ينكره أحد وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هاتين القيامتين وهما الصغرى والكبرى في سورة المؤمنين وسورة الواقعة وسورة القيامة وسورة المطففين وسورة الفجر وغيرها من السور
وقد اقتضى عدله وحكمته أن جعلها دارى جزاء المحسن والمسىء ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثانى في دار القرار كما قال تعالى ((كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ))
وقد اقتضى عدله وأوجبت اسماؤه الحسنى وكماله المقدس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم..... فلا بد أن يذيق بدن المطيع له وروحه من النعيم واللذة ما يليق به ويذيق بدن الفاجر العاصى له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه ...هذا موجب عدله وحكمته وكماله المقدس
ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك
وأما البرزخ فأول دار الجزاء فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار وتقتضى الحكمة إظهاره فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفي أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها وهو مشتق منه وواصل إلى أهل البرزخ هناك كما دل عليه القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في غير موضع دلالة صريحة
كقوله فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها وفي الفاجر فيفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها
ومعلوم قطعا ان البدن يأخذ حظه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظها فإذا كان يوم القيامة دخل من ذلك الباب إلى مقعده الذى هو داخله وهذان البابان يصل منهما إلى العبد فى هذه الدار أثر خفي محجوب بالشواغل والغوشي الحسية والعوارض ولكن يحس به كثير من الناس وإن لم يعرف سببه ولا يسحن التعبير عنه فوجود الشيء غير الاحساس به والتعبير عنه فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذينك البابين أكمل فإذا بعث كمل وصل ذلك الأثر إليه فحكمة الرب تعالى منتظمة لذلك أكمل انتظام في الدور الثلاث !
مسائل السراج........حكمة عدم ذكر عذاب القبر فى القراءن
اما عمن سال ما الحكمة من عدم ذكر عذاب القبر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقى
فالجواب من وجهين مجمل ومفصل
أما المجمل ....فهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما وهما الكتاب والحكمة وقال تعالى.... وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة
وقال تعالى ...هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة
وقال تعالى ....واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات الله والحكمة
والكتاب هو القرآن والحكمة هى السنة باتفاق السلف وما أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكره إلا من ليس منهم وقد قال النبي ....إنى أوتيت الكتاب ومثله معه
وأما الجواب المفصل ...فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع فمنها قوله تعالى ((ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن اياته تستكبرون))
وهذا خطاب لهم عند الموت وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون
ومنها قوله تعالى ((فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب))..... فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره
ومنها قوله تعالى ((فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون))..... وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا وقد يقال وهو أظهر أن من مات منهم عذب في البرزخ ومن بقى منهم عذب في الدنيا بالقتل وغيره فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ
ومنها قوله تعالى ((ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ))
وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شيء لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعى به رجوعهم عن الكفر ولم يكن هذا ما يخفي على حبر الأمة وترجمان القرآن لكن من فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر
فانه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا فدل على أنه بقى لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا ولهذا قال من العذاب الأدنى ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله
وهذا نظير قول النبي ((فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها)).... ولم يقل فيأتيه حرها وسمومها فإن الذى وصل إليه بعض ذلك وبقى له أكثره والذى ذاقه أعداء الله في الدنيا بعض العذاب وبقى لهم ما هو أعظم منه
ومنها قوله تعالى ((فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو الحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ))
فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية إن هى أهم وأولى بالذكر وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام
ومنها قوله تعالى (( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى بك راضية مرضية فادخلى في عبادى وادخلى جنتى ))
وقد اختلف السلف متى يقال لها ذلك فقالت طائفة يقال لها عند الموت وظاهر اللفظ مع هؤلاء فانه خطاب للنفس التي قد تجردت عن البدن وخرجت منه وقد فسر ذلك النبي بقوله في حديث البراء وغيره فيقال لها اخرجى راضية مرضيا عنك
وقوله تعالى ((فادخلى في عبادى)).... مطابق لقوله ((اللهم الرفيق الأعلى ))
وأنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وبالله التوفيق
و الحمد لله رب العالمين اللهم صلى وسلم وبارك على الرسول الامين اللهم اغفر ورحم والداى وزوجتى والمؤمنين