ولما كان هذا النوع من الفقه ـ أعني فقه الواقع ـ بهذه المثابة من التخبيط والتخليط،كان لعلمائنا نظرة خاصة فيه للمحاذير التي نبَّه عليها العلامة ربيع ابن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ حيث قال: " إنّ من أغرب ما يقع فيه المتحمسون لفقه الواقع أنهم يقدّمونه للنّاس وكأنّه أشرف العلوم وأهمها، ولقد غلا فيه بعضهم غلوا شديدا فجعل العلوم الشرعية من مقوماته، ونسج حوله من الهالات الكبيرة، بمالم يسبقه إليه الأولون والآخرون، وهو في حقيقته لا يسمى علما ولا فقها، ولو كان علما أو فقها فأين المؤلفات فيه؟! وأين علماؤه وفقهاؤه في السابق واللاحق؟! وأين مدارسه؟! لماذا لا يسمى علما ولا فقها إسلاميا؟ لأنه ذو أهداف سياسية خطيرة منها:
أ ـ إسقاط المنهج السلفي؛ لأن فقه الواقع لايختلف عن مبدإ الصوفية في التفريق بين الشريعة والحقيقة؛ إذ هدفهم من ذلك إسقاط الشريعة.
ب ـ الاستيلاء على عقول الشباب والفصل بينهم وبين علماء المنهج السلفي، بعد تشويه صورتهم بالطعون الفاجرة.
جـ ـ اعتماده على التجسس، فالإخوان المسلمون وإن كانت لهم شبكات تجسس واسعة على أهل الحديث والسلفيين إلا أنهم يعجزون تمام العجز عن اكتشاف أسرار الأعداء وإحباط خططهم، وواقعهم في مصر وسورية والعراق أكبر شاهد على ذلك.
د ـ أنه يعتمد على أخبار الصحف والمجلات التي تحترف الكذب، وعلى المذكرات السياسية التي يكتبها الشيوعيون واليهود والنصارى والعلمانيون والميكافيليون وغيرهم من شياطين السياسة الماكرة، الذين من أكبر أهدافهم تضليل المسلمين ومخادعتهم واستدراجهم إلى بناء خطط فاشلة على المعلومات التي يقدّمونها.
هـ ـ من أركان هذا الفقه المزعوم التحليلات السياسية الكاذبة الفاشلة، وقد أظهر الله كذبها وفشلها، ولا سيما في أزمة الخليج.
و ـ أنه يقوم على تحريف نصوص القرآن والسنة، ويقوم على تحريف كلام ابن القيم في فقه الواقع.
ص ـ قيامه على الجهل والهوى حيث ترى أهله يرمون من لا يهتم بهذا الفقه بالعلمنة الفكرية والعلمية، وهذا غلو فظيع قائم على الجهل بالفرق بين فروض الكفايات وفروض الأعيان، لو سلمنا جدلا أن هذا الفقه الوهمي من فروض الكفايات.
ح ـ يرتكز هذا العلم المفتعل على المبالغات والتهويل، حيث جُعلت علوم الشريعة والتاريخ من مقوماته، فأين جهابذة العلماء وعباقرتهم عن هذا العلم وعن التأليف والتدريس فيه والإشادة به والتخصص فيه وإنشاء الجامعات أو على الأقل أقسام التخصص فيه؟!
ط ـ ولما كان هذا الفقه بهذه الصفات الذميمة لم ينشأ عنه إلا الخيال والدواهي من الآثار، فمن آثاره تفريق شباب الأمة وغرس الأحقاد والأخلاق الفاسدة في أنصاره، من بهْت الأبرياء والتكذيب بالصدق وخذلانه وخذلان أهله، والتصديق بالكذب والترّهات، وإشاعة ذلك، والإرجاف في صورة موجات عاتية، تتحوّل إلى طوفان من الفتن التي ما تركت بيت حجر أو مدر أو وبر إلا دخلته.
أما فقه الواقع الذي يحتفي به علماء الإسلام، ومنهم ابن القيم، والسياسة الإسلامية العادلة، فمرحبا بهما وعلى الرأس والعين، وإن جهلهما وتنكَّر لهما الإخوان المسلمون ... ".
متفقهون حول الواقع لا يفقهون الواقع
أنقل هنا كلمات بحذافيرها من أشرطة مسموعة لدعاة تحدّثوا عن القضيّة السياسية الدّعوية التي بالجزائر، وهم ككثير من الشباب المتحمّس يوجِبُون بلا هوادة التفقّه في الواقع ويَنْعَون على غيرهم ـ خاصة من أهل العلم الكبار كالشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين ـ جهلهم بالواقع، وقد رأيت أنهم أحقّ بهذا النعي؛ لأنهم نقلوا واقعاً مشوّهاً غير صحيح.
هذا عن الجزائر فقط دون متابعتهم في أخبار غيرها، ونحن نعيش في الجزائر نسمع من أشرطتهم غير مانرى، وقد اتصلنا ببعضهم مراراً وأبلغناهم أخطاءهم دون فضحهم، فلم نجد منهم تجاوباً، فقلنا: لعلّنا مجهولون عندهم، وهم على طريقة أهل الحديث في عدم قبول خبر المجهول، ولهم في ذلك كل الحق لأنّه عنوان التّحريّ لولا أنّنا وجدناهم يعتمدون أخبار الكفار بالتجري! مع أنّ الكافر شرّ من مجهول المسلمين بلا ريب، وهم يناشدون الخلق على أن يأخذوا بمنهج الموازنة بين المنقبة والعيب!
على كل حال فإنّ كاتب هذه السّطور حاول الاتّصال بالدكتور سفر الحوالي مراراً، أقلّها ثلاث مرّات! وفي كلها يعتذر بكثرة الأشغال مع ضيق الوقت ـ أعانه الله على طاعته، لكن قد وصل إليه غيري ممن نعرفه ويعرفه، فأفاده ما في نفسي وزاد وأجاد، فحمدت الله على بلوغ المراد، ووعد الدكتور ألاّ يعتمد مستقبلاً إلا على هذا المصدر الموثوق، لكن لم يطل الزّمن حتى عادت ( حليمة إلى عادتها القديمة! )، فرابني أمرُه وأمرُ جماعته لأنّ مثل هذا التصلّب في الباطل عرفناه مِمَن أخبارُهم لا تنبع من واقعٍ ما بقدر ما هي تنتمي إلى تحزّب ما!!
خاصة وأنهم في كل مرّة يصلون قضيّة الجزائر بقضايا في السّعودية ينكرونها، فيقولون: كيف لا تتجاوب الدولة السّعودية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي بلغت من الطّهر كذا وكذا، على حين تجاوبها مع الحكومة الجزائرية التي بلغت من الرِّجس كذا وكذا، وربما حكوا أنّ بينهما دعماً ماديّاً، فلم يجدوا سبيلا إلى الإنكار على دولتهم إلا باستغلال قضايا العالم كواسطة، ومنها اضطرّوا إلى تحجيم الحق الذي لدى جبهة الإنقاذ، وتقليص باطلها، بل الغضّ منه! كما ستقرؤه هنا وإليكم فقه الواقع!
منقول من كتاب
مدارك النَّظر في السّياسة
بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية