مفهومالانتماءللسُّنَّة
هشامعبدالقادرآل عقدة
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , أما بعد ... فيقول ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - : "السُّنَّة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه , السالمة من الشبهات والشهوات , ثم صار معنى السنة - في عُرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم - عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات , خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , وكذلك في مسائل القَدَر وفضائل الصحابة , وصنفوا في هذا العلم تصانيف , وسموها كتب السنة , وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة ؛ لأن خطره عظيم , والمخالف فيه على شفا هَلَكَة"(1) .
ويقول ابن حزم - رحمه الله - : "وأهل السنة أهل الحق ومَن عداهم أهل البدعة , فإنهم الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن سلك نهجهم من خيار التابعين - رحمة الله عليهم - ثم أصحاب الحديث ومَن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا ومَن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها (رحمة الله عليهم)" (2) .
وتبين مما سبق أن للسنة في الشرع معنيين : الأول معنى عام قديم : وهو طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عموماً , وأهل السنة هم أهل الحق , علماؤهم وعوامهم , والثاني معنى خاص عند المتأخرين (3) وهو العقيدة السليمة .
وحديثنا عن مفهوم الانتماء للسنة أردنا منه الانتماء لطريق النجاة , وذلك لا يكتمل إلا بالانتماء للسنة بمعنييها الخاص والعام وأعظم الناس انتماءً لها أعظمهم التصاقاً بها , علماً واعتقاداً , وعملاً وسلوكاً , ودعوةً لها ودفاعاً عنها , وسبيلنا إلى معرفة طريقته - صلى الله عليه وسلم - ما وصلنا من الأخبار المتضمنة لأقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وصفاته وتقريراته , والتي تمثل المَحَجة البيضاء وطريق الهدى والحق , ومن ثم فإنه يدخل في الانتماء للسنة أمور عدة , وأعظم الناس انتماءً للسنة أعظمهم تحقيقاً لهذه الأمور , ونستطيع أن نجملها فيما يلي :
أولاً : اعتقاد حُجيتها :
فأول ما يجب علينا تجاه السنة النبوية أن نعتقد حجيتها , وأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله (جل وعلا) , والبعْدية هنا في الفضل , أما في الاحتجاج فحجية السنة كحجية الكتاب , ومن واجبنا أن نعتقد أن كليهما وحي من عند الله (جل وعلا) .
فعن حسان بن عطية قال : "كان جبريل ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن" (4) .
وقال - تعالى - : (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ)[النساء:113](5) وقال - تعالى- : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى(4))[النجم](6) ؛ ولذا عنون الخطيب - في "الكفاية" - بقوله : ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله وحكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي السنن عن المقدام بن معديكرِب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه , ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن , فما وجدتم فيه حلالاً فأحلوه , وما وجدتم فيه حراماً فحرموه , ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله"(7) والأدلة على حجية السنة كثيرة مشهورة , والكلام في ذلك يطول فنكتفي بهذه الإشارة الموجزة الواضحة .
ثانياً : عدم معارضتها بآراء الرجال وأذواقهم , والذبّ عنها وردّ شبهات المنافقين واللادينيين والعقلانيين :
الواجب تقديم النقل على العقل , وفي الحقيقة ليس في السنة الصحيحة ما يعارض العقل الصحيح أو صريح المعقول وحيثما توهمنا التعارض في الظاهر فلنعلمْ - دون تردُّد - أن الحق ما جاءت به السنة الصحيحة وأن العقل - لا محالة - سيدرك ذلك عاجلاً أو آجلاً .
وقديماً قيل ما قيل في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسْه ثم ليطرحْه , فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً ؛ وإنه ليتقي بجناحه الذي فيه الداء" , وفي رواية : "وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء"(8) , فقدح البعض في الحديث بعقولهم على الرغم من صحة سنده , ثم تأتي الأيام ويصل العلم الحديث لإثبات ذلك ويكتب أستاذ في طب العظام في جامعة الإسكندرية(9) موضحاً توصُّل العلم - بعد قرون طويلة - إلى ما ذكره المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويكتب آخرون في بلدان أخرى مؤيدين , وكذلك استنكر بعضهم الأمر بالغسل بالتراب في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً , إحداهن بالتراب" ثم أثبتت فيما بعد تجارب أُجريت في أسبانيا أن في لعاب الكلب جراثيم لا يكفي الماء في إزالتها وأن التراب يزيلها (10) , وإذا بالعقل يعلم أنه قد تهور في ثورته على هذين الحديثين , وكان عليه أن يلزم حده ويقدم الخبر الصحيح .
ورحم الله مَن قال :
تمسكْ بحبل الله واتبعْ الهدى ولا تكُ بدعياً لعلك تفلحُ
ولُذْ بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنجو وتربحُ
ودعْ عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأرجحُ
وكذا قول القائل :
دين النبي محمد أخبار نِعْمَ المطية للفتى الآثارُ
لا ترغبنَّ عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهارُ
ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوارُ
ولنا أسوة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعظيمهم السنة واعتبارهم الحكمة في الشيء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - , فكان ثبوت الأمر عنه - صلى الله عليه وسلم - أكبر حكمة , ودليلاً مقنعاً للعقل , فحين سئلت عائشة (رضي الله عنها) : "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟!" , قالت : "كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم , ولا نؤمر بقضاء الصلاة" , والحديث في الصحيحين , فتأملْ قناعتها وقناعة الصحابة بهذا الجواب , ومدى تعظيمها - رضي الله عنها - للسنة , حيث اعتبرت ذلك كافياً في الجواب وفي التسليم للحكم دون تردد أو معارضة بشبهات العقول .
وهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - لما سئل : ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد , وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم ؟ , أجاب بقوله : تلك السنة , والحديث في صحيح سنن النسائي .
وفي صحيح "البخاري" - رحمه الله -عن سهل بن حنيف قال : يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم , لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته , يعني بذلك ما كان في صلح الحديبية , وما تضمنه من رد مَن أسلم إلى المشتركين , وكان كثير من الصحابة يرون القتال وعدم الصلح , ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أوْلى بالمسح من أعلاه , وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفه" , صححه الألباني في المشكاة .
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو أرجح الخلائق عقلاً وأولاهم بكل صواب - قال له ربه (جل وعلا) : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)[النسا:105] , ولم يقل (بما رأيت) , فكيف بغيره - صلى الله عليه وسلم - ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يقول في أمور الدين والتشريع برأيه , ويتحرج أشد الحرج من ذلك , ولهذا لم يُجب اليهود في سؤالهم عن الروح وغير ذلك , ولا جابراً في سؤاله عن ميراث الكلالة , ولا المجادِلة في سؤالها عن حكم الظهار , حتى نزل عليه القرآن بتفصيل ذلك وبيانه .
وعلى هذا المنهج المبارك سار علماء السلف فلم يقدموا بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعارضوا السنة الصحيحة بعقولهم وآرائهم , فهذا عمر (رضي الله عنه) أفتى السائل الثقفي - في المرأة التي حاضت بعد أن زارت البيت يوم النحر - ألا تنفر , فقال له الثقفي : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به , فقام عمر إليه يضربه بالدرة , ويقول له : لِمَ تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - قد أفتى بأشياء , فأخبره بعض الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه , فانطلق عبد الله إلى الذين أفتاهم فأخبرهم أنه ليس كذلك(11) وهذا ابن عباس (رضي الله عنهما) يقول : "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء , أقول : قال الله ورسوله , وتقولون : قال أبو بكر وعمر !" , فكيف لو رأى مَن يقولون - إذا حدثوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - - : قال (الخواجة) فلان , وقال علماء السياسة وقال علماء الاقتصاد !.
وقال عمر بن عبد العزيز : لا رأي لأحد مع سُنة سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الشافعي - رحمه الله - : أجمع الناس على أن مَن استبانت له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدَعها لقول أحد من الناس وقال - رحمه الله - : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودَعوا ما قلت , وفي لفظ : فاضربوا بقولي عرض الحائط , وسأله رجل عن مسألة فأفتاه وقال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا , فقال رجل : أتقول بهذا ؟! , قال : أرأيت في وسطي زنَّاراً ؟! (12) , أتراني خرجت من الكنيسة ؟! , أقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول لي : أتقول بهذا ؟! , أروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أقول به ! , وفي لفظ : فارتعد الشافعي - رحمه الله - واصفرَّ لونه , وقال : ويحَك , أي أرض تُقلّني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فلم أقل به , نعم , على الرأس والعين , وقال - رحمه الله - : ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزب عنه , فمهما قلتُ من قول وأصَّلت فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قلت , فالقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قولي , وجعل يردد هذا الكلام (13) .
وإذن فالسنة لا تُعارَض بآراء الرجال , ولكن ليس معنى ذلك أن المرء - لأول وهلة - إذا قرأ حديثاً يخالف أقوال العلماء يتجرأ ويقول : هؤلاء العلماء خالفوا الحديث , ولا يكلف نفسه أن يعرف مستند العلماء ووجه قولهم , فهذا التصرف من الجهل والتطاول على أهل العلم , وإنما المقصود أن المسلم إذا بحث في معنى الحديث , وقول مَن خالف الحديث من العلماء , واجتهد في ذلك فظهر له أن الحديث كما فهمه , وأن العلماء قرروا ما فهمه ومَن خالف لم يظهر لمخالفته وجه راجح , فحينئذ عليه الأخذ بالحديث دون قول مَن خالفه .
أما أن تكون المسألة مجرد تسرُّع وتطاول على العلماء مع الجهل بوجه الحديث وعدم تكليف النفس الوقوف على تفسيره عند السلف والعلماء - فهذا شذوذ وإفساد , وليس تمسكاً بها .
كذلك من الأمور القبيحة - التي هي من صور تقديم الهوى , والمزاج الشخصي على سنته - صلى الله عليه وسلم - - أن يتورع الإنسان عن شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فذلك من الطغيان والغلو , ومجاوزة العبد حده , إذ العبد تابع لنبيه - صلى الله عليه وسلم - , يفعل ما فعل , ويترك ما ترك (14) , ولا يمكن أن تكون له حالة من الاستقامة فاتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : "صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ترخص فيه , وتنزه عنه قوم , فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه , فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية" .
وإذا كان لا يجوز لنا معارضة السنة بأقوال الرجال وأذواقهم فكذا لا يجوز معارضتها بالرؤى والمنامات , ولو كانت لمَن يرى أنه من الصالحين , فإن الرؤيا ليست مصدراً للتشريع وليست رؤيا غير الأنبياء حقاً مطلقاً , ولو كانت من صالح , نعم , قد تشير الرؤيا إلى حق قرره الكتاب أو قررته السنة من قبل , فتأتي الرؤيا مذكِّرة , كما قد تأتي مبشِّرة أو محذِّرة فحسب , ولكن لا قيمة لها في تقرير الأحكام , فإذا أتت بجديد يخالف الكتاب أو السنة فلا قيمة لها ولو كانت من صالح , فكيف إذا أتت من مبتدع أو فاسق ؟! .
ثالثاً : بذل الأسباب بحفظها من الضياع:
وحفظ السنة من الضياع أمر تكفل به رب العزة (جل وعلا) حين قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9](15) , ولكن ذلك لا يعفينا من السعي في حفظها كما سعى الصحابة في حفظ كتاب الله من الضياع والتحريف , مع أن الله - جل وعلا - متكفل بحفظه , ومن ثم جمع أبو بكر (رضي الله عنه) القرآن وكتب عثمان - رضي الله عنه - المصاحف , وكما اهتم الصحابة - رضوان الله عليهم - بحفظ كتاب الله (جل وعلا) فكذا كانت عنايتهم شديدة بالسنة والمحافظة عليها ولنا فيهم أسوة .
لقد كان سعيهم في حفظها من الضياع بوسيلتين هما الحفظ والتدوين , ولكل منهما دوره في حفظ السنة , فإنه إذا فُقد الرجال الحفاظ بقيت المخطوطات والكتب , فيحملها قوم من جديد , وإذا فقدت المخطوطات والكتب بقي الرجال يحملون السنة في صدورهم , فيمكن كتابتها من جديد .
كما أن حفظ السنة في الصدور يمكِّن من الرجوع إليها في المواقف التي لا تتيسر فيها الكتب , وعلى سبيل المثال فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إنما انصرف بالناس بحديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في الطاعون , لما أراد عمر (رضي الله عنه) دخول بلدة وقع فيها الطاعون ومعه الناس , فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - : "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا سمعتم به - أي الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه , وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" , فانصرف عمر بالناس , فكان ذلك من بركات حفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمْله في الصدور .
وسيظل لحفظ الحديث النبوي أثره في كل وقت في المواقف المختلفة ,ولا يستوي مَن لا يعرف الأحاديث إلا حين البحث عنها في الكتب , وآخر يحمل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره ينتفع به في المواقف ويجد أثره في قلبه في تصرفاته وحِله وترحاله , وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن حفظ حديثه فقال : "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها وأداها فرُبَّ حاملِ فقهٍ غير فقيه , ورب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه" (16) .
وهذه الأحاديث - التي بين أيدينا - كَنز عظيم حاضر ميسر لمن أراد الحفظ , وإلا فكم كان سلفنا يتحملون من أجل حفظ حديث أو حديثين , وكم كان حرصهم شديداً على حفظ السنة المطهرة , ولعل في ذكر بعض الأمثلة من حياة سلفنا ما يكون دافعاً لنا ومشجعاً على حفظ ما نستطيع من سنته - صلى الله عليه وسلم - .
فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول فيما أخرجه البخاري - رحمه الله - : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة , وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ينزل يوماً وأنزل يوماً , فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم وإذا نزل فعل مثل ذلك .
وكانت القبائل النائية ترسل بعض أفرادها إلى المدينة ليحفظوا عن رسول - صلى الله عليه وسلم - وربما ركب الرجل راحلته وقطع المسافات الشاسعة في سماع كلمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سماع حديث من حافظ له .
ففي صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث أن امرأة أخبرته بأنها أرضعته وزوجته , فركب من فوره - وكان بمكة - قاصداً المدينة حتى بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع , ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما ؟ , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف وقد قيل؟! .
وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد , وقصة ذلك - كما في الأدب المفرد وغيره - أن جابر بن عبد الله قال : بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاشتريت بعيراً , ثم شددت رحلي , فسرت إليه شهراً , حتى قدمت الشام , فإذا عبد الله بن أنيس , فقلت للبواب : قل له جابر على الباب , فقال : ابن عبد الله ؟ , قلت : نعم , فخرج , فاعتنقني , فقلت : حديث بلغني أنك سمعتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه , فحدثه عبد الله بحديث القِصاص يوم القيامة للخلائق بعضها من بعض (17) .
ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر , فلما لقيه قال : حدِّثنا ما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ستر المسلم , فلما حدثه ركب أبو أيوب راحلته وانصرف عائداً إلى المدينة ولم يحل رحْله (18) .
وقال سعيد بن المسيّب - رحمه الله - : إن كنتُ لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام , وحدث الشعبي رجلاً بحديث , ثم قال له : أعطيناكَها بغير شيء , قد كان يُركب فيما دونها إلى المدينة (19) .
ولم ينقطع من الأمة طلب الحديث والسعي في حفظه , بل بقي إلى يومنا هذا من العلماء في الهند وغيرها مَن يحفظ الحديث بإسناده الخاص به , متصلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هؤلاء الشيخ محمد بن علي بن آدم الأتيوبي المدرس بدار الحديث - صاحب شرح سنن النسائي المسمى بذخيرة العقبى في شرح المجتبَى - حيث ذكر في مقدمة الشرح أسانيده الخاصة إلى الإمام النسائي(20) .
كما لا يزال واجب الكتابة أو التدوين قائماً في صورة البحث عن المخطوطات وطبعها ونشرها في العالم , فبالانتشار يؤمن على الحديث من الضياع .
رابعاً : الاجتهاد في تنقيتها من الكذب وتمييز صحيحها من ضعيفها :
لا يفوتني أن أشير إلى أنه ليس كل ما أذكره من الواجبات - التي تدخل في مفهوم الانتماء للسنة - واجبات عينية على كل فرد في الأمة , بل أدنى الكمال في الانتماء للسنة التزام طريقته - صلى الله عليه وسلم - وهدْيه معتقداً وعملاً , ثم يتفاوت الناس في مدارج الكمال بحسب استيعابهم لما نذكر من الواجبات الملقاة على عاتق الأمة إجمالاً , بالإضافة إلى الواجبات العينية التي يخل ترْكها بالانتماء إلى السنة .
وهذا الواجب - وهو تحقيق الحديث النبوي - فرض كفاية , ولا يزال ملقًى على عاتق الأمة منذ وقوع الفتن في الصدر الأول وظهور الشيعة الكذابين , وإلى الآن .
ذكر الإمام مسلم في صحيحه عن ابن سِيرِين - رحمه الله - أنه قال : لم يكونوا يسألون عن الإسناد , فلما وقعت الفتنة قالوا : سمّوا لنا رجالكم فيُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم (21) ؛ ولهذا اشتدت عناية السلف بمعرفة الرجال وتمييز مَن يؤخذ حديثه ممن لا يؤخذ حديثه , وقد بذلوا جهوداً مضنية في هذا السبيل , وفي مقاومة حركة الكذب أو الوضع في الحديث النبوي , وقد كان الرجل منهم يسمع الحديث يُنسب إلى فلان فلا يقنع حتى يسافر المسافات الشاسعة ليتحقق من صحة ذلك ؛ ولذا قال إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - : إن الله (تعالى) يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث , وسيظل الحذر من الكذابين والمحرفين واجباً إلى آخر الزمان ؛ لما رواه مسلم بسنده في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون , يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم , فإياكم وإياهم , لا يضلونكم ولا يفتنونكم" .
وقد قابلت في واقعنا الحاضر جرأة قبيحة من بعض مبتدعي الصوفية في ترويج أكاذيب ينسبونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتلقاها الناس محسني الظن بهم , فقلت لبعضهم : مَن روى هذا الحديث ؟ , فقال : البخاري - وكان صحيح البخاري في المسجد - فقلت له : هذا الكتاب ؟! , فولَّى هارباً.
وكلما اشتغل المرء بالحديث وعلم السنن كان أقدر على اكتشاف كذب هؤلاء , كذلك لا يزال كثير من الأحاديث في حاجة إلى تحقيق , لا سيما الأجزاء والكتب غير المشهورة , وقد قام في عصرنا هذا محدثون أعلام , بذلوا جهوداً عظيمة في خدمة السنة في هذا المجال , منهم الشيخ أحمد بن محمد شاكر - رحمه الله - والشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني - رحمه الله - فقد بذلا جهوداً طيبة ومفيدة في هذا القرن في خدمة السنة وعلومها تحقيقاً وتخريجاً .
وقد تجاوب مع جهود الألباني - رحمه الله - شباب كُثْر في بلاد شتى من عالمنا الإسلامي , فأرادوا أن يحاكوه أو ينسجوا على منواله , وقطعوا في دراسة الأسانيد وتحقيق الحديث النبوي وتخريجه - شوطاً لا بأس به , ولكن ثمة ملاحظات لا بد من الالتفات إليها وتأملها بوعي :
فأولى هذه الملاحظات : ما يخشى أن يصبح اشتغال الشباب بمسألة التخريج والتحقيق (موضة) العصر , بمعنى أن تصير المسألة مجرد محاكاة أو تقليد من الشباب بعضهم لبعض دون وعي بواجب الوقت , أو دون وعي بما ينبغي أن يتوجه إليه بالتحقيق من الكتب والأحاديث , فخير من أن يتعاقب بالتحقيق والتخريج على الحديث الواحد أو الكتاب الواحد فلان وفلان - أن يتجه من أراد التحقيق لكتاب لم يطرق من قبل , فذلك أنفع للأمة من إهدار أوقات كثيرة في تكرار قليل الفائدة , أو لو استُفيد من هذا الوقت في مجاهدة الخلق وحمْلهم على الالتزام بالإسلام , وتغيير اعتقاداتهم المنحرفة إلى اعتقادات صحيحة , وتغيير سلوكهم ليوافق الإسلام - لكان أنفع وأعظم ثمرة , وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعَم" .
الملاحظة الثانية : أن بعض المحققين - أثناء قيامه بالتحقيق - يتجاوز هذا العمل إلى تقرير بعض الأحكام الفقهية بمناسبة الحديث , وهذا العمل تعامل معه البعض - خاصة الشباب - بطريقة خاطئة , مضمونها أنهم اعتقدوا أن أوْلى الناس بتقرير الأحكام الفقهية الراجحة في المسائل المختلفة فيها هم محققو الأحاديث , مع أن العلم بالإسناد لا يغني عن فقه استنباط الأحكام , فالوقوف على صحة الحديث ليس إلا مقدمة للاستنباط وأخذ الأحكام , ومن ثم فلا بد من اهتمام الباحثين عن الحكم الراجح بالجمع بين الحديث والفقه وأصوله , والاستفادة من أئمة هذه العلوم جميعاً وعدم الانحسار في تلقّي الأحكام من المشتغلين بتحقيق الأحاديث.
وثمة ملاحظة ثالثة : وهي أنه في غمرة الحماسة والحميَّة لتحقيق الأحاديث وتخريجها - وفي سبيل تعظيم هذا العمل - بدأت مفاهيم غريبة تتسرب إلى فئات من الشباب وغير الشباب , وهي أن الفرقة الناجية وأهل السنة وأهل الحديث - كلها ألفاظ تدل على أولئك المشتغلين بالتحقيق والتخريج , مَن اتبع أقوالهم , واختار ترجيحاتهم , وتلك جهالة عظيمة وطامة كبرى كان لها دورها في التفريق بين فئات الصحوة الإسلامية التي هي - في مجملها - سُنِّيَّة بحمد الله , فالفرقة الناجية ليست محققي أو مخرجي الأحاديث , وإنما هي مَن كان على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه , وأهل السنة هم المفارقون للبدع , وأهل الحديث هم مَن كان الحديث إمامهم , وأقاموا عليه عملهم , وقدموه على آرائهم وعقولهم , وهي قضية تتسع لمحققي الحديث وغيرهم , بل رُبَّ محقق للأحاديث مشتغل بدراسة الأسانيد وهو مبتدع لا يلتزم عقيدة أهل السنة ولا منهجهم , وقد وُجد من أمثالهم في عصرنا (الغماري والسقاف) وغيرهما , ممن لا يتبنون منهج السلف .
فالعبرة في استحقاق لفظ أصحاب الحديث كوْن الشخص يحمل العقيدة الصافية التي يقررها الحديث النبوي , ويلتزم السنة ويفارق البدعة , ويسلك سلوك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويلتزم هدْيه وأدبه في كل شيء , فمن اشتغل فوق ذلك - لا بدونه - بحفظ الحديث ودراسة سنده وتحقيقه مستعيناً ومعيناً للأمة بذلك مع التزام سلوك أهل الحديث - فلا شك أنه يكون بذلك أعظم انتماءً للحديث وأهله وأحق الناس بهذا اللقب دون أن يكون ذلك مدعاة لنفي اللقب عمن لم يحصل ذلك العلم إن كان محققاً لما ذكرنا .
أخيراً فلا ينبغي للمشتغلين بعلم الحديث - أو بأي علم من علوم الشريعة - أن يعيشوا منعزلين عن هذه الصحوة الإسلامية التي تبغي سياسة الدنيا بالدين , متجاهلين المعركة الدائرة بين الحق والباطل في كل بقاع الأرض , كأنهم لا يشعرون بها , أو كأنها لا تعنيهم , ومن باب أوْلى لا يليق بهم أن يثبِّطوا شباب ورجال هذه الصحوة , أو أن يكون همهم نقد وتبديع غيرهم من العاملين من أجل نصرة هذا الدين , بل ينبغي لهم أن يأخذوا مواقعهم في المعركة الدائرة بين الحق والباطل , وأولى بهم أن يقودوا الأمة في جميع معاركها , والتي منها المعركة بين الإسلام واللادينية , تلك البدعة الشنيعة التي تضرب العقيدة في الصميم وتمسخ دين المسلمين ؛ إذ هي تقضي بمنع الدين من التدخل في شئون الحياة , فهي بدعة لا تقل في خطرها عن بدعة القول بخلق القرآن التي كان يتبناها الخليفة المأمون ويمتحن الناس بها , فما سكت إمام المحدثين في ذلك الوقت - أحمد بن حنبل (رحمه الله) - عن بيان الحق للناس , ثم الجهر بكلمة الحق حين سأله المأمون , وعرَّض نفسه للقتل وذاق في سجنه الويلات , وبهذا صار إماماً لأهل السنة , حيث حفظ الله به لهذه الأمة عقيدتها , فكان كما قيل : "إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر يوم الردة , وبالإمام أحمد يوم المحنة" , فلماذا لا يكون للمشتغلين بالحديث قدوة في إمامهم , إمام هذا الشأن الذي جمع ألوف الأحاديث في مُسنده العظيم ؟! .
ومن العجب أن بعض الناس قد صاروا يخلطون الأمور خلطاً مُزْرياً , فقد صاروا يعتبرون التفافهم حول عالِم ما يدرّس للناس علماً من العلوم الشرعية - بمثابة منهج للتغيير , وربما يقارن مسلكهم بمناهج التغيير المطروحة في الساحة , وإن هذا لهو العجب العُجاب , فهي مقارنة بين أشياء ليست من جنس واحد , ولا وجه للمقارنة بينها ؛ إذ كيف يُقارَن درس بحركة , أو بدعوة تقود الأمة ؟! .
إن الاشتغال بتحصيل علم ما لا علاقة له بمنهج التغيير - أعني تغيير سياسة الدنيا بالهوى إلى سياسة الدنيا بالدين - وإنما هو جزء من البناء الشخصي للداعية , لا يغنيه عن طلب موقعه ودوره في الحركة الإسلامية التي تبغي سياسة الدنيا بالدين .
وليس مطلوباً من المشتغلين بعلم الحديث أن يكفّوا عن مواصلة جهودهم في هذا الشأن والاستفادة من مشايخه , كلا , وإنما المطلوب ألا ينسوا دورهم في قيادة الأمة , وفي حفظ عقيدتها وشريعتها في الواقع العملي من المسخ والتحريف , والإمام أحمد - رحمه الله - في بيانه الحق للناس وموقفه العملي في ذلك الامتحان العظيم وجهره بكلمة الحق متصدياً للخليفة إذ ذاك - لم يكن منتقلاً من منهج إلى منهج , وإنما كان قائماً بدوره الذي يفرضه عليه علمه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتماؤه إلى سنته .
خامساً : تدارُسها والسعي في نشرها وإحيائها وتبصير الناس بها :
فينبغي أن يشيع بيننا دراسة الحديث النبوي الشريف وفهمه , وليكن ذلك في بيوتنا وفي مساجدنا , كلٌّ حسب طاقته , فقد يلتقي البعض على دراسة (الأربعين النووية) , ويقرأ آخرون في (رياض الصالحين) , وآخرون يتدارسون (جامع العلوم والِحكَم) , وآخرون يتدارسون كتب السنة كالصحيحين وغيرها .
ثم ينبغي لمن وعى ذلك أن يسعى في نشره وتبصير الناس به كما في الحديث الصحيح عند أبي داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "نضر الله امرءاً سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع" ويلحق بذلك إحياء السنن المهجورة وحث الناس عليها , وإحياء السنن المهجورة هو المقصود في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم وغيره : "مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده , من غير أن ينقص من أجورهم شيء .." , فالحديث وارد في إحياء سنة وحث الناس عليها , وقصته أن قوماً فقراء مخرقي الثياب قدموا المسجد , فقام رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتصدق عليهم فتبعه الناس واقتدوا بفعله , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحديث مُثنياً على ذلك الرجل .
والصدقة ليست تشريعاً جديداً أتى به ذلك الصحابي , وإنما أحيا هذا الأمر , فاقتدى به الناس .
لكن توجد هنا ملاحظة : وهي مراعاة التدرج والرفق في إحياء هذه السنن , فبعض الناس قد يستنكرون - بشدة - بعض السنن بعدما قضوا دهراً طويلاً من أعمارهم لم يسمعوا بها , وحينئذ ينبغي أن يكون موقفنا وسطاً بين طرفين , بين مَن يتجاهل هجران تلك السنة ويرى عدم المحاولة في هذه الحالة , ومَن يريد تغيير هذا الهجران بشدة - أو على الفور - مهما أدى إليه من فتنة أو نفور أو وحشة بين الناس وحَمَلة السنة , فالأول متقاعس عن القيام بدوره نحو السنة , والآخر أراد القيام بدوره , لكن دون فقه , كمن يبني قصراً ويهدم مِصراً , فليس كل مَن ابتغى خيراً أقدم عليه دون نظر في العواقب , وإلا فكم أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعل خير ولكن توقفوا دفعاً لشر أو مفسدة أكبر , ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة (رضي الله عنها) : "لولا قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير : بكفر - لنقضت الكعبة , فجعلت لها بابين , باب يدخل الناس , وباب يخرجون , ففعله ابن الزبير"(22) . ومنه قول ابن مسعود - رضي الله عنه - لما أتم عثمان (رضي الله عنه) الصلاة بمِنى , وكان ابن مسعود يريد السنة , وهي القصر إلا أنه أتم الصلاة وراءه قائلاً : "الخلاف شر" , إلى غير ذلك من الأمثلة .
والمقصود هو الحرص على إحياء السنة , لكن مع التدرج واتقاء الشرور التي ربما يكون دفْعها أحب إلى الله (تعالى) من الإتيان بتلك السنة .
سادساً : التمسك بها والتزامها , علماً واعتقاداً , وعملاً وسلوكاً والتحلي بأخلاق أهلها :
وهذا هو المقصود لذاته من حفظ السنة ودراستها , فالعلم يراد للعمل وسعادة العبد في الدنيا والآخرة في التمسك بما في كتاب الله (تعالى) وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ويلحق بها ما سنَّه الخلفاء الراشدون لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي , عَضّوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثاتِ الأمور ؛ فإن كلَّ بدعة ضلالة" .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً , كتاب الله وسنتي , ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"(23) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة , قالوا : مَن هي يا رسول الله ؟ , قال : ما أنا عليه وأصحابي"(24) .
فمن أعظم التمسك والعمل بسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الرجوع إليها مع كتاب الله تعالى عند التنازع وردّ الأمور إليها , لا إلى قوانين البشر , ولا يتحقق إيمان لأحد إذا لم يكن احتكامه للكتاب والسنة , قال (تعالى) : (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ)[النساء:59] , وكما قال العلماء فالرد يكون إليه - صلى الله عليه وسلم - في حياته وإلى سنته بعد مماته , وقال - تعالى - : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[النساء:65] , وقال - جل وعلا - : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً) [الأحزاب:36] .
وقد ضرب الصحابة لنا المثل والقدوة في امتثال تلك الآيات , وفي تحري طاعته - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به على الفور في كل ما يصدر منه , فقد أخرج البخاري - رحمه الله - عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال : "اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب , فاتخذ الناس خواتيم من ذهب , ثم نبذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : إني لن ألبَسه أبداً , فنبذ الناس خواتيمهم" , وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى بأصحابه , إذ خلع نعليه , فوضعهما عن يساره , فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم , فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال : ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ , قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جبريل (عليه السلام) أتاني فأخبرني أن فيها قذراً - أو قال أذى -" , وهذا ابن عمر (رضي الله عنهما) - كما روى أحمد والنسائي وأبو داود - رأى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - رَيطة (25) مضرجة بالعصفر (26) , فقال له : ما هذه الريطة التي عليك ؟! , قال : فعرفتُ ما كره , فأتيت أهلي وهم يسجرون تنُّوراً , فقذفتها فيها , فلما كان من الغد , قال - صلى الله عليه وسلم - : "ما فعلت الريطة ؟" , فأخبرته , فقال : "هلا كسوتَها أهلك ؛ فإنه لا بأس بذلك للنساء" .
ومن العمل بالسنة التحلي بأخلاق أهلها وحَمَلتها , فلأهل السنة خصائصهم الأخلاقية والسلوكية التي سردها علماؤنا الأولون ضمن معتقد أهل السنة , فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يصف اعتقاد السلف في "العقيدة الواسِطية" , فكان مما قال : "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجهاد والجمَع والأعياد مع الأمراء , أبراراً كانوا أو فجاراً ويحافظون على الجماعات ..
يَدينون بالنصيحة للأمة , ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" .
"يأمرون بالصبر على البلاء , والشكر عند الرخاء , والرضا بمُرّ القضاء" .
"ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال , ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" , ويندبون إلى أن تصل مَن قطعك وتعطي مَن حرمك وتعفو عمن ظلمك , ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار , والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل , والرفق بالمملوك , وينهون عن الفخر والخيلاء والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها" .
ولم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية - وحده - الذي ذكر الجانب الأخلاقي والسلوكي وغيرهما من الجوانب العملية في تقرير عقيدة السلف , بل كذلك فعل الإمام الطحاوي في عقيدته , والأصبهاني في الحجة في بيان المحجة , والإسماعيلي في اعتقاد أهل السنة , والصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث , ومما قاله الأخير - رحمه الله - : "ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام , وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات , وإفشاء السلام , وإطعام الطعام , والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام , والاهتمام بأمور المسلمين , والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف , والسعي في الخيرات , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والبِدَار إلى فعل الخيرات أجمع , واتقاء شر عاقبة الطمع , ويتواصون بالحق والصبر" .
فمن انتمائنا للسنة أن نكون متأدبين بآدابها وأخلاق حملتها , وهذا من أعظم المقصود من العلم بالسنة , وللقرآن والسنة آداب لحملتهما , ومَن لازم حملة القرآن أو السنة فينبغي أن يستفيد من أخلاقهم , كما يستفيد من أعمالهم . وقد كان الليث بن سعد - رحمه الله - كثيراً ما يقول لأصحاب الحديث : "تعلَّموا الحِلم قبل العلم" , وقال حبيب بن الشهيد لابنه : "يا بني اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم ؛ فإن ذلك أحب إليَّ من كثير من الحديث" وقال ابن وهب : "ما تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه" , وهذا يدلك على مدى أدب العلماء وأخلاقهم , فعلم مالك معروف , ومع ذلك كان أدبه أعظم , فتأمل مدى تفريطنا في هذه الأيام , حيث انفصل العلم كثيراً عن الأدب والسلوك . وقال مخلد بن الحسين (المتوفَّى في عام 191هـ) لابن المبارك : "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث" .
يقول ذلك في القرون المفضلة فكيف لو رأى سوء أدبنا في هذا الزمان ؟! .
وقال ابن سِيرين : "كانوا - أي الصحابة - يتعلمون الهدى (أي السيرة والهيئة والطريقة والسَّمْت) كما يتعلمون العلم" .
وقال بعضهم لابنه : "يا بني لأن تتعلم باباً من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم" .
وقال أبو حنيفة : "الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه ؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم" . وقال الحسن البصري - رحمه الله - : "إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين" .
وقال ابن المبارك - رحمه الله - : "تعلمت الأدب ثلاثين سنة , وتعلمت العلم عشرين سنة" . وعن الحسن قال : "كان طالب العلم يرى ذلك في سمعه وبصره وتخشُّعه" .
ونختم بقول الشافعي - رحمه الله - : "ليس العلم ما حُفظ , العلم ما نَفع"(27) .
لعلِّي بهذا أكون قد ساهمت في تجلية مفهوم الانتماء للسنة والحديث .
والله - تعالى - أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الهوامش :
1- كشف الكربة , ص11 , 12 .
2- الفِصَل , 2/107 .
3- أي بالنسبة إلى جيل الصحابة والتابعين .
4- رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" , 1/191 .
5- وانظر : تفسير ابن كثير للآية .
6- وانظر : تفسير ابن كثير للآيتين .
7- رواه أبو داود , باب لزوم السنة 5/10 , ح4604 , ورجاله ثقات , ورواه الترمذي في العلم 5/38 , ح2664 , وهو حديث حسن كما في "جامع الأصول".
8- صحيح الجامع الصغير , 836 .
9- وهو الدكتور أبو الفتوح كما نشرت ذلك عنه مجلة "التوحيد" المصرية , لجماعة أنصار السنة المحمدية , في مقال للدكتور أمين رضا في أحد أعدادها .
10- انظر : ظاهرة خطيرة في رفض السنة في المجتمع الإسلامي للدكتور صالح رضا .
11- انظر : هذه الآثار ونحوها في "لزوم الاحتجاج بالسنة" للسيوطي , وفي رسالة الدكتور صالح رضا "ظاهرة خطيرة في رفض السنة في المجتمع الإسلامي" .
12- ما يوضع على وسط المجوسي والنصراني , وفي "التهذيب" : ما يلبَسه الذمي .
13- وانظر : مختصر معارج القبول , ص143-145 .
14- إذا كان - صلى الله عليه وسلم - فعله أو تركه على وجه القُربة , ولم يكن من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - .
15- وانظر : تفسير ابن كثير للآية .
16- ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" , 1/190.
17- انظر : فتح الباري , 1/209 , و"لزوم الاحتجاج بالسنة" للسيوطي .
18- ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" , 1/93 , 94 .
19- المرجع السابق , 1/94 .
20- انظر : 1/152 .
21- صحيح مسلم بشرح النووي , 1/84 .
22- الفتح , 1/271 .
23- انظر : جامع الأصول , 1/278 , الحديث رقم 66 , وما قبله وما بعده .
24- حديث حسن , صحيح سنن الترمذي , 2129 .
25- ثوب رقيق لين أو ملاءة ذات لفقين .
26- مصبوغة بالحُمرة على هيئة مخصوصة .
27- انظر : آداب السامع , 1/51 .
منقول
المحب في الله