قال الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله بعد كلامٍ له سبق في الحسد والعين والسحر:
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب أحدها:
السبب الأول: التعوذ بالله من شره
والتحصن به واللجأ إليه وهو المقصود بهذه السورة [سورة الفلق] والله تعالى سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه. والسمع هنا المراد به: سمع الإجابة لا السمع العام، فهو مثل قوله: ( سمع الله لمن حمده ) وقول الخليل : إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39] ومرة يقرنه بالعلم، ومرة بالبصر لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ويعلم كيده وشره.
فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي مجيب، عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره لينبسط أمل المستعيذ، ويُقبل بقلبه على الدعاء.
وتأمل حكمة القرآن كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السَّمِيعُ العلِيم في الأعراف وحم والسجدة، وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذي يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ السَّمِيعُ البَصِيرُ في سورة حم المؤمن فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم إِن فِى صُدُورِهِم إِلا كِبرٌ مَّاهُم بِبَالِغِيهِ فاستَعِذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الَبصِيرُ [غافر:56] لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر، وأما نزغ الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم. فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية. والله أعلم.
السبب الثاني: تقوى الله
وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: وَإنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُواْ لا يَضُرُّكُمْ كَيدُهُم شَيئاً [آل عمران:120].
وقال النبي لعبدالله بن عباس: ** احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك **.
فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه فمن يخاف ومن يحذر؟!
السبب الثالث: الصبر على عدوه
وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره وبغيه، فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جنداً وقوة للمبغي عليه المحسود يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: وَمَن عَاقَبَ بِمِثلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ [الحج:60]. فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولاً، فكيف بمن لم يستوفِ شيئاً من حقه بل بغي عليه وهو صاب؟. وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقد سبقت سنة الله ( إنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكّا ).
السبب الرابع: التوكل على الله
فمن يتوكل على الله فهو حسبه. والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش.
وأما ما يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبداً. وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهرإيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ [الطلاق:3]. ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه. فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجاً من ذلك وكفاه ونصره. وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في كتاب "الفتح القدسي" وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة. وأنه من مقامات العوام، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة وبينا أنه من أجلّ مقامات العارفين، وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجته إلى التوكل أعظم وأشد، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله، وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر والباغي.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه
وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له! فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفِكْر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له ولا يتماسك هو وإياه بل انعزل عنه لم يقدر عليه، فإذا تماسكاً وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر. وهكذا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبثها به، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناماً لا يفتر عنه، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان، ويتثبتا، فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى، عدم القرار، ودام الشر حتى يهلك أحدهما. فإذا جبذ روحه منه، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به، وأن لا يخطره بباله، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به: بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضاً، فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضاً، وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية، [أما الغمر الذي يريد الانتقام والتشفي من عدوه فإنه بمعزل عنه، وشتان] بين الكيس الفطن وبينه، [ولا يمكن أحداً معرفة قدره] حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه، كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به، ولا يرى شيئاً ألم لروحه من ذلك، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها، فوثقت بالله، وسكنت إليه، واطمأنت به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلاً، فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها أو نصر مخلوق مثلها لها. ولا يقوى على هذا إلا بـ:
السبب السادس: وهو الإقبال على الله والإخلاص له
وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئاً فشيئاً حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه وتملقه وترضيه واستعطافه وذكره كما يذكر المحب التام المحبة محبوبة المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه فلا يستطيع قلبه انصرافاً عن ذكره، ولا روحه انصرافاً عن محبته، فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقلبه معموراً بالفكر في حاسده والباغي عليه والطريق إلى الانتقام منه والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله، وطلب مرضاته. بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ناداه حرس قلبه: " إياك وحمى الملك! اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ونزل بها. ما لك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك، وأدار عليه الحرس، وأحاطه بالسور؟".
قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: فَبِعزَّتِكَ لأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ [ص:83،82].
فقال تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَان [الحجر:42].
وقال تعالى: إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطَان عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ وَالَّذِينَ ةَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشرِكُونَ [النحل:99، 100].
وقال في حق الصديق يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ [يوسف:24].
فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن، وصار داخل اليزك! لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه: ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ [الجمعة:4].
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله
من الذنوب التي سَلَّطت عليه أعداءه فإن الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَتكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم [الشورى:30]، وقال لخير الخلق، وهم أصحاب نبيه دونه : أَوَلَمَّا أَصَابَتكُم مُّصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِّثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم [آل عمران:165].
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه. وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره. وفي الدعاء المشهور: ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ). فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سُلط عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقى بعضَ السلف رجل فأغلظ له، ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك، [فدخل]، فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه. فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها، فليس للعبد إذا بغي عليه وأذى وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولابد، فما أسعده من عبد! وما أبركها من نازلة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفق لهذا، لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديماً وحديثاً لكفى به، فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة. فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية، وحصن حصين. وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سبباً لزوالها.
ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن، فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود، فحينئذ يبرد أنينه وتنطفىء ناره - لا أطفأها الله - فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها، ولا عرَّضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله، وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جنداً وعسكراً يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه. فمن لم يكن له جند، ولا عسكر، وله عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه؛ وإن تأخرت مدة الظفر؛ والله المستعان.
السبب التاسع: إطفاء نار الحسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه
وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقةً، وما أظنك تُصدِّق بأن هذا يكون فضلاً عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز وجل: وَلا تَستَوِى الحَسَنَةُ وَلا السَّيِئَةُ ادفَع بِالَّتِى هِىَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [فصلت:34-36].
وقال تعالى: أُولَئِكَ يُؤتَونَ أَجرَهُم مَّرَّتَينِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ [القصص:54].
وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: ** اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون **.
كيف جمع في هذه الكلمات الأربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؟
أحدها: عفوه عنهم.
والثاني: استغفاره لهم.
والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.
والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال: ** اغفر لقومي ** كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي، فهيه لي.
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به:
اعلم أن لك ذنوباً بينك وبين الله، تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب لك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله.
فإذا كنت ترجو هذا من ربك وتجب أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله تلك المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك، يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقاً، فانتقم بعد ذلك أو اعف، وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه.
وهذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال: ** لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك **.
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه، فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير، وهو مسيء إليه، وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده.
فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكراً لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعاً ولا خبزاً. هذا مع أنه لابد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين:
إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده، وينقاد له، ويذل له ويبقى [من أحب] الناس إليه.
وإما أن يفتت كبده، ويقطع دابره، إن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه. ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة، والله هو الموفق المعين، بيده الخير كله لا إله غيره، وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه.
وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد، في عاجله وآجله، سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
السبب العاشر: تجريد التوحيد
وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب. وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده، لا أحد سواه. قال تعالى: وَإِن يَمسَسكَ اللهُ بِضُرٍ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضلِهِ [يونس:107].
وقال النبي لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ** واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك **.
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواء، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، بل يفرد الله بالمخافة، وقد أمنه منه، وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً واشتغالاً به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل. والله يتولى حفظه، والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمناً، فالله يدافع عنه ولابد، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة، كما قال بعض السلف: ( من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله مرة ومرة ).
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: ( من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء ).
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى الله، وإقباله عليه، وتوكله عليه، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواء بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قلبه بغيره، ورجاه وخافه وُكِلَ إليه وخُذل من جهته؛ فمن خاف شيئاً غير الله سُلط عليه، ومن رجا شيئاً سوى الله خذل من جهته وحرم خيره. هذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.