من المعلوم أن مدعى الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم؛ فهما شخصان لا ثالث لهما لذلك فإن معرفة الصادق والتمييز بينه وبين الكاذب من أسهل الطرق وأيسرها لبعد ما بين الشخصين، فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم.
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من نبي صادق إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز، بل إن كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة.
وقبل الحديث عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم يحسن بنا أن نقدم بمقدمة نتحدث فيها عن الأخلاق وأهميتها وحرص الإسلام عليها.
تعريف الأخلاق:
أما تعريف الخلق، فالخليقة هي: الطبيعة، كما قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: وفي التنزيل: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] والجمع: أخلاق، والخُلْق والخُلُق السجية، والخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة -وهي نفسه- وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم : الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك: أي: ضد الأخلاق المحمودة، كالكذب والغش والقسوة ونحوها من الأخلاق الرديئة.
وقد عرّف الجرجاني الخلق في التعريفات بقوله: الخلق: عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، وهو تعريف جيد حيث أن الأخلاق تترسخ في نفس الإنسان وتصطبغ بها أفعاله وسلوكياته، ولا يمنع ذلك من إمكانية تغيير الأخلاق السيئة إلا إن ذلك يحتاج إلى جهد وإرادة من صاحب الخلق السيء.
مكانة الأخلاق في الإسلام:
للأخلاق في الإسلام مكانة عظيمة، بلغت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر مهمة بعثته، وغاية دعوته، بكلمة عظيمة جامعة، فقال فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ.
وفي هذا أكبر دليل وأنصع حُجة على أن رسالة الإسلام حققت ذروة الكمال، وقمة الخير والفضيلة والأخلاق، كما أن قدوة هذه الأمة عليه الصلاة والسلام كان المثل الأعلى والنموذج الأسمى للخلق الكريم.
وكما كانت سيرته العملية، وسنته الفعلية نبراساً في الأخلاق، فقد زخرت سنته القولية بالإشادة بمكارم الأخلاق، ومكانة أهلها، وعظيم ثوابها، وهي مبثوثة في الصحاح والسنن وغيرها، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)، (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق)، (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً).
فللأخلاق الحسنة في الإسلام شأن عظيم من تخلف عنها نقص من حسناته وزيد في سيئاته، فالحذار الحذار من مذموم الأخلاق وسيئها.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من محاسن الأخلاق وكريمها، ولم يتخلف عنها، فأخلاق المرء لا تنفك عنه، ولا يستطيع التحلى بها في وقت وتركها في وقت آخر، وقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول أمره إلى آخرة لحظة من لحظاته متحليا بكل خلق كريم، مبتعدا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، وأكثرهم حياء، يضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف.
ولا عجب فقد أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم منزلة، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه شهد له بذلك العدو والصديق، ونورد هنا شهادات الأحباب والأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن أخلاقه واكتسابه لكريمها.
شهادة الله العلي على حسن أخلاق النبي الكريم:
يكفى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شهادة له بحسن خلقه وصف اللهُ عزوجل بذلك، قال الله في كتابه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]؛ يقول الحافظ ابن كثير: "قال العوفي، عن ابن عباس: أي: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.
وقال عطية: لعلى أدب عظيم، وقال مَعْمَر، عن قتادة: سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن، تقول كما هو في القرآن.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله: ** وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ** ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أم المؤمنين -عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقلتُ: نعم. فقالت: كان خلقه القرآن.
هذا حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن...
ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل. كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ونتجول الآن مع بعض أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم التي حاز منها القدح المعلى، لنرى كيف أنه صلى الله عليه وسلم كان في الذروة العليا من الأخلاق التي لا تكون إلا لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
1- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه ووفائه ومطابقة قوله لعلمه علم علمًا يقينيًا أنه صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ولا كاهن ولا كاذب؛ وإذا كان الناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات فما الشأن بمن يرسله الله عزوجل إلى البشر يبلغهم رسالته ويدعوهم إلى عبادته أليس يكون يحمل من علامات الصدق وكريم الأخلاق ما يلوح على قسمات وجهه قبل أن يظهر في أقواله وأفعاله، وهذا هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي بسببه أسلم عبد الله بن سلام الحبر اليهودي.
يقول عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"؛ فهذا عبد الله بن سلام حبر من أحبار اليهود لم يحتج الأمر أن يعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أن نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف أنه ليس بوجه كذاب.
إن دلائل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر ونكتفي هنا بإيراد شهادات الأعداء على صدقه صلى الله عليه وسلم.
شهادة الأعداء بصدق النبي المختار صلى الله عليه وسلم :
من أعظم دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعدائه شهدوا له بالصدق والإمانة، فها هو أبو سفيان وكان يوم لقائه مع هرقل على الشرك والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد أنه لم يكذب في حياته قط، فما كان جواب هرقل على هذه الشهادة إلا بقوله ما كان – رسول الله صلى الله عليه وسلم - ليترك الكذب على الناس ليكذب على الله.
ولقد كان المشركون يعلمون يقينًا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عاش بينهم أربعين عامًا قبل البعثة وتعامل معهم وتعاملوا معه حتى لقبوه بالأمين، يقول "عبد الله بن السائب" وهو يصف تجديد بناء الكعبة قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر (الأسود) وما يرى الحجر أحد فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل، وإن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف، فقال : اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : هذا الأمين، وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين، فقالوا : يا محمد، قد رضينا بك، « فدعا بثوب فبسطه ووضع الحجر فيه، ثم قال لهذا البطن، ولهذا البطن ليأخذ كل بطن منكم بناحية من الثوب، ففعلوا، ثم رفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده.
ومن الأخبار في هذا الشأن، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ** تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ **.
وروى أبو داود عن السَّائِبِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ يَعْنِي بِهِ قُلْتُ صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي.
وروى الترمذي في سننه عن عَلِيٍّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ** فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ **[الأنعام:33]"، ولما قال له الأخنس بن شريق: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟"فقال: "ويحك والله إن محمدا صادق وما كذب محمد قط".
فهذا أبو جهل أكبر أعداء الإسلام يقر بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، وما حمله على عداوته إلا الحسد والبغي، كما اعترف هو قائلاً: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه.
ومن عجائب الأخبار في ذلك ما يرويه عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ سَعْدٌ أَنَا سَعْدٌ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ تَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَتَلَاحَيَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أُمَيَّةُ لسَعْدٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ قَالَ فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ دَعْنَا عَنْكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ قَالَ إِيَّايَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ قَالَتْ وَمَا قَالَ قَالَ زَعَمَ أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ قَالَ فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ قَالَ فَأَرَادَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَسَارَ مَعَهُمْ فَقَتَلَهُ اللَّه".
فهؤلاء أشراف مكة قد حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاردوه ورغم ذلك لم يستطيعوا أن ينكروا صدقه صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذبًا – حاشاه وكلا – ما وجد أعداؤه مطعنًا فيه أفضل من ذلك.
صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاده دليل على صدقه:
ومن دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم صبره على الأذى وتكذيب قومه له فما رجل يواجه ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يعاني ما عاناه ويصبر على هذا إلا وكان صادقًا في دعواه.
روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر:28]).
هذه صورة واحدة من صور الأذى الذي تعرض له صلى الله عليه وسلم، بلغ درجة أنهم حاولوا اغتياله وقتله إلا إن ذلك لم يثنيه عن دعوته، بل إن أعدائه ذهبوا إلى عمه أبي طالب وكان ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أن يسلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابل ابن من أبنائهم، فأبلغه أبو طالب بهذا الأمر، وقال له: فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه سوف يخذله ويسلمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه)، فمن يصبر ذلك الصبر ويكافح هذا الجهاد لا يكون إلا صادقًا في دعواه، بل هو أصدق الصادقين صلى الله عليه وسلم.
2- كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده:
ومن حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والتي لا تكون إلا لنبي اصطفاه الله عزوجل، سخاؤه وكرمه فهو إن لم يكن يملك المال ما كان ليرد سائله بشيء يكرهه أو يجيبه إجابة تحرجه، روى الإمام البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:"مَعْنَاهُ مَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْء مِنْ أَمْر الدُّنْيَا فَمَنَعَهُ, قَالَ الْفَرَزْدَق:" مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّده" .. وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ يُعْطِي مَا يُطْلَب مِنْهُ جَزْمًا, بَلْ الْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَنْطِق بِالرَّدِّ, بَلْ إِنْ كَانَ عِنْدَه أَعْطَاهُ إِنْ كَانَ الْإِعْطَاء سَائِغًا وَإِلَّا سَكَتَ، وَقَدْ وَرَدَ بَيَان ذَلِكَ فِي حَدِيث مُرْسَل لِابْنِ الْحَنَفِيَّة أَخْرَجَهُ اِبْن سَعْد وَلَفْظه " إِذَا سُئِلَ فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَل قَالَ نَعَمْ , وَإِذَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْعَل سَكَتَ" .. وَقَالَ الشَّيْخ عِزُّ الدِّين بْن عَبْد السَّلَام : مَعْنَاهُ لَمْ يَقُلْ " لَا " مَنْعًا لِلْعَطَاءِ, وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُولهَا اِعْتِذَارًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : ( قُلْت لَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ عَلَيْهِ ) وَلَا يَخْفَى الْفَرْق بَيْنَ قَوْل لَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ وَبَيْنَ لَا أَحْمِلكُمْ".
وقد تواترت الأخبار بجوده صلى الله عليه وسلم، وكرمه، فما بخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ولا منع أحدًا سأله شيئًا قط روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَ اللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا).
ومن الأخبار العجيبة في هذا الشأن ما رواه البخاري عن سهل بن سعد رضى الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا الشَّمْلَةُ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
وفي هذا الحديث دليل واضح وإشارة ظاهرة على كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده، فرغم حاجته الشديدة لهذه البردة إلا إنه لم يرد الصحابي الذي طلبها، وهذه الدرجة من الجود والكرم لا تكون إلا لأكرم المصطفين الأخيار محمد صلى الله عليه وسلم.
3- شجاعته صلى الله عليه وسلم:
من روؤس الأخلاق التي اتسم بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، شجاعته وجوده بنفسه، ومن قصص شجاعته ما رواه مسلم عن أنس بنِ مالك رضى الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ.
وفي هذه القصة بيان عملي لشجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه وهو قائد المسلمين وسيد المدينة نجده أسرع الناس إلى تبين الأمر برغم ما في ذلك من خطر بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج قبل الناس كلهم، وكشف الحال ، ورجع قبل وصول الناس، وهذا أمر لا يكون إلا لمن استجمع من الشجاعة أطرافها.
وروى عن عليٍّ رضى الله عنه قال : كنا إذا احمَرَّ البأسُ ولقي القوم، اتَّقَيْنا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منه.
وقال علي رضى الله عنه أيضًا: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا.
وجاء رجلٌ إلى البراء، فقال: أكنتُم وَلَّيْتُم يومَ حُنين يا أبا عمارة؟ فقال : أشهدُ على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولّى، ولكنه انطلقَ أخفاء من الناسِ وحَسَرَ إلى هذا الحي من هوازن، وهم قومٌ رماةٌ، فرمَوْهم برشقٍ من نَبْلٍ، كأنها رجل من جراد، فانكَشَفوا، فأقبلَ القومُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ يقودُ به بغلتَه، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبدِ المطَّلِبْ
اللهم نَزِّلْ نصرَك.
قال البراء: كنا والله إذا احمرَّ البأسُ، نَتَّقِي به، وإن الشجاعَ منا للَّذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم".
4- حيائه صلى الله عليه وسلم:
ومن روؤس الأخلاق التي اتصف بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ودعا المسلمين إلى الالتزام بها، خلق الحياء، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ.
وقد حاز منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية العليا روى البخاري في صحيحه عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ .
غير أن حيائه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه من قول الحق والغضب له إلا إنه لم يكن يواجه أحدًا بما يكره، لهذا وصفه الصحابة بأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا كره شيئًا عُرف في وجهه إشارة إلى أنه لم يكن يواجه أحدا بما يكرهه بل يتغير وجهه فيفهم أصحابه كراهيته لذلك.
ومما يذكر في ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْمَحِيضِ قَالَ خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْيَا فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ أَوْ قَالَ تَوَضَّئِي بِهَا فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي هذا الحديث دليل بين على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظيم حلمه وحيائه.