الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،
أشكرك أخي الكريم ( سعيد بن سعيد ) على طرحك لهذا الموضوع القيم ، حيث أن كثير من الناس في العصر الذي نعيش فيه لا يعتقدون بتلبس الجان بالإنسان ، وأنكروا ذلك ، وقد قرأت مع كتبت ، وقد رأيت على شاشات التلفاز جزء من هذا اللقاء مع المدعو ( جمال أبو حسان ) الأستاذ في جامعة الزرقاء الأهلية ، وقد تحدث إليَّ بعض طلبة العلم في الرد على ما ذكره من طعن وتشويه في أعلام الأمة الإسلامية ، وإنكار مسألة اتفق عليها أثبات علماء الأمة قديماً وحديثاً ، والذي يظهر لي من خلال ما ذكره المذكور أنه أحد أصحاب الفكر الإصلاحي أو المدرسة العقلانية التي تقول ( إذا تعارض العقل مع النقل قدم العقل على النقل ) ، وأعجب لمقولة ذكرها للإمام الشاطبي – رحمه الله – واستشهد بها المذكور بها حيث يقول : ( الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال ) وهذه المقولة هيَّ عين الحق في مناسبتها واستدلالها ، وكي أثبت لك أخي الكريم ( سعيد بن سعيد ) أن الرجال الذين عرفوا بالحق هم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – والعلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله - ، لأنهم ما خرجوا عن الكتاب والسنة في فتاواهم وآرائهم وهذا بطبيعة الحال لا يعني العصمة لهم بأي حال من الأحوال ، إنما قد وافقهم في تقرير هذه المسألة كثير من أهل العلم قديماً وحديثاً ، واعتقد أن الأمر ينطبق على المذكور وادعائه ، ولن أدخل في تفصيلات ذلك اللقاء الذي لا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيء لأني تعودت في كتاباتي أن أستند إلى الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ، لا منمقاً لكلام ، ولا ضارباً بكلام العلماء عرض الحائط ، وإليكم أدلة ذلك :
أولاً : أدلة الصرع من الكتاب والسنة : ويمكن للإخوة القراء العودة إلى موقعي الرئيسي ( ruqya.net ) تحت عنوان ( الأمراض الروحية ) – الصرع – أدلة الصرع من الكتاب والسنة ، الرابط :
http://www.ruqya.net/sara2.html
ثانياً : أقوال أهل العلم :
من خلال الاضطلاع على أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، نجد أن الإجماع على أن الشيطان يتخبط الإنسان ويستهلكه ويصرعه وذلك استناداً للأدلة النقلية الصحيحة في ذلك ، ومنهم من شذ عن ذلك وقال بأن الشيطان إنما يصرع الإنسان بالإغواء والوسوسة ، ومنهم من أنكر كل ذلك فقال بأن الجن والشياطين لا يتخبطون الإنس ولا يستهلكونهم ولا يصرعونهم ، وإنما ذلك من جهة اختلاط الطبائع وغلبة بعض الأخلاط من المرة أو البلغم ، وسوف أستعرض تلك الأقوال ومن ثم أبين الحق الذي أجمعت عليه الأمة في هذه المسألة الدقيقة :-
1)- أقوال العلماء ممن قالوا بالصرع وأثبتوه :
أ)- قال محمد بن سيرين : ( كنا عند أبي هريرة – رضي الله عنه – وعليه ثوبان ممشقان من كتان فتمخط فقال: بخ بخ ، أبو هريرة يتمخط في الكتان ، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله e إلى حجرة عائشة مغشيا علي ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون ، ما بي إلا الجوع ) ( فتح الباري بشرح صحيح البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم – برقم ( 7324 ) – انظر الفتح – 13 / 303 – وقال الألباني : أخرجه الترمذي في " الزهد " – حديث رقم ( 2368 ) وقال الترمذي "حديث حسن صحيح- انظر مختصر الشمائل المحمدية – حديث رقم 108– ص76 ) 0
قال الدكتور فهد بن ضويان السحيمي عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية : ( والشاهد من الأثر : قول أبي هريرة " فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون " 0
ويقول الدكتور الفاضل : أن وجه الدلالة إن من مر من الصحابة رضوان الله عليهم بأبي هريرة كان يظنه مجنونا فيضع رجله على رقبته 0 لأن من علاج الجن وإخراجهم الضرب 0
فهذا الأثر يدل على معرفة الصحابة – رضوان الله عليهم – لصرع الجن للإنس ) ( أحكام الرقى والتمائم – ص 121 ، 122 ) 0
قال الذهبي معقبا على الأثر آنف الذكر : ( كان يظنه من يراه مصروعا ، فيجلس فوقه ليرقيه أو نحو ذلك ) ( سير أعلام النبلاء – 2 / 590 ، 591 ) 0
ب)- قال شيخ الإسلام ابن تيميه مقررا دخول الجن في بدن المصروع : ( وكذلك دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة ، قال الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأكلونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ) ( سورة البقرة – 275 ) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ( متفق عليه ) 0 وقال عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن أقواما يقولون : إن الجني لا يدخل في بدن المصروع 0 فقال : يا بني يكذبون ، هذا يتكلم على لسانه 0
وهذا الذي قاله مشهود ، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما 0 والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله 0 وقد يجر المصروع وغير المصروع ، ويجر البساط الذي يجلس عليه ،
وينقل من مكان إلى مكان 0 وتجري غير ذلك من الأمور ؛ من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي ، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان ) ( مجموع الفتاوى - 24 / 277 ) 0
وذكر أيضا في كلام مطول : ( أن المعتزلة هم الذين أنكروا مس الجن للإنس وقد أخطأوا في ذلك ، ومس الجن للإنس ثابت بالكتاب والسنة ) ( مجموع الفتاوى – باختصار - 19 / 9 ، 65 ) 0
وقال - رحمه الله - : ( وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم ، إما الإقرار بها - يعني بوجود الجن وتأثيرها - وإما أن لا يحكى عنهم في ذلك قول ، ومن المعروف عن أبقراط أنه قال في بعض المياه : أنه ينفع من الصرع ، لست أعني الذي يعالجه أصحاب الهياكل ، وإنما أعني الصرع الذي يعالجه الأطباء ، وأنه قال : طبنا مع طب أهل الهياكل ، كطب العجائز مع طبنا ، وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي ، وإنما معه عدم العلم ، إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك ، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه ، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن ، وإن كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرا عظيما في البدن ، أعظم من تأثير الأسباب الطبية ، وكذلك للجن تأثير في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ( متفق عليه ) ، وفي الدم الذي هو البخار ، الذي تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن ) ( البيان المبين في أخبار الجن والشياطين – ص 56 ، 57 ) 0
وقال ايضاً : ( وليس لمن أنكر ذلك – يعني تأثير الجن في بدن الإنس – حجة يعتمد عليها تدل على النفي ، وإنما معه عدم العلم ؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك ، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه ، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن ، وإن كان قد علم من غير طبّه أن للنفس تأثيراً عظيماً في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية ، وكذلك للجن تأثير في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ( متفق عليه ) ، وفي الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن ) ( مجموع الفتاوى – 19 / 32 ) 0
ج)- قال ابن القيم : ( قلت : الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة 0 والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه 0
وأما صرع الأرواح ، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ، ولا يدفعونه ، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة ، فتدافع آثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها ، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه ، فذكر بعض علاج الصرع ، وقال : هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة 0 وأما الصرع الذي يكون من الأرواح ، فلا ينفع فيه هذا العلاج 0
وأما جهلة الأطباء وسقطتهم وسفلتهم ، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع ، وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط ، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها ) ( زاد المعاد - 4 / 66 ، 67 ) 0
وقال : ( والفرقة الرابعة - يعني أهل السنة والجماعة - وهم أتباع الرسل ، وأهل الحق : أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن ، وأقروا بوجود الجن والشياطين ، وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما وشرهما ، واستعاذوا بالله منه ، وعلموا أنه لا يعيذهم منه ، ولا يجيرهم إلا الله 0
فهؤلاء أهل الحق ، ومن عداهم مفرط في الباطل ، أو معه باطل وحق ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ( بدائع التفسير – 5 / 435 ، 436 ) 0
وقال أيضا : ( وشاهدت شيخنا - ابن تيميه - يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ، ويقول : قال لك الشيخ : اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما خاطبها بنفسه ، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب ، فيفيق المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا 0
وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( سورة المؤمنون – الآية 115 ) وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم ، ومد بها صوته 0 قال : فأخذت له عصا ، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب 0 ففي أثناء الضرب قالت : أنا أحبه ، فقلت لها : هو لا يحبك ، قالت : أنا أريد أن أحج به ، فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك ، فقالت : أنا أدعه كرامة لك ، قال : قلت : لا ولكن طاعة لله ولرسوله ، قالت : فأنا أخرج منه ، قال : فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا ، وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ، قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة ) ( الطب النبوي - 68 ، 69 ) 0
د)- قال القاضي أبو الحسن بن القاضي أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي في كتاب " طبقات أصحاب الإمام أحمد " : سمعت أحمد بن عبيد الله قال : سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن علي العكبري قدم علينا من عكبرا في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال : حدثني أبي عن جدي قال : ( كنت في مسجد أبي عبدالله أحمد بن حنبل فأنفذ إليه المتوكل صاحبا له يعلمه أن له جارية بها صرع وسأله أن يدعو الله لها العافية ، فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء فدفعه إلى صاحب له وقال له : امض إلى دار أمير المؤمنين وتجلس عند رأس هذه الجارية وتقول له : يعني الجن 0 قال : لك أحمد أيما أحب إليك تخرج من هذه الجارية أو تصفع بهذه النعل سبعين 0 فمضى إليه وقال له مثل ما قال الإمام أحمد 0 فقال له المارد على لسان الجارية 0 السمع والطاعة لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به ، إنه أطاع الله ، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء وخرج من الجارية وهدأت ورزقت أولادا ، فلما مات أحمد عاودها المارد فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المروزي وعرفه الحال ، فأخذ المروزي النعل ومضى إلى الجارية فكلمه العفريت على لسانها : لا أخرج من هذه الجارية ولا أطيعك ولا أقبل منك : أحمد بن حنبل أطاع الله فأمرنا بطاعته ) ( آكام المرجان في أحكام الجان – ص 114 ، 115 ، نقلاً عن طبقات أصحاب الإمام أحمد ) 0
هـ)- قال عبدالله بن أحمد بن حنبل : ( قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنس 00 فقال : يا بني يكذبون هوذا يتكلم على لسانه ) ( غرائب وعجائب الجن للشبلي – ص 134 مختصر آكام المرجان في أحكام الجان-ص 37 – مجموع الفتاوى – 24 / 277 ) 0
و)- قال الشوكاني : ( إن الصرع نوعان : الأول من الأخلاط ، والثاني : من الجن ويقع من النفوس الخبيثة منهم ) ( نيل الأوطار – 8 / 203 ) 0
ز)- قال ابن حزم الظاهري : ( الشيطان الذي يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه مسا كما جاء في القرآن يثير به من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ ، كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم ، فيحدث الله عز وجل كذا الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده ، وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة ) ( الفصل في الملل والأهواء والنحل – 5 / 14 ) 0
ح)- قال الفخر الرازي : ( ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان ، بل وقوعه بالفعل ) ( التفسير الكبير – 7 / 89 ) 0
ط)- قال عمرو بن عبيد : ( المنكر لدخول الجن في أبدان الإنس دهري ) ( آكام المرجان – ص 109 ) 0
ي)- قال برهان الدين البقاعي : ( وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب ، وأما مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع ، غائب عن الحس ، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق ، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع : فكثير جدا ، لا يحصى مشاهدوه ، إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين ) ( نظم الدرر - 4 / 122 ) 0
تعقيب :
قلت : والقصد الذي يعنيه الشيخ برهان الدين البقاعي - رحمه الله - ما خفي عن الإنسان من أمور الدنيا ، ولم يقصد مطلقا علم الغيب الذي استأثره الله - سبحانه وتعالى - بعلمه وحده دون سائر الخلق ، والله تعالى أعلم 0
ك)- قال محمد رشيد رضا : ( ولو كان الاستدلال بعدم رؤية الشيء على عدم وجوده صحيحا وأصلا ينبغي للعقلاء الاعتماد عليه لما بحث عاقل في الدنيا عما في الوجود من المواد والقوى المجهولة ، ولما كشفت هذه الميكروبات التي ارتقت بها علوم الطب والجراحة إلى الدرجة التي وصلت إليها ) ( تفسير المنار – 8 / 366 ) 0
ل)- قال الشيخ محمد الحامد الحموي : ( أنه قد وقف أهل الحق موقف التسليم للنصوص المخبرة بدخول الجن أجساد الإنس ، وقد بلغت من الكثرة مبلغا لا يصح الانصراف عنه إلى إنكار المنكرين وهذيانهم ، فإن الوحي الصادق قد أنبأنا هذا ، ووقائع سلوك الجن في أجساد الإنس كثيرة مشاهدة ، لا تكاد تحصى لكثرتها ، فمنكر ذلك مصطدم بالواقع المشاهد ، وإنه لينادي ببطلان قوله ) ( ردود على أباطيل – 2 / 135 ) 0
م)- سئل فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين عن حقيقة تلبس الجن بالإنس ؟ وهل يجوز العلاج للمصروع عند أهل الرقية لإخراج الجن ؟
فأجاب – حفظه الله - : ( صحيح أن الجن يتلبس بالإنس لأن الجني مجرد روح بلا جسد ، فهذه الروح لخفتها تدخل في جسد الإنسان وتتغلب عليه ، بحيث لا يبقى لروح الإنسان إحساس ، فلذلك ينطق الجني على لسانه ويتصرف فيه ، وإذا ضرب فإنما يقع الألم على الجني ، بحيث إذا فارقه لم يتذكر الإنسي ما حصل له ولا يُرى عليه آثار الألم ، وبحيث يشاهد التلبس يفعل أشياء غريبة كدخوله في النار وابتلاعه الجمر وحمله الأشياء الثقيلة وضرب نفسه بالحجر الكبير ونحو ذلك ، وإنما يفعل هذا الجن المتمردون العصاة على الله ، وهو في دينهم الإسلامي ذنب كبير بحيث يعد مرتكبه مجرماً 0 وطريق التحفظ منهم والتحصن بكثرة ذكر الله تعالى وقراءة المعوذتين وآية الكرسي وخاتمة سورة البقرة ونحو ذلك من الآيات ، وقراءة الأوراد والأدعية التي ورد الأمر بها في الصباح والمساء ، وكثرة الاستعاذة بالله من شر الشياطين وأتباعهم ، ومتى ابتلي أحد بالصرع وملابسة الجني فإنه يعالج بالقرآن ، فهناك قراء متخصصون لإخراج الجن ولهم معرفة بكيفية إخراجه ولو بالقتل ، وذلك معروف عندهم بطرق متبعة ، والله أعلم ) ( منهج الشرع في بيان المس والصرع ) 0
ن)- قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في ( مجموع فتاواه ) : ( لا شك أن الجن لهم تأثير على الإنس بالأذية قد تصل إلى القتل ، وربما يؤذونه برمي الحجارة ، وربما يروعون الإنسان000 إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بالسنة ، ودل عليها الواقع ، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم : " أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات - غزوة الخندق - ، وكان شابا حديث عهد بعرس ، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب ، فأنكر عليها ذلك ، فقالت له : ادخل ، فدخل ، فإذا حية ملتوية على الفراش ، وكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت ، وفي الحال - أي : الزمن الذي ماتت فيه الحية - مات الرجل ، فلا يدري أيهما أسبق موتا الحية أم الرجل ! " ( صحيح الجامع 2037 ) فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم : " نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين " ( متفق عليه ) 0
وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس ، وأنهم يؤذونهم ، كما أن الواقع شاهد بذلك ، فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت بأن الإنسان قد يأتي إلى الخربة فيرمي الحجارة وهو لا يرى أحدا من الإنس في هذه الخربة ، وقد يسمع أصواتا ، وقد يسمع حفيفا كحفيف الأشجار وما أشبه ذلك مما يستوحش به ، ويتأذى به 0
وكذلك أيضا قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي ، إما بعشق ، أو لقصد الإيذاء ، أو لسبب آخر من الأسباب ، ويشير إلى هذا قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَأكلونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ) ( سورة البقرة – جزء من الآية 275 ) 0
وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن الإنسي نفسه ، ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم ، وربما يأخذ القارئ عليه عهدا ألا يعود ، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار ، وانتشرت بين الناس 0
وعلى هذا ، فإن الوقاية المانعة من شر الجن أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم ، مثل آية الكرسي ، فإن آية الكرسي إذا قرأها الإنسان في ليله لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، والله الحافظ 0
وسئل أيضا : هل للجن حقيقة ؟ وهل له تأثير ؟ وما علاج ذلك ؟
فأجاب – نفع الله به – قائلا : أما حقيقة حياة الجن فالله أعلم بها ، ولكننا نعلم أن الجن أجسام حقيقية ، وأنهم خلقوا من النار ، وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون ، ولهم ذرية كما قال الله تعالى في الشيطان : ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) ( سورة الكهف – الآية 50 ) ، وأنهم مكلفون بالعبادات ، فقد أرسل إليهم النبي – عليه الصلاة والسلام - وحضروا واستمعوا القرآن الكريم ، كما قال الله تعالى : ( قُل أُوحِى إِلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَأمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) ( سورة الجن – الآية 1 ، 2 ) 0
وثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد ؟ قال " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما " ( صحيح الجامع 5159 ) 0
وهم - أعني الجن - يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله ، ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة ، وكذلك على الشرب ، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم 0
وعليه 00 فإن الجن حقيقة واقعة ، وإنكارهم تكذيب للقرآن الكريم وكفر بالله عز وجل ، وهم يؤمرون وينهون 0
أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضا ، فإنهم يؤثرون على الإنس ، إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم ، وإما أن يؤثروا عليه بالترويع والإيحاش ، وما أشبه ذلك 0
والعلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية مثل قراءة آية الكرسي ، فإن من قرأ آية الكرسي في ليله لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ) ( مجموع فتاوى ابن عثيمين – 1 / 156 ، 157 ) 0
وقال – رحمه الله - : ( أمّا العلاج – أعني : علاج صرع الأرواح – ؛ فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه ، وعلاجه بالدعاء والقراءة والموعظة 000 ) 0
ثم قال – رحمه الله – بعد أن ساق الأدلة على ثبوت الصرع من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة ؛ : ( وبهذا يتبيّن أن صرع الجن للإنس ثابت بمقتضى دلالة الكتاب والسنة والواقع ، وأنكر ذلك المعتزلة ، ولولا ما أثير حول هذه المسألة من بلبلة وجدال أدى إلى جعل كتاب الله تعالى دالاًّ على معاني تخييلية لا حقيقة لها ، ولولا أنَّ إنكار هذا يستلزم تسفيه أئمتنا وعلمائنا من أهل السنة أو تكذيبهم – أقول لولا هذا وهذا – ؛ ما تكلمت في هذه المسألة لأنها من الأمور المعلومة بالحس والمشاهدة ، وما كان معلوماً بالحس والمشاهدة لا يحتاج إلى دليل ؛ لأن الأمور الحسّية دليل بنفسها ، وإنكارها مكابرة أو سفسطة ؛ فلا تخدعوا أنفسكم ، ولا تتعجلوا ، واستعيذوا بالله من شرور خلقه من الجن والإنس ، واستغفروه وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم ) ( مجموع فتاوى ابن عثيمين – 1 / 299 ) 0
ص)- قال فضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري : ( إن أذى الجن للإنس ثابت لا ينكر حيث ثبت ذلك بالدليل السمعي والدليل الحسي ، والعقل لا يحيله بل يجيزه ويقره ولولا المعقبات من الملائكة التي أناط الله بها حفظ الإنسان لما نجا من الجن والشياطين أحد وذلك لعدم رؤية الإنسان لهم ولقدرتهم على التحول بسرعة ولكون أجسامهم من اللطافة بحيث لا نشعر بها ولا نحس ومن هنا كان مما لا شك فيه أن بعض الجن يؤذي بعض الناس إما لكون الإنسان قد تعرض لهم بالأذى فأذاهم بصب ماء حار عليهم أو ببوله عليهم أو بنزوله بعض منازلهم وهو لا يشعر فينتقمون منه فيؤذونه 0
وإما مجرد الظلم من بعضهم فيؤذون الإنسان بغير سبب كما يحدث ذلك بين الإنسان وأخيه الإنسان إذ أحيانا يؤذي الإنسان أخاه بسبب خاص وأحيانا لمجرد الظلم كما هو مشاهد في الناس عند فساد فطرتهم وضعف إيمانهم وإرادتهم وعقولهم ) ( عقيدة المؤمن - 230 ) 0
ع)- قال الشيخ عطية محمد سالم – رحمه الله - : ( وقد أشار القرآن إلى بعض آثار الشياطين في الإنس في قوله : ( الَّذِينَ يَأكلونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ) ( سورة البقرة – الآية 275 ) ونصوص السنة متضافرة على وجودهم ولقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بهم ، ومعالجته بعض من أصابوهم بالرقى والتعاويذ ) ( العين والرقية والاستشفاء من القرآن والسنة – ص 23 ) 0
ف)- قال الشيخ مشهور بن حسن سلمان : ( كثرة الأقوال وبلبلة الأفكار حول هذا الموضوع بين منكرٍ لصلة الجن بالبشر – وهؤلاء مضيق أو جاحد - ، وفي المقابل هناك موسّع مجازف منتفع مخارق ، ولا سيما في موضوع ( الصرع ) ، الذي بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنصع عبارة وأوضح إشارة ، وذكر عليه من الأدلة النقلية والعقلية والحسية بما لا يدع فيه مجالاً للشك ، وقد أفضت في نقل كلام العلماء في هذا الموضوع ) ( فتح المنان في جمع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجان – ص 21 ) 0
ض)- قال الدكتور فهد بن ضويان السحيمي : ( أن الجن يتلبسون بالإنس فيحدثون لهم الصرع وغيره من الأمراض ولا ينكر ذلك إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة ، والعلاج المشروع لهذا الداء هو الالتجاء إلى الله عز وجل ، والاستعانة عليهم بالرقى المشروعة والمداومة عليها وضرب الجني وانتهاره وسبه ولعنه إن أصر على عدم الخروج ، ولا تجوز الاستعانة عليهم بالرقى الممنوعة ، ولا الذهاب إلى الكهان وإن حصل بذلك الشفاء ، لأن ما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه ) ( أحكام الرقى والتمائم - 134 ) 0
ق)- قال الأستاذ زهير حموي : ( ولا شك في أن الحق هو ما ذهب إليه الأئمة المفسرون ، وذلك لأن القرآن الكريم خاطب العرب بلغتهم ، وأحالهم على معارفهم ، ومفرداتهم التي لها دلالات على أرض الواقع ، فلما شبه أكل الربا بالذي يتخبطه الشيطان من المس اقتضى ذلك أن تكون صورة الممسوس من الجن ماثلة في الأذهان ، حاضرة في الواقع ، وإلا فالقرآن يحيل على مجهول ، وهذا غير ممكن ، ولأن مقتضى التشبيه أن يكون المشبه به أظهر من المشبه وإلا كان التشبيه مقلوبا 0
ولا يصح عقلا ولا لغة أن يقال بأن المراد من المس هنا الوسوسة، وذلك لأن حال الموسوس ليست حالا مميزة عن غيرها في القيام أو المشي لأن الوسوسة محلها العقل الباطن ) ( الإنسان بين السحر والعين والجان – ص 202 ، 203 ) 0
ر)- قال الدكتور حسني مؤذن الأستاذ بجامعة أم القرى إن سلوك الشيطان إلى داخل جسد الإنسان ثابت في السنة الصحيحة ، ولا ينكر ذلك إلا جاهل ، مستشهدا في ذلك بعدة أحاديث نبوية شريفة ، ومنها حديث مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل " ( متفق عليه ) ، وروى أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه " ( متفق عليه ) 00 والخيشوم : الأنف ، والاستنثار : هو تنظيف الأنف من الداخل بالماء 0
ويقول : إنه لا يمكن لأي فكرة أن تصل إلى عقل الإنسان ، إلا عن طريق حواسه مثل السمع والبصر ، وهذا يحدث بين البشر ، ولكننا لا نسمع وسوسة الشيطان ولا نراه فكيف يوسوس إلينا 00 إنه لا يستطيع أن يوسوس الينا من خارج أجسادنا طالما لا نراه ولا نسمعه 0 إذ لا بد أن يكون هناك تداخل والتصاق بين مناطق التفكير والإدراك في الإنسان وهي المخ ، وبين تأثير الشيطان ، وهذا لا يتأتى إلا من الداخل 0 ولما كان الدم يغذي المخ ويصل إليه بسهولة ، فإن جريان الشيطان في الدم ، يمكنه من الوصول إلى مناطق التفكير والإدراك ونقل أفكاره الخبيثة إليها 0 هذا اجتهاد عقلي لسنا مطالبين بالأخذ به ، ولكننا مطالبون بالإيمان بالغيبيات التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم ) 0
وقال أيضا : ( أما النوع الآخر من الصرع فهو يسمى بالصرع الكاذب ، وهو ما يحدث في حالات المس 0 ويتميز بالتهيج العصبي من صراخ مستمر وارتطام بالأرض وتشنج ، وقد تتكرر عملية الارتطام بالأرض ، وقد يتحول أثناء النوبة إلى إنسان آخر ، ويتحدث بلغة غريبة وقد يلوذ بالصمت ولا يتكلم 0
ولأن الصرع الكاذب يرافقه تصرفات غير معقولة ، من صراخ وبكاء وسقوط متكرر وتشنج وتحدث بلغة غريبة ، وهي تصرفات أقرب ما تكون إلى تصرفات المجانين ، ولهذا فإنه يوصف تارة بالصرع وتارة بالجنون 0 وقد مثل الله سبحانه وتعالى بهذا النوع من الصرع الشيطاني لحال أكلة الربا يوم القيامة ، يقول الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأكلونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ " سورة البقرة – الآية 275 " ) ( جريدة المسلمون - العدد 641 - 10 محرم 1418 هـ ) 0
س)- قال الدكتور عبدالحميد هنداوي المدرس بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة : ( فلا يزال الناس يخوضون في هذا الموضوع بين مفرط ومفرط ، بين مكذب معاند يجادل فيه بالباطل ، ويملأ فمه بعبارات ضخمة ، يرغى فيها ويزبد ، فلا يخرج لنا إلا فقاعات ورغاو لا يعبأ بها ، وجاهل متعلم من كلا الفريقين ، يحاول أحدهما أن يقنع الناس أن ليس للشيطان أثر على العباد بمس أو لبس أو صرع وأنه لا يحل بأبدانهم ولا يسلطه الله تعالى على من يشاء من عباده ، ويسلك في ذلك سبلا ملتوية ؛ بأن يدع النصوص الصريحة الصحيحة التي لا سبيل له إلى دفعها ودحضها ، ويلجأ إلى الروايات الضعيفة التي قد ترقى بمجموعها إلى الصحة فيضعفها طريقا طريقا ، أو ينظر في آحاد الأدلة ، فيحاول دحضها واحدا واحدا ، وقد علم أن الحجة في مجموعها ، لأن كل واحد منها يفيد العلم الظني ، ومجموعها يفيد العلم القطعي ، فيحاول دحضها منفردة لا مجتمعة ؛ حتى يسهل عليه رد المقطوع به ، وحتى يموه على من يشاء بأن ليس في المسألة أصل صحيح ) ( الدليل والبرهان على دخول الجان بدن الإنسان – ص 5 – 6 ) 0
وبعد هذا العرض المفصل الذي يبين الأدلة النقلية الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة قديماً وحديثاً وكذلك ردي العلمي المشفوع بالأدلة والبراهين والذي نقله أخي الحبيب ( سعيد بن سعيد ) فإني أقدم بين يدي هذا الموضوع كلاماً للدكتور الفاضل ياسر عبد القوي من كتابه " الأمراض النفسية " ، وحقيقة الأمر فإن إصدار مثل هذا الكتاب الذي يعرض حقيقة الأمراض النفسية وكيفية معالجتها ، والذي يتعرض صراحة وبشكل واضح للأمراض الروحية ، لممّا يثلج الصدر ويشرحه ، وكون أن يبرز على الساحة الإسلامية أمثال هذا الطبيب المسلم فهذه نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى ، حيث أن الله قد حباه بالبصيرة والتمعن ، فعلم حقيقة هذه الأمراض وطبيعتها وتأثيراتها ، ليس ذلك فحسب إنما سخر وقته وجهده لدراستها والوقوف على تفاصيلها ودقائقها ، وبذلك جمع بين النصوص النقلية الصريحة وكلام علماء الأمة في هذه الأمراض ودراسته الأكاديمية العلمية ، وكلنا أمل أن يحذو كثير من الأطباء النفسيين حذو الدكتور الفاضل ، ونحن على يقين تام بأن هذا الاتجاه في الدراسة خاصة بالنسبة للأطباء النفسيين سوف يعطيهم القدرة الفائقة في التعامل مع الحالات المرضية ودراستها دراسة علمية متأنية للوصول إلى حقيقة المعاناة والألم ، والوقوف على الداء ووصف الدواء النافع بإذن الله تعالى ، وهذا هو الهدف والغاية الذي يسعى إليها الطبيب النفسي المسلم ، ويا حبذا لو تتكاثف الجهود الخيرة بين الأطباء النفسيين والمعالجين بالقرآن ويكون محور هذا التعاون والتكاثف الدراسة العلمية الجادة وتحكيم النصوص الشرعية في كل المسائل المطروحة على الدراسة والبحث ، دون تدخل أي طرف في عمل الطرف الآخر ، وهذه المشكلة من أعقد المشكلات التي عمقت الفجوة بين الأطباء النفسيين والمعالجين بالقرآن ، وأعطي مثالاً على ذلك :
يقول الدكتور موسى الجويسر – طبيب العائلة في مركز الشامية الصحي بدولة الكويت عن حقيقة مس الجن للإنس : ( لم أر قط في حياتي إنساناً يسكنه جني ، غير أن التداخل بين المرض النفسي والاعتقاد بوجود الجن موجود ، والمثال على ذلك أن مريض انفصام الشخصية يعاني من خلل في طريقة التفكير رغم أنه يأكل ويشرب بشكل عادي إلا أنه عندما يفكر ونسمع كلامه نجد أنه يقول وبجدية وبدون شعور بالكذب إن فلاناً يكلمني وبالأمس أفطرت مع 000 والحقيقة أنه لم يخرج من المنزل بالإضافة إلى أنه يسمع أصواتاً لا يسمعها غيره في المكان ، وكذلك يقول المتوهم بالإصابة بمس الجن إنه يشعر بعلامات مثل الخدر في الجسم في حين إن مثل هذه الأعراض نجدها في المريض النفسي ، وهنا أطالب بتناول القضية بكل حرص وأناة بين علماء الإسلام خاصة وأنها قضية في غاية الغموض ولا داعي لأن نجعل الكثير من الجهلة والمشعوذين ونعطيهم الفرصة للكسب المادي السريع دون أن يجدوا من يرد عليهم بالحجة العلمية القاطعة ) ( مجلة الفرحة – العدد ( 42 ) – مارس 2000 م – ص 31 ) 0
قلت : هذه هي المأساة التي يعيشها كثير من الأطباء النفسيين ، ونصيحتي لكل طبيب نفسي مسلم أن يهتم بالجوانب الطبية النفسية ودراستها ، وأهم من ذلك كله أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن النصوص النقلية الصريحة أكدت بما لا يدع مجالاً للشك على هذه الأمراض وحقيقتها وتأثيراتها ، ويبقى اهتمام الطبيب النفسي المسلم ينصب على دراسة الحالة المرضية وتشخيصها ولا يكون ذلك بمعزل عن الإيمان القطعي بالأمراض الروحية ، ولا مانع مطلقاً أن يجتمع الطبيب النفسي مع المعالج بالقرآن ليستطيعا معاً وفق الأصول الشرعية والمعايير الطبية من الوقوف على حقيقة الداء ووصف الدواء النافع بإذن الله تعالى ، أما أن ننكر الأمراض الروحية ونلقيها وراء ظهورنا ونبدأ بتحليل كل الأعراض على أنها أعراض نفسية فهذا هو عين الخطأ ، وهذا لا يعني أنني أبرأ كثيراً من المعالجين ممن سلك هذا المسلك فأخذ يصف الدواء ويطلب صور الأشعة ويضع في عيادته الوسائل الطبية التعليمية ليشرح للمرضى عما يعانون منه من أمراض روحية ، وكلا الطرفين لن يفلحا مطلقاً في تقديم العون والمساعدة للمرضى النفسيين أو مرضى الأمراض الروحية ، ومن هنا لا بد أن تكون الغاية والهدف للجميع الانتصار للحق ، دون انتصار للذات ، عند ذلك سوف تعم الفائدة ونصبو للخير وتتحقق المصلحة الشرعية للجميع سواء كانوا أطباء أو معالجين أو مرضى وغيرهم ، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الدكتور ياسر في عمله ويبارك في جهده ، وأن يجعله سبباً من أسباب الشفاء بإذنه سبحانه وتعالى وحده 0
يقول الدكتور ياسر عبد القوي : ( للمس أعراضه وآثاره التي تميزه وإن كانت تتشابه مع بعض الأعراض النفسية ، وأحياناً يكون التشابه شديداً وأهل الخبرة والدراية فقط هم الذين يستطيعون التفريق بينهما ، ولهذا يجب الحيطة والحذر الشديدين في التعامل مع الأعراض لإعطاء التشخيص الصحيح ، وهذه الأعراض كثيرة ، فمنها النفسية والجسمانية والروحية 0
أولاً : الأعراض النفسية :-
1- نوبة الصرع : ويصف هذا العرض المحيطون به ويتميز صرع الجن بالآتي :
أ- أسباب نوبة الصرع : هناك أمور تساعد على ظهور هذه النوبة مثل ضغط نفسي أو حزن شديد أو صدمة عصبية أو بسبب سماع القرآن الكريم أو ذكر الله أو درس من دروس العلم ، أو الحديث عن أحوال الجن وعالمهم ، أو شم بعض الروائح التي يحبونها كالبخور مثلاً ، وأحياناً لا يكون بسبب واضح 0
ب- فقد وعي : إما أن يكون تاماً أو غير تام مصاحباً برعشة وارتجاف واختلاط الأعضاء أولاً ، ولكنه غالباً لا يكون معه عضة لسان أو تبول لا إرادي ، وهذا ما يفرقه غالباً عن الصرع العصبي 0
ج- نطق أو تكلم أثناء النوبة : قد يحدث نطق بصوت مختلف أو بطريقة مختلفة أثناء النوبة وغالباً ما يكون بطريقة مفهومة ، وأحياناً لا يكون صوت كلام وإنما بكاء وصراخ 0
د- رسم المخ ( تخطيط المخ ) يكون سليماً ، ولهذا فإن هذا الصرع يشبه إلى حد بعيد الصرع الهستيري لا الصرع العصبي 0
هـ- قراءة القرآن على المريض أثناء النوبة قد تساعد على إفاقته على غير العادة 0
2- تسلط الوساوس على المريض بصورة مكثفة : وهي الوساوس التي تصده عن الذكر والعبادة ، أو تأمره بمعصية ، أو تهيجه إلى إثم ، أو تنفره من أهل الخير ومن أهله وزوجه ، وهذه الوساوس غالباً يعبر عنها المريض أنها صادرة من نفسه أو من صوت في صدره 0
3- الحزن والعصبية وانقباض الصدر في فترات كثيرة أثناء اليوم دون سبب واضح 0
4- العصبية الشديدة والاستثارة لأتفه الأسباب والتفوه بكلام لا يتذكره المريض بعد هدوئه ، وهذا مصداق قول النبي في الحديث الصحيح لما نصح رجلاً غاضباً بأن يقول كلمة تذهب عنه ما يجد " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " 0
5- الشرود الذهني المتكرر والذي يستغرق فترة ليست بالقصيرة من اليوم ، فدائماً يشكو المريض بالمس من الشرود والتفكير في لا شيء ، وربما يمكث الممسوس ساعة من الزمن شارداً حتى لا يشعر أنه قضى هذه الساعة وكأنه لم يعشها 0
6- النسيان لبعض الأحداث أثناء فترة تعبه ، سواء أكانت أفعالاً أم أقوالاً ، ولا يتذكرها تماماً وربما يستنكرها ويستغربها وقد فعلها 0
7- الخوف والهلع كثيراً ما ينتاب الممسوس : حالات خوف أو أحياناً هلع بين الحين والآخر وقد تستمر ولا سيما ليلاً ، وكثيراً ما يكون الخوف شديداً يمنع من الحياة الطبيعية وكذا النوم الطبيعي0
8- الأرق : كثيراً ما ينتاب الممسوس إما في بداية النوم وإما في منتصف الليل 0
9- الفزع : أثناء النوم والأحلام المزعجة ( الكوابيس ) يشكو كثير من الممسوسين منها ، وأنها توقظهم من النوم 0
10- صدود المرأة عن الزواج وكذا الرجل : كثيراً ما تتعرض الممسوسة للصدود في مواضيع الخطبة والزواج دون أسباب ظاهرية 0
11- إيثار الجلوس في الحمامات لمدة طويلة : هذا العرض يظهر في كثير من الممسوسين وهو ميل إلى الجلوس في الحمامات والخرابات وأماكن النجاسات 0
ثانياً : أعراض جسمانية :
1- الصداع : فهو مصاحب لمعظم حالات المس وهو شديد ولا يتأثر بالأدوية المسكنة ، وكثيراً ما يرتبط بتعرض المريض للحزن أو الغضب أو عند قراءة القرآن وسماعه له ، أو لعدم تنفيذ رغباته ، ولا يكون للصداع ما يفسره من الأسباب العضوية 0
2- آلام الظهر : آلام مؤخر الظهر مشتهرة عند الممسوسين وهي لا تعزى لأسباب عضوية 0
3- آلام متفرقة : في الجسد ومتنقلة ، ولا تعزى لأسباب عضوية وغالباً تزداد عند الاستيقاظ 0
4- النزيف : والذي يعزى إلى الاستحاضة والتي كما فسرها النبي إنها ركضة من ركضات الشيطان وليست حيضاً 0
5- آلام المعدة : أحياناً يشتكي منها الممسوس دون سبب عضوي ودائماً تكون في منطقة فم المعدة وأحياناً انتفاخ البطن 0
6-تنميل في بعض الأعضاء ( اليدين والقدمين وأحياناً الرأس واللسان ) 0
7- فقدان وظيفة بعض الأعضاء مثل ( الشلل – العمى – الخرس – الصمم ) ، وهذا الفقدان الوظيفي ليس له سبب عضوي على الإطلاق والأطباء يؤكدون أن العضو سليم تماماً0
8- آلام الجماع الجنسي وتقلص العضلات : هذه الأعراض تظهر من الممسوسة كنوع من أنواع إبعاد الجني الصارع لزوجها عنها 0
ثالثاً : أعراض روحية :
ونقصد بها المتعلقة بجانب العبادة والصلة بالله تعالى :
1- الصدود عن ذكر الله وعن الصلاة وعن قراءة القرآن أو سماعه ، وعن مجلس العلم وغيره 0
2- الشعور بالتعب وحصول بعض الأعراض النفسية والجسدية إذا حاول الممسوس المواظبة على الذكر أو الصلاة أو قراءة القرآن أو سماعه 0
3- الإعراض عن الطاعة والإقبال على المعاصي المتمثلة في ( التبرج والسفور – سماع الغناء والموسيقى وطاعة الهوى – حب اللهو – البعد عن المساجد والتعب إذا جلس فيها والشعور بالضيق عند الوجود فيها ) 0
4- تغير في السلوك ، وهذا دائماً من جانب الزوج مع زوجه والزوجة مع زوجها ، حيث قد يحدث النفور وإذكاء جمرة الخلافات بينهما على أتفه الأسباب ، وكثيراً ما يحدث تغير في السلوك الجنسي بين الزوجين ( نفور – إعراض – تعب أثناء ممارستها ) 0
5- أفكار خبيثة واهتزاز عقيدة : دائماً يشكو منها الممسوس متمثلة في ( التشاؤم وتوقع المكروه دائماً – عدم الرضا بأقدار الله وسرعة اليأس والقنوط من رحمة الله – أفكار تبث الحزن في نفس المريض وتبعد عنه حسن الظن بالله أو الأمل في رحمته ) 0
6- خمول وكسل تجاه العبادات كالصلاة والذهاب إلى المساجد ، وقراءة الأذكار وغيرها ، وأحياناً كثرة النوم بالنهار والليل ) ( مجلة الفرحة – العدد ( 42 ) – مارس سنة 2000 م – ص 26 – 27 - نقلاً عن كتاب " الأمراض النفسية " ) 0
قلت : وهذه جملة من الأعراض العامة التي قد تحدد صرع الأرواح الخبيثة وما جاءت هذه البنود إلا نتيجة للدراسة المتأنية المتبصرة لواقع المرضى ، ولمن يعاني بمثل هذا النوع من المرض ، وهذه الخلاصة لا تعني مطلقاً تنحية الأمراض النفسية جانباً ، بل على العكس من ذلك تماماً ، فلا بد من الاهتمام بكلي النوعين - الأمراض الروحية والأمراض النفسية – حتى تتحقق المصلحة العامة للمسلمين 0
ناهيك عن أمر مهم جداً لا بد من الإشارة إليه تحت هذا العنوان وهو أنه لا يجوز مطلقاً القياس من قبل المرضى وتحديد معاناتهم بناء على قراءة مثل تلك الأعراض ، فلا بد من عرض الحالة المرضية أولاً على المعالج الحاذق المتمرس المتخصص في مثل هذا النوع من الأمراض ، ليستطيع أن يقف على الداء ومن ثم يصف الدواء النافع بإذن الله تعالى ، وإلا فلا بد من تحويل الحالة إلى الطبيب النفسي المسلم المتمرس الحاذق الذي يملك الخبرة والدراية لمعرفة المعاناة النفسية للمريض ومن ثم يتخذ الإجراءات الطبية الخاصة في المتابعة والعلاج 0
ولا اعتقد أخي الكريم بعد هذا العرض الشامل والكامل لهذه المسألة أن هناك موقعاً منها للدكتور جمال أبو حسان ، وأختم بمقولة تشابه ما استشهد به الدكتور الفاضل وأقول
( بأن الدين حجة على الناس وليس الناس حجة على الدين ) 0
فهل بقي بعد هذا الكلام كلام ، أما تنميق الكلام وسجعه فهذا لا يغير من الحقيقة شيء ، فالشمس ساطعة في كبد السماء ، والقمر منير في الظلمات ، والحق أبلج والباطل لجلج 0
سائلاً المولى عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل 0
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،
أخوكم المحب / أبو البراء أسامة بن ياسين المعاني 0