كان لأبي حنيفة رحمه الله جارٌ إسكافٌ بالكوفة، يعمل نهاره أجمع، فإذا أجنَّه الليل رجع إلى منزله بالخمر ولحمٍ أو سمكٍ، فيطبخ اللحم أو يشوي السمك، حتّى إذا دبّ الشراب فيه رفع عقيرته ينشد:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا * ليوم كريهة وسِداد ثغرِ
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت، حتى يغلبه النوم
وكان أبو حنيفة رحمه الله يصلي الليل، ويسمع جلبته وإنشاده، ففقد صوته ليالي، فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ثلاث ليال، وهو محبوس، فصلّى الفجر وركب بغلته، ومشى فاستأذن على الأمير، فقال: ائذنوا له، وأقبِلوا به راكِبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، فَفُعِلَ به ذلك، فوسَّع له الأمير مجلِسَه، وقال له: ما حاجتك؟ فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاث ليال، فتأمر بتخليته، فقال: نعم، وكل من أخِذ تلك الليلة إلى يومنا هذا، ثم أمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة وتبعه جاره الإسكاف، فلما أوصله داره، قال أبو حنيفة: أتُرانا يا فتى أضعناك؟ قال: لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن صحبة الجوار ورعاية الحق، وللهِ عليّ ألاّ أشرب الخمر أبدا، ولم يَعُدْ إلى ما كان عليه.
[«شرح مقامات الحريري» (3/31)]