"أهرب، أهرب بعيدًا، لا تسمع ولا تصدق ما قالوا" كلمات تمتم بها قلبي كثيرًا، حينما سمعتُ خبر رحيل صديقنا الشيخ عبدالعزيز الوهيبي.
لقد حزنتُ حزنًا كبيرًا وعميقًا حينما علمتُ بوفاتك، وبكيتُ صامتًا متألمًا حينما علمتُ أنك مت في طريقك نحو المشرق وبصحبتك ملائكتك الصغار، ووطنك الدافئ زوجتك، لترحلوا جميعًا عن دنيانا.
أحقًا رحلت عنا؟ أحقًا تركتنا؟
لقد حزنتُ عليك حزنًا، حبست دموعي وبكى قلبي وتمرد عقلي، غير مصدق ما حصل.
يا لقسوة دموعي التي لم تذرف دمعة واحدة عليك، وهكذا هي عادتها، لا تخرج عند فقد الأحبة، وكأنها تقول: سأبقى في داخلك إلى الأبد لأعذبك وأحزن أعماقك، وأجعل أحبتك يعيشون صورًا حية خالدة داخلك يطوفون بعقلك الباطن.
نعم، حاولت أن أهرب، لكني لا أستطيع، لن أصدق أنك عبرتَ تلك البوابة التي كنتُ أتمنى أن أمد عنقي لأنظر لما وراءها ثم أعود، لعلي بعد ذلك لا أحاول الهروب.
أحقًا عبرتَ تلك البوابة؟
إذن لن تعود، هكذا فعل قبلك أحب أصحابي إلى نفسي، عبروا نحو تلك البوابة، ولم يعد منهم أحد، نعم، لم يعد أحد.
كل الذي عاد مجرد أطياف وكلمات وصور باسمة، وذكريات ودموع، وأسماء أصبحت مقرونة دائمًا بـ (رحمه الله).
حزني عميق ومؤلم ومكبوت..
لقد طارت بي أحلامي، فرأيتُ نفسي تعبر بوابات الزمان، وترجع للوراء، وتلف الليل والإصباح، لقد أصبحتُ معكم، نعم أصبحت معكم في تلك السيارة التي تتوجه نحو المشرق!
لقد رأيتُ وجهك قبيل الحادث بدقائق، كنتُ تداعب بناتك، وهنَّ يضحكن ببراءة، كنت تضع السواك في فمك وأنت تحاول أن تخفي ابتسامتك!
لقد سمعتُ -وأنا معكم- تلاوة بُنياتك القرآن..
يالله!
يا لها من تلاوة نورانية، كانت إحدى بناتك تتلو القرآن وكأنها كوكب دري هبط إلى الأرض ليرتل القرآن ترتيلاً.
لم يكن موكبكم إلا حلقة من نور تسير من الغرب نحو الشرق!
كنتُ أراك وأنت تنظر في المرآة الأمامية وأنت تغتبط فرحًا بحفظ بناتك كتاب الله، وتزداد فرحًا وأنتَ تعلم أن رحلتكم الاستجمامية ليست إلا حلقة في سلسلة طويلة من رحلاتك الدعوية!
لقد شغلتُ عنك آخر لحظاتكم وأنا انظر للساعة وأترقب وقت الرحيل، لم تبق إلا ثواني معدودة وتنتقل تلك العائلة النوارنية من عالمنا إلى عالم آخر.
لقد كنتُ انظر في عينيك وأنتَ تنظر بفرح وغبطة نحو بناتك، وهنَّ ينظر إليك بفخر وفرح، بأبيهن النبيل التقي الزاهد الحنون!
لقد قطع تأملي وإعجابي صوت صرير عجلات السيارة، ثم ارتطامها القوي المدمر وكأنه دوي أعظم انفجار !
لقد رأيتُك وقد سقط سواكك من فمك، وتخلل لحيتك!
يالله، يالله، يالله!
حتى سواكك أحبك، فجزع من فراقك، فتمسك بك وتوارى في لحيتك، وكأنه يقول: صحبتني في الدنيا ولسوف أصحبك في قبرك!
لقد رأيتك والدماء تسيل تـثعب منك، وآخر نظرة أبوية مشفقة منك على ما حل بفتياتك الصغار.
ثم غيرت وجهك حينما رأيتَ ضيوفًا ليسوا من البشر حلو بساحتك، فتبسمت ورفعتَ إصبعك، وكأنك تقول: الرفيق الأعلى، ثم أسلمت الروح.
وإذا بروحك وهي تطير إلى السماء ترى روح زوجتك الحبيبة وأرواح بناتك الصغار قد سبقتك هناك، فتبسمتَ، ثم حزنت نفسك وأنت ترى بعض فتياتك الصغيرات لا زلن بين حُطام السيارة جريحات!
وكأنني سمعتك تدعو الله –الذي طالما علمت الناس توحيده ومحبته- أن يحفظهن ويعجل بشفائهن، ويسخر لهن من يخدمهن كما كنت تخدم الآخرين!
لقد رأيتك وأنت ترحل، لقد تركت جسدك بيننا وتركت سواكك، رحلتَ وتركت بناتك، وتركت من يحبك.
لقد رحلت وتركتَ كتابك (صحيح البخاري) في آخر درسٍ ألقيته لتلاميذك اليتامى بعدك، لقد تركت كتابك، وتركت معه ورقتك الصغيرة التي وضعتها عند آخر فصل في ذلك الباب الأخير الذي وقفت عنده، ذلك الفصل الذي تركته هو (ما أعده الله من نعيم لأهل الجنة) وأنتَ تقول لطلابك: هنا بركة، بركة!
لقد توقفت عن قراءة ذلك الفصل، ومن يدري لعل الله أراد لك أن تقف بنفسك عيانًا على حقائق ذلك الفصل، فليس المُعاين كالسامع!
في أمان الله يا أخي الحبيب..ووداعًا..
وإلى اللقاء في ذلك المكان الذي أعده الله لأهله..
كتبه / عايض بن سعد الدوسري