سؤال: إذا فُسرت الرؤيا بأكثر من تفسير فأي واحد يتحقق؟ وهل صحيح أن التفسير الأول فقط هو الذي يتحقق؟
سؤال محير بالفعل ...وبعد البحث وجدت ان
هناك خمسة أقوال في هذه المسألة:
1. يتحقق التفسير الأول للرؤيا مطلقًا، ولا يتحقق أي تفسير آخر بعده.
ويُقصَد بذلك أنه بمجرد أن يقوم شخص بتفسير الرؤيا على معنى معين بصرف النظر عن كون هذا التفسير مُحتملًا أو غير مُحتمل، أو كونه صوابًا أو خطأ، فإن هذا التفسير يثبت على الرؤيا، ويكون هو المعنى المتحقق لها.
وقد استند من قالوا بهذا الكلام إلى ظاهر معنى حديث النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم): «إنَّ الرؤيا تقع على ما تُعبَّر، ومَثَلُ ذلك مثل رجل رفع رِجلَيه فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا، فلا يُحَدِّث بها إلا ناصحًا أو عالمًا» (حديث صحيح - صحيح الجامع).
وقال بعض أنصار هذا القول بأن القَدَر يسوق للرؤيا من يفسرها أول تفسير، فتتحقق عليه.
2. يتحقق التفسير الأول للرؤيا بشرط أن يكون مُحتملًا، وإلا فلا.
ويُقصَد بذلك أن التفسير الأول للرؤيا يتحقق جزمًا إذا كان مما تحتمله رموزها؛ أي التفسير الاحتمالي الذي يقوم على قاعدة صحيحة من قواعد تفسير الرؤى. أما إذا كان التفسير خطأ، أو غير مُحتمل، أو لا يستند إلى أية قاعدة من القواعد الصحيحة لتفسير الرؤى، فإنه لا يتحقق، ولكن يتحقق أول تفسير مُحتمل بعده، فإن لم يكن الذي بعده محتملًا، تحقق الذي بعده من التفسير المُحتمل، وهكذا.
وقد استند من قالوا بهذا الكلام إلى قول النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) لأبي بكر الصديق (رضي الله تعالى عنه) عندما فسر رؤيا في حضرة النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم): «أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا» (متفق عليه)، فاستنتجوا من ذلك أن التفسير الخطأ لا يتحقق، ولو كان أول تفسير.
وقد حاول أصحاب هذا القول بذلك تقييد وتصحيح الفهم الواسع جدًا للمسألة عند أصحاب الحديث المُستَنَد إليه في القول الأول، وذلك بالحديث المُستند إليه في القول الثاني.
فحديث أصحاب القول الأول صحيح عند أصحاب هذا القول، ولكن قيدوه وحددوا معناه بالحديث الثاني، فاستثنوا التفسير الخطأ من التحقق، ولو كان هو التفسير الأول للرؤيا.
ومع ذلك، فهناك إشكال في القولين الأول والثاني. وهو أنه إذا ما افترضنا أن أيًا منهما صحيح، فبناء على ذلك، يستطيع الإنسان أن يعرف الغيب بشكل يقيني لا شك فيه من خلال الرؤيا بمجرد أن يتم تفسيرها أول تفسير أو أول تفسير محتمل، وهذا غير ممكن؛ لأن الغيب اليقيني لا يعلمه إلا الله (عزَّ وجلَّ) وحده لا شريك له (سبحانه وتعالى) (تناولنا هذه المسألة تفصيلاً في سياق الكتاب، فليرجع إليها من أراد الاستزادة).
3. تتحقق الرؤيا على الخير أو الشر في أول تفسير مُحتمل دون شرط أن تتحقق تفاصيل هذا التفسير الأول.
ويُقصَد بذلك أن الرؤيا إذا فُسِّرت أول مرة على معنى خير مُحتمل تحققت على الخير، ولكن على أي خير محتمل، وليس بالضرورة الخير الذي ذكره المفسر في التفسير الأول.
فمثلًا: إذا فسر مفسر رؤيا تفسيرًا أول على أنها بشرى بزواج، فهذا أول تفسير للرؤيا على احتمال خير. وبالتالي تقع الرؤيا على الخير عمومًا، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الخير زواجًا كما قال المفسر الأول، فقد يكون زواجًا كما قال، أو قد يكون خيرًا آخر محتملًا أيضًا.
وبالمثل، إذا فسر مفسر رؤيا تفسيرًا أول على معنى شر محتمل، كإنذار بمرض خطير مثلًا (عياذًا بالله تعالى)، فهذا أول تفسير للرؤيا على احتمال شر. وبالتالي تتحقق الرؤيا على الشر، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الشر مرضًا خطيرًا كما قال المفسر الأول، فقد يكون كذلك أو قد يكون أي شر آخر.
ويستند هذا القول إلى حديث النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم): «إذا عبرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على خير فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها» (حديث حسن - فتح الباري).
وكذلك حديث النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم): «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلِي إلى أنها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة يثرب» (متفق عليه).
فذهب أصحاب هذا القول بأن الرؤيا إذا فُسرت على خير، تحققت على خير، وإذا فسرت على شر، تحققت على شر، وذلك استنادًا إلى نص الحديث السابق الأول.
ومع ذلك، فليس بالضرورة أن تتحقق الرؤيا على احتمال الخير (أو الشر) الذي ذكره المفسر الأول، وذلك استنادًا إلى نص الحديث السابق الثاني، حيث فُسرت الرؤيا تفسيرًا أول مُحتملًا على الخير (اليمامة أو هَجَر)، فوقعت على الخير، ولكن على خير آخر مختلف (المدينة) مما يحتمله تفسير الرؤيا غير الاحتمالين المذكورين في التفسير الأول.
وهذا القول هو محاولة لتلافي الإشكال في القولين الأول والثاني. فهو من جهة يثبت وقوع التفسير الأول للرؤيا، ومن جهة أخرى ينفي أن تكون الرؤيا مصدرًا للعلم بالغيب اليقيني، فيؤكد على دخول الظن والاحتمال في تفسيرها.
وهذا القول أقوى وأفضل من سابقيه.
4. للرؤيا تفسير واحد فقط هو الذي يتحقق، وليس بالضرورة أن يكون أول تفسير، ولا حتى أول تفسير محتمل.
لهذا القول شعبية كبيرة بين مفسري الرؤى. وقد استند من قال به إلى حديث النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم): «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلِي إلى أنها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة يثرب» (متفق عليه).
فقال أصحاب هذا القول أن النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) قد فسر هذه الرؤيا تفسيرًا أول محتملًا (اليمامة أو هَجَر). ومع ذلك، فلم يشأ لها الله (تعالى) أن تتحقق عليه. وبالتالي فلكل رؤيا تفسير واحد صحيح متحقق، وليس بالضرورة أن يكون أول تفسير، ولا حتى أول تفسير مُحتمل.
وتظهر هنا محاولة أصحاب هذا القول لفهم الحديث بشكل مختلف عن فهم أصحاب القول السابق له.
وهذا القول هو من الأقوال القوية المعتبرة، تؤيد صحته وأهميته التجربة والخبرة لكثير من مفسري الرؤى.
5. جميع الأقوال السابقة تستند إلى أدلة صحيحة. وبالتالي فكلها مُحتملة الصحة. وعلى المسلم أن يحسن الظن بالله (تعالى)، وألا يقص رؤياه إلا على عالم أو حبيب.
ويُقصَد بذلك أن جميع الأقوال السابقة يُحتمل أن يصح بعضها أحيانًا، ويُحتمل أن يصح البعض الآخر أحيانًا أخرى.
فقد يتحقق أول تفسير للرؤيا أحيانًا، وقد لا يتحقق في أحيانٍ أخرى. وقد تتحقق الرؤيا على أول احتمال خير أو شر أحيانًا، وقد يكون لها تفسير واحد صحيح تتحقق عليه في أحيانٍ أخرى.
وواجب المسلم دائمًا في التعامل مع الرؤى أن يحسن الظن بالله (تعالى)، وأن يعلم أن الله (عزَّ وجلَّ) لا يريد لعباده المسلمين الموحدين إلا الخير في الدنيا والآخرة، وأن يعلم كذلك أن المسلم الصالح يتقلب دائمًا من خير إلى أفضل برحمة الله (جلَّ جلاله)، وكرمه، وتوفيقه (سبحانه). فلا ينبغي لرؤيا أن تغير هذا المعتقد أبدًا عند المسلم مهما كان ظاهرها سيئًا.
وينبغي للمسلم أن يدرك أن رؤياه إن لم تتحقق على الخير الذي يتوقعه، فستتحقق بفضل الله (تعالى) وكرمه (سبحانه) على خير أفضل مما يتوقعه. وهذا هو شأن المولى الكريم (سبحانه وتعالى) مع عباده المسلمين الموحدين الصالحين.
وكذلك ينبغي للمسلم - بعد أن أدرك ما قد يكون لتفسير الرؤى من خطورة - أن يحرص على ألا يقص رؤياه إلا على عالِم أو حبيب كما علَّمنا النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم).
ولعل هذا هو أفضل وأشمل ما قيل في هذه المسألة، ولعل هذا القول الأخير يكون حلًا لإشكالات كثيرة في تفسير الرؤى لم تستطع الأقوال الأخرى السابقة حلها.
والله (تعالى) أعلم.
الموضوع منقول من كتاب شمس دنيا المنام الإصدار الثاني لمؤلفه العبد الفقير إلى الله تعالى.