البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس:
لقد بشَّر المسيح عليه السلام بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:6]
وقد جدَّ النصارى- ومن قبلهم اليهود- في حذف هذه البشارات من كتبهم أو صرفها عن وجهها، ويزعمون أنه لا يوجد في كتبهم إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن وجد شيء صرفه النصارى إلى عيسى ابن مريم، وصرفه اليهود إلى المسيح الذي ينتظرونه، وهي في الواقع لا تنطبق إلا على نبي هذه الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته،
وقد بقي من هذه البشارات الشيء الكثير مع تحريفهم لكتبهم، وقد ذكر منها الشيخ (رحمة الله الهندي) في كتابه (إظهار الحق) ثماني عشرة بشارة، منها إحدى عشرة بشارة في العهد القديم، وسبع بشارات في العهد الجديد، فنذكر بعضاً من تلك البشارات مما ورد في العهدين القديم، والجديد.
البشارة الأولى:
ورد في سفر التثنية (18/17): (قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه).
هذا الكلام لا ينطبق إلا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال: (من وسط إخوتهم). وإخوتهم هم أبناء إسماعيل عليه السلام؛ لأنه أخو إسحاق الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل حيث هما ابنا إبراهيم عليه السلام.
وأيضاً قال (مثلك) ومعلوم أن اليهود يرون أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى حيث قالوا في سفر التثنية (34/10): (ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى، الذي عرفه الرب وجهاً لوجه).
وفي النسخة السامرية من التوراة هكذا (ولا يقوم أيضاً نبي في إسرائيل مثل موسى الذي ناجاه الله شفاها). واليهود يزعمون أن هذه البشارة لنبي لم يأت بعد، وإن زعم بعضهم أن المراد بها يوشع بن نون، فهذا غير صحيح؛ لأنه ليس مثل موسى،
ويزعم النصارى أن المراد بها عيسى عليه السلام، وهي في الواقع لا تصدق عليه بأي وجه؛ لأنه:-
أولاً: من بني إسرائيل وليس من إخوتهم.
ثانياً: هو ليس مثل موسى عليه السلام، فإنه تابع له، كما أنه عند النصارى إله، وابن إله، فلو أقروا بأنه مثل موسى لهدموا ديانتهم وما هم عليه.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق عليه من جميع الوجوه، فإنه من إخوتهم، وهو مثل موسى عليه السلام نبي رسول، وأتى بشريعة جديدة، وحارب المشركين، كما فعل موسى عليه السلام.
ثم إنه قال: (أجعل كلامي في فمه). فهذا كناية عن القرآن المحفوظ في الصدور، الذي تلقَّاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم مشافهة من جبريل عليه السلام، وحفظه في قلبه، وتلاه بعد لأمته من فمه عليه الصلاة والسلام، حيث كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام.
ثم إن الله جلَّ وعلا أتم وعده للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذين لا يطيعونه فإن الله سيطالبهم، وقد طالبهم، فانتقم من أعدائه المشركين واليهود، ثم ممن عداهم من الأمم. وهذا لم يكن لنبي غيره،
وعيسى عليه السلام لم ينتقم الله من أعدائه، بل كان أعداؤه في مكان المنتصر، فأرادوا قتله إلا أن الله جلَّ وعلا أنجاه منهم،
وفي زعم النصارى أنهم قبضوا عليه وأهانوه وصلبوه.
البشارة الثانية:
جاء في سفر التثنية (33/1): (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم).
فمجيء الرب من سيناء معناه إعطاء موسى عليه السلام التوراة، وقوله: (أشرق من سعير). التبشير بالمسيح عليه السلام؛ لأن ساعير جبل في أرض يهوذا في فلسطين، وقوله: (وتلألأ من جبل فاران).
المراد به التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن فاران جبل من جبال مكة، وقد سموه بكتابهم بهذا الاسم،
فقالوا عن إسماعيل عليه السلام في سفر التكوين (21/21): (سكن برية فاران وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر) وإسماعيل عليه السلام لم يسكن إلا مكة.
البشارة الثالثة:
جاء في سفر (حجي) (2/7) - أن حجي وهو أحد أنبيائهم - أخبر بني إسرائيل بعد تدمير الهيكل وسبيهم إلى بابل وعودتهم مرة أخرى بما قال الله له معزياً لهم: (لأنه هكذا قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السموات، والأرض، والبحر، واليابسة، وأزلزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم، فأملأ هذا البيت مجداً، قال رب الجنود: ولي الذهب يقول رب الجنود: مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود: وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود).
فقوله هنا: (مشتهى كل الأمم). ترجمة بالمعنى لكلمة (حمدا) بالعبري، كما يقول البرفسور عبد الأحد داود والتي لازالت مكتوبة بالعبري بهذا اللفظ والتي تعني المشتهى، والشهية، والشائق، وأن هذه الكلمة (حمداً) بالعبري يوازيها بالعربي (أحمد) فتكون نصا صريحاً،
وكذلك قوله بعد: (وفي هذا المكان أعطي السلام). والسلام والإسلام شيء واحد، وقد جاء السلام إلى بيت المقدس برحلة النبي عليه الصلاة والسلام إليه في الإسراء، ثم بفتحه في عهد عمر رضي الله عنه.
ثم إن ما تعلق بعد ذلك من الأحداث بمجيء (حمدا) لا تنطبق إلا على نبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، فبعد خراب بيت المقدس سنة (70) م لم يعد له مجد إلا على يد المسلمين، وهو مجد أعظم من مجده السابق،
وما أحدثه الإسلام في الأرض بأن زلزل الدول، وأهلك الله جلَّ وعلا على يد المسلمين أهل الذهب القياصرة، وأهل الفضة الفرس، وصارت أموالهم تنفق في سبيل الله، كل هذا لم يفعله أحد من اليهود، ولم يفعله المسيح عليه السلام، ولم يتحقق إلا على يد نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم وأتباعهم.
البشارة الرابعة:
ورد في إنجيل يوحنا (16/7): (لكني أقول لكم الحق أنه من الخير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم (المعزى) ولكن إن ذهبت أرسله لكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة...
ثم قال : (إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم).
فقوله: (المعزى). المراد به الذي أجد به عزاء، وهذا لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يجد عيسى عليه السلام به العزاء؛ لأنه يبين الحق، ويظهر الله على يديه الدين الذي لم يتمكن المسيح عليه السلام من إظهاره.
ثم إن الذي ذكر مكان هذا اللفظة- وهي (المعزى)- في الترجمات الأخرى عدا العربية هي لفظة (الفارقليط) اليونانية، وقد بدَّله المترجمون في النسخ العربية إلى (المعزى)؛ لأن معنى (الفارقليط) هو المعزى،
ولكن الذي بيَّنه (الشيخ رحمة الله الهندي) وغيره أن (الفارقليط) هو تحريف لكلمة (بيرقليط) التي تعني محمد أو أحمد، ولحسد النصارى وبغيهم حرفوا هذه الكلمة التي هي نص في اسم النبي صلى الله عليه وسلم في لغة اليونان،
مع العلم أن النص اليوناني لإنجيل يوحنا أقل ما يقال فيه: أنه ترجمة لما نطق به المسيح؛ لأن المسيح عليه السلام كان يتكلم الآرامية، وليس اليونانية، كما أن الواقع أن (المعزى) لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا معزى بعد المسيح إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن كل بشارة بأحد وردت على لسان المسيح عليه السلام إنما تنصرف باللزوم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس بينهما نبي، وليس بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي.
بهذا يتضح أن الله عزَّ وجلَّ قد أقام الحجة على اليهود والنصارى بما بين أيديهم يقرؤونه ويرونه، لو كانوا يبصرون.
بشارات الأنبياء:
بشارة يعقوب عليه السلام بشيلون:
وقد توالى الأنبياء وهم يبشرون بمقدم نبي آخر الزمان، ويذكرون صفاته وأحواله، والتي من أهمها أنه ليس من بني إسرائيل، كما أنه صاحب شريعة تدوم إلى الأبد، يسحق أعداءه، ودعوتُه تكون لخير جميع الأمم.
وهذه الصفات لم تتوافر في أحد ادعى النبوة سواه، ولا يمكن للنصارى حمل تلك النبوءات التي يقرون في أنها نبوءات،
لا يمكن لهم أن يحملوها على غيره صلى الله عليه وسلم؛ إذ موسى وعيسى كانا نبيين إلى بني إسرائيل فقط، وكان موسى صاحب شريعة انتصر أتباعه على أعدائهم،
وأما عيسى فلم ينزل بشريعة مستقلة؛ إذ هو نزل بشريعة موسى وبتكميلها، فهو القائل: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل). (متى 5/17)، ولم يُقيَّض له أن ينتصر على أعدائه، بل تزعم النصارى أنهم تمكنوا منه وصلبوه. فكيف يقال بأنه المختار الذي يسحق أعداءه وتترقبه الأمم ؟
وأقدم النبوءات الكتابية الصريحة التي تحدثت عن النبي الخاتم جاءت في وصية يعقوب لبنيه قبل وفاته،
حين قال لهم: (ودعا يعقوب بنيه، وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام، اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب، واصغوا إلى إسرائيل أبيكم... لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب ). (التكوين 49/10)، فهو يخبرهم عن وقت زوال الملك والشريعة عنهم في آخر الأيام.
وأما نسخة الرهبانية اليسوعية، فالنص فيها: (لا يزول الصولجان من يهوذا، ولا عصا القيادة من بين قدميه؛ إلا أن يأتي صاحبها وتطيعه الشعوب).
والنص حسب (ترجوم يوناثان) أوضح، وفيه: (لا يتوقف الملوك والحكام من عائلة يهوذا، ولا يتوقف معلمو الشريعة من نسله حتى يجيء الملك المسيا أصغر أبنائه)
وتختلف التراجم في ثلاث من كلمات النص، فقد أبدل البعض كلمة (قضيب) بالملك أو الصولجان، وكلها بمعنى واحد، وكذا أبدلت كلمة (مشترع) بالراسم والمدبر أو عصا القيادة، وهي متقاربة بمعنى صاحب الشريعة مدبر قومه.
وأما الاختلاف الأهم فكان في كلمة (شيلون) التي أبقتها معظم الترجمات على حالها،
وفي تراجم عبرانية أخرى قيل: ( إلى أن يأتي المسيح )،
وقد فسر القس إبراهيم لوقا (شيلون) بالمسيح، واعتبرها ترجمة صحيحة لكلمة ( شيلوه ) العبرية، ففيه (שִׁילֹה)،
وذكرت الطبعة الأمريكية للكتاب المقدس في هامشها أن كلمة ( شيلون ) تعني: الأمان، أو: الذي له.
فما هو المعنى الدقيق للكلمة (شيلون) التي تدور حولها النبوءة ؟
في الإجابة عن هذا السؤال يرى القس السابق والخبير في اللغات القديمة عبد الأحد داود أن كلمة ( شيلون ) لا تخرج في أصلها العبري عن معان، أهمها:-
1- أن تكون من الكلمة السريانية مكونة من كلمتي (بشيتا) و (لوه)، ومعنى الأولى منهما: (هو) أو (الذي)، والثانية: (لوه) معناها: ( له )،
ويصبح معنى النبوءة حسب ترجمته المفسرة: (إن الطابع الملكي المتنبئ لن ينقطع من يهوذا إلى أن يجيء الشخص الذي يخصه هذا الطابع، ويكون له خضوع الشعوب).
2- أن تكون الكلمة محرفة من كلمة ( شيلواح ) ومعناها: ( رسول الله ) كما يعبر بالكلمة مجازاً عن الزوجة المطلقة؛ لأنها ترسل بعيداً، وتفسير الكلمة بالرسالة مال إليه القديس جيروم، فترجم العبارة ( ذلك الذي أرسل ).
وأيًّا كان المعنى فإن النبوءة تتحدث عن شخص تدعوه: شيلون. وليس عن المكان المسمى (شيلون) كما ادَّعى بعض المفسرين، فمن هو شيلون ؟
وليس المقصود بزوال الملك زواله حقيقة، بل زوال أحقيته وموجبه من قبل الله؛ لأن زوال الملك من اليهود لم يوافق ظهور نبي، أيًّا كان هذا النبي، فالمقصود زوال الاصطفاء والبركة.
ولا يمكن القول بأن شيلون هو موسى؛ لأن ملوك يهوذا كانوا بعده بقرون، ولا يمكن القول بأنه سليمان؛ لأن الملك دام بعده في ذريته، ولم ترفع به الشريعة، كما لم ترفع بالمسيح الذي ما جاء لنقض الناموس، ولم تخضع له شعوب، بل ولا شعب اليهودية الذين بعث إليهم فقال: ( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ) (متى 15 / 24).
والمسيح عليه الصلاة والسلام لم يملك على بني إسرائيل يوماً واحداً، بل هرب منهم لما أرادوا تمليكه عليهم ( لما علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده ) (يوحنا 6/15).
ولما ادعى عليه اليهود عند بيلاطس أنه يقول عن نفسه بأنه ملك نفى ذلك، وتحدث عن مملكة روحية مجازية غير حقيقية
فقال: ( مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود ) (يوحنا 18/36).
ولا يمكن أن يكون هذا النبي من بني إسرائيل؛ لأن مبعثه يقطع صولجان وشريعة إسرائيل، كما يفهم من النص، فمن ذا يكون شيلون ؟
إنه النبي الذي بشرت به هاجر وإبراهيم ( يده على كل واحد ) (التكوين 16/12)، والذي قال عنه النبي حزقيال: ( يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه ) (حزقيال 21/27).
وقد قال المسيح مبشراً بالذي ينسخ الشرائع بشريعته: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) (متى 5/17- 18). هذا (الذي له الكل)، هو ( الذي له الحكم ).
وهو النبي الذي يسميه بولس بالكامل، ومجيئه فقط يبطل الشريعة وينسخها (وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل؛ لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض) (كورنثوس (1) 12/8-10).
بشارة موسى عليه السلام:
موسى عليه السلام يبشر بظهور نبي ورسول مثله:
وينـزل موسى عليه السلام عن جبل الطور بعد ما كلمه ربه، فيقول مخاطباً بني إسرائيل:
(قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى، فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي.
وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب ؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه ) (التثنية 18 / 17 - 22).
والنص كما هو واضح يتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى عليه السلام، ويذكر صفات هذا النبي، والتي نستطيع من خلالها معرفة من يكون.
ويزعم النصارى أن هذا النبي قد جاء، وهو عيسى عليه السلام، فقد قال بطرس في سياق حديثه عن المسيح ( فإن موسى قال للآباء: إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به، ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب، وجميع الأنبياء أيضاً من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبؤوا بهذه الأيام ) (أعمال 3/22- 26)، فبطرس يرى نبوءة موسى متحققة في شخص المسيح.
لكن النص دال على نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لا دليل عند النصارى على تخصيصه بالمسيح، بينما يظهر في النص عند تحليله أدلة كُثر تشهد بأن المقصود به هو نبينا صلى الله عليه وسلم؛ إذ يذكر النص التوراتي أوصاف هذا المبعوث المبشر به:
1- أنه نبي ( أقيم لهم نبيًّا )، والنصارى يدَّعون للمسيح الإلهية، بل يدَّعي الأرثوذكس أنه الله نفسه، فكيف يقول لهم: أقيم نبيًّا، ولا يقول: أقيم نفسي، أو أقيم إلهاً.
2- أنه من غير بني إسرائيل، بل هو من بين إخوتهم أي: أبناء عمومتهم (من وسط إخوتهم)، وعمومة بني إسرائيل هم بنو عيسو بن إسحاق، وبنو إسماعيل بن إبراهيم.
ومن المعهود في التوراة إطلاق لفظ ( ألأخ ) على ابن العم،
ومن ذلك قول موسى لبني إسرائيل: ( أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو ) (التثنية 2/4)، وبنو عيسو بن إسحاق - كما سلف- هم أبناء عمومة لبني إسرائيل،
وجاء نحوه في وصف أدوم، وهو من ذرية عيسو (وأرسل موسى رسلاً من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل: قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا) (العدد20/14)،
وفي موضع آخر (لا تكره أدوميا لأنه أخوك) (التثنية 23/7). فسماه أخاً، وأراد أنه من أبناء عمومة إسرائيل.
ومثله سمى (سفر الأيام) الملك صدقيا أخاً للملك يهوياكين، فقال: (أرسل الملك نبوخذ ناصر فأتى به )أي: الملك يهوياكين( إلى بابل مع آنية بيت الرب الثمينة، وملك صدقيا أخاه على يهوذا وأورشليم) (الأيام (2) 36/10)،
وهو في الحقيقة عمه، كما نص عليه سفر الملوك، فقال: (ملّك ملك بابل متّنيا عمه عوضاً عنه، وغيّر اسمه إلى صدقيا) (الملوك (2) 24/ 17-18)،
فاستخدم لفظ الأخ، ومراده العم، مما يؤكد صحة هذا الاستخدام في قوله: (إخوتهم)، ومراده أبناء عمومتهم.
وعليه فهذا النبي يحتمل أن يكون من العرب تحقيقاً للبركة الموعودة في نسل إسماعيل، وقد يكون من بني عيسو بكر إسحاق. لكن أحداً من بني عيسو لم يدع أنه النبي المنتظر.
3- هذا النبي من خصائصه أنه مثل موسى الذي لم يقم في بني إسرائيل نبيٌّ مثله (ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه) (التثنية: 34/10)،
وقد جاء في النسخة السامرية من التوراة ما تعريبه: (ولا يقوم أيضاً نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله) (التثنية 34/10).
وهذه الخصلة، أي: المثلية لموسى متحققة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ممتنعة في أخيهما المسيح عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، حيث نرى الكثير من أمثلة التشابه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، والتي لا نجدها في المسيح، من ذلك ميلادهما الطبيعي، وزواجهما، وكونهما صاحبا شريعة، وكل منهما بعث بالسيف على عدوه، وكلاهما قاد أمته، وملك عليها، وكلاهما بشر، بينما تزعم النصارى بأن المسيح إله، وهذا ينقض كل مثل لو كان.
وقد وصف المسيحُ النبي القادم بمثلية موسى، صارفاً إياه عن نفسه فقال: ( لا تظنوا أني أشكوكم إلى الأب، يوجد الذي يشكوكم، وهو موسى الذي عليه رجاؤكم؛ لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني؛ لأنه هو كتب عني، فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي) (يوحنا 5/45-47)، فسماه موسى المرجو أو المنتظر؛ لمشابهته له.
وعن هذا الذي يشكو بني إسرائيل يقول المسيح: ( أجاب يسوع: أنا ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي وأنتم تهينونني، أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين) (يوحنا 8/49-50).
4- من صفات هذا النبي أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، والوحي الذي يأتيه وحي شفاهي، يغاير ما جاء الأنبياء قبله من صحف مكتوبة ( وأجعل كلامي في فمه )، وقد كان المسيح عليه السلام قارئاً (انظر لوقا 4/16-18).
5- أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، فهو ( يكلمهم بكل ما أوصيه به ).
وهو وصف منطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أواخر ما نزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]
وقد وصفه المسيح في نبوءة البارقليط، التي يأتي شرحها، فقال: ( وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم) (يوحنا 14/26).
ولا يمكن أن يكون المسيح عليه السلام هو ذلك النبي الذي يبلغ كل ما يوصيه به ربه، فقد رفع المسيح عليه السلام، ولديه الكثير مما يود أن يبلغه إلى تلاميذه، لكنه لم يتمكن من بلاغه، لكنه بشَّرهم بالقادم الذي سيخبرهم بكل الحق؛ لأنه النبي الذي تكمل رسالته،
ولا يحول دون بلاغها قتله أو إيذاء قومه، يقول عليه السلام: ( إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به) (يوحنا 16/12-13).
6- أن الذي لا يسمع لكلام هذا النبي فإن الله يعاقبه، (ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه )،
وقد فسرها بطرس، فقال: ( ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب )، فهو نبي واجب السمع والطاعة على كل أحد. ومن لم يسمع له تعرض لعقوبة الله، وهو ما حاق بجميع أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنتقم الله من كل من كذَّبه من مشركي العرب والعجم،
وقد قال المسيح عنه في نبوءة الكرامين - ويأتي شرحها-: (ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه ) (متى 21/44)، فهو الحجر الصلب الذي يفني أعداءه العصاة،
والذي بشر بمقدمه النبي دانيال (وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً، ومَلِكها لا يُترك لشعب آخر، وتسحق وتفني كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد، لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب) (دانيال 2/21 - 45).
وأما المسيح عليه السلام فلم يكن له هذه القوة وتلك المنعة، ولم يتوعد حتى قاتليه، فكيف بأولئك الذين لم يسمعوا كلامه،
فقد قال لوقا في سياق قصة الصلب: ( فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون) (لوقا 23/34)،
فأين هو من خبر ذاك ( الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه).
7- من صفات هذا النبي أنه لا يقتل، بل يعصم الله دمه عن أن يتسلط عليه السفهاء بالقتل، فالنبي الكذاب عاقبته (يموت ذلك النبي)، أي: يقتل، فالقتل نوع منه، ولأن كل أحد يموت، وهنا يزعم النصارى بأن المسيح قتل، فلا يمكن أن يكون هو النبي الموعود.
وبالرجوع إلى التراجم القديمة للنص نرى أن ثمة تحريفاً وقع في الترجمة، فقد جاء في طبعة (1844) م ( فليقتل ذلك النبي )، ولا يخفى سبب هذا التحريف.
8- يتحدث عن الغيوب ويصدق الواقع كلامه، وهذا النوع من المعجزات يكثر في القرآن والسنة- مما يطول المقام بذكره - ويكفي هنا أن أورد نبوءة واحدة مما تنبأ به صلى الله عليه وسلم، فكان كما أخبر.
ففي عام (617) م كادت دولة الفرس أن تزيل الإمبرطورية الرومانية من خارطة الدنيا، فقد وصلت جيوش كسرى أبرويز الثاني إلى وادي النيل، ودانت له أجزاء عظيمة من مملكة الرومان، ففي سنوات معدودة تمكن جيش الفرس من السيطرة على بلاد الشام وبعض مصر، واحتلت جيوشهم أنطاكيا شمالاً، مما يؤذن بنهاية وشيكة للإمبرطورية الرومانية، وأراد هرقل أن يهرب من القسطنطينية، لولا أن كبير أساقفة الروم أقنعه بالصمود وطلب الصلح الذليل من الفرس.
ووسط هذه الأحداث، وخلافاً لكل التوقعات أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي: فيما لا يزيد عن تسع سنين،
فقد نزل عليه قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: 2-5]
وكان كما تنبأ ، ففي عام ( 623، 624، 625) م, استطاع هرقل أن يتخلص من لهوه ومجونه، وشنَّ ثلاث حملات ناجحة أخرجت الفرس من بلاد الشام، وفي عام (627) م, واصل الرومان زحفهم حتى وصلوا إلى ضفاف دجلة داخل حدود الدولة الفارسية، واضطر الفرس لطلب الصلح مع الرومان، وأعادوا لهم الصليب المقدس الذي كان قد وقع بأيديهم، فمن ذا الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه النبوءة العظيمة ؟
إنه النبي الذي تنبأ عنه موسى عليه السلام.يقول المؤرخ إدوار جِبن: (في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعاً؛ لأن السنين الاثنتي عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الإمبرطورية الرومانية).
روى الترمذي عن ابن عباس في قول الله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2-3]
قال: ((كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، لأنهم وإياهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل الكتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما أنهم سيغلبون.
فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته إلى دون العشر.
قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر.قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ[الروم:2-3] ))
وهكذا ظهر لكل ناظر منصف أن النبي الذي تنبَّأ عنه موسى لم تتحقق أوصافه في المسيح العظيم عليه الصلاة والسلام، وتحققت في أخيه محمد صلى الله عليهما وسلم تسليماً كثيراً.
ومما يؤكد ذلك أن هذه الصفات مجتمعة لم تتوافر في غيره من الأنبياء، فإن اليهود لا يقولون بمجيء هذا المسيح فيما سبق، بل ما زالوا ينتظرونه.
إذ لما بعث يحيى عليه السلام ظنَّه اليهود النبي الموعود، وأقبلوا عليه يسألونه ( النبي أنت ؟ فأجابهم: لا ) (يوحنا 1/21)، أي: لست النبي الذي تنتظره اليهود.
ثم أراد تلاميذ المسيح أن تتحقق النبوءة في المسيح، فذات مرة لما رأوا معجزاته ( قالوا: إن هذا بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم).
وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده ( (يوحنا 6/14 - 15)،
فقد أراد تلاميذ المسيح تنصيبه ملكاً ليحققوا النبوءة الموجودة لديهم عن النبي المنتظر الذي يملك ويحقق النصر لشعبه، فلما علم المسيح عليه السلام أنه ليس النبي الموعود هرب من بين أيديهم.
ويرى النصارى أن ثمة إشكالاً في النص التوراتي (التثنية 18/17-22) يمنع قول المسلمين، فقد جاء في مقدمة سياق النص أن الله لما كلم موسى قال: ( يقيم لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك مثلي... قد أحسنوا في ما تكلموا: أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك ) (التثنية 18/15 - 18)،
فقد وصفت النبي بأنه (من وسطك) أي: من بني إسرائيل، ولذا ينبغي حمل المقطع الثاني من النص على ما جاء في المقطع الأول، فالنبي ( من وسطك ) أو كما جاء في بعض التراجم (من بينك) أي: أنه إسرائيلي.
لكن التحقيق يرد هذه الزيادة التي يراها المحققون تحريفاً، بدليل أن موسى لم يذكرها، وهو يعيد خبر النبي على مسامع بني إسرائيل، فقال: ( قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك ) (التثنية 18/17-18)، ولو كانت من كلام الله لما صح أن يهملها.
كما أن هذه الزيادة لم ترد في اقتباس بطرس واستفانوس للنص، كما جاء في أعمال الرسل قال بطرس: (فإن موسى قال للآباء: إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به) (أعمال 3/22).
وقال استفانوس: (هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل: نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون) (أعمال 7/37)، فلم يذكرا تلك الزيادة، ولو كانت أصلية لذكرت في سائر المواضع.
نبوءة موسى عن البركة الموعودة في أرض فاران:
وقبيل وفاة موسى عليه السلام ساق لبني إسرائيل خبراً مباركاً ، فقد جاء في سفر التثنية: (هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة، فأحب الشعب، جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك) (التثنية 33/1-3).
وأكد هذه النبوءة النبي حبقوق، حيث ذكر خبراً أفزعه؛ لأنه يشير إلى انتقال النبوة بعيداً عن قومه بني إسرائيل،
يقول: (يا رب قد سمعت خبرك، فجزعت، يا رب عملك في وسط السنين أحْيِه، في وسط السنين عرّف، في الغضب اذكر الرحمة، الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم.... ) (حبقوق 3/3 - 6).
وقبل أن نمضي في تحليل النص نتوقف مع الاختلاف الكبير الذي تعرض له هذا النص في الترجمات المختلفة.
فقد جاء في الترجمة السبعينية: (واستعلن من جبل فاران، ومعه ربوة من أطهار الملائكة عن يمينه، فوهب لهم وأحبهم، ورحم شعبهم، وباركهم وبارك على أظهاره، وهم يدركون آثار رجليك، ويقبلون من كلماتك. أسلم لنا موسى مثله، وأعطاهم ميراثاً لجماعة يعقوب ).
وفي ترجمة الآباء اليسوعيين: (وتجلى من جبل فاران، وأتى من رُبى القدس، وعن يمينه قبس شريعة لهم).
وفي ترجمة (1622) م, العربية: ( شرف من جبل فاران، وجاء مع ربوات القدس، من يمينه الشريعة )، ومعنى ربوات القدس أي: ألوف القديسين الأطهار، كما في ترجمة (1841) م, ( واستعلن من جبل فاران، ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار ).
واستخدام ربوات بمعنى ألوف أو الجماعات الكثيرة معهود في الكتاب المقدس (ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه) (دانيال 7/10)، ومثله قوله: (كان يقول: ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل) (العدد 10/36)، فالربوات القادمين من فاران هم الجماعات الكثيرة من القديسين، الآتين مع قدوسهم الذي تلألأ في فاران.
والنص التوراتي يتحدث عن ثلاثة أماكن تخرج منها البركة، أولها: جبل سيناء حيث كلم الله موسى. وثانيها: ساعير، وهو جبل يقع في أرض يهوذا. (انظر يشوع 15/10)، وثالثها: هو جبل فاران.
وتنبئ المواضع التي ورد فيها ذكر ( فاران ) في الكتاب المقدس أنها تقع في صحراء فلسطين في جنوبها.
لكن تذكر التوراة أيضاً أن إسماعيل قد نشأ في برية فاران. (انظر التكوين 21/21)، ومن المعلوم تاريخيًّا أنه نشأ في مكة المكرمة في الحجاز.
ويرى المسلمون أن النص نبوءة عن ظهور عيسى عليه السلام في سعير في فلسطين، ثم محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، حيث يأتي ومعه الآلاف من الأطهار مؤيدين بالشريعة من الله عزَّ وجلَّ.
وذلك متحقق في رسول الله لأمور:
1- أن جبل فاران هو جبل مكة، حيث سكن إسماعيل، تقول التوراة عن إسماعيل: ( كان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ) (التكوين 21/20-21).
وقد انتشر أبناؤه في هذه المنطقة، فتقول التوراة: ( هؤلاء هم بنو إسماعيل... وسكنوا من حويلة إلى شور ) (التكوين 25/16 - 18)، وحويلة كما جاء في (قاموس الكتاب المقدس) منطقة في شمال أرض اليمن، بينما شور في جنوب فلسطين.
وعليه فإن إسماعيل وأبناءه سكنوا هذه البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله، وهو يشمل أرض فاران التي سكنها إسماعيل.كما وقد قامت الأدلة التاريخية على أن فاران هي الحجاز، حيث بنى إسماعيل وأبوه الكعبة، وحيث تفجر زمزم تحت قدميه، وهو ما اعترف به عدد من المؤرخين كما نقل عنهم المؤرخ الهندي مولانا عبد الحق فدرياتي في كتابه ( محمد في الأسفار الدينية العالمية) ومن هؤلاء المؤرخين المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس فقالا بأن فاران هي مكة وجاء في قاموس Strong's Hebrew Bible Dictionary أن فاران في صحراء العرب، حيث يقول: ( Paran, a desert of Arabia).
2- أن وجود منطقة اسمها فاران في جنوب سيناء لا يمنع من وجود فاران أخرى، هي تلك التي سكنها إسماعيل، فقد ورد مثلاً إطلاق اسم سعير على المنطقة التي تقع في أرض أدوم والتي هي حالياً في الأردن، وتكرر ذلك الإطلاق في مواضع عديدة في الكتاب، ولم تمنع كثرتها أن يطلق ذات الاسم على جبل في وسط فلسطين غربي القدس في أرض سبط يهوذا. (انظر يشوع 15/10).
ولنا أن نسأل أولئك الذين يصرون على أن فاران هي فاران سيناء: من هو القدوس الذي تلألأ من ذلكم الجبل الذي لا يرتبط بأدنى علاقة بأي من أحداث الإنسانية المهمة، فمن الذي تلألأ عليه ؟
3- لا يقبل قول القائل بأن النص يحكي عن أمر ماضٍ؛ إذ التعبير عن الأمور المستقبلة بصيغة الماضي معهود في لغة الكتاب المقدس. يقول اسبينوزا: ( أقدم الكتاب استعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر، وعلى الماضي بلا تمييز، كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل... فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات).
4- ونقول: لم خص جبل فاران بالذكر دون سائر الجبال، لو كان الأمر مجرد إشارة إلى انتشار مجد الله كما زعم بعض كتاب اليهود، فإن مجد الله لم يتوقف عند حدود فاران أو جبل سعير.
5- ومما يؤكد أن الأمر متعلق بنبوءة الحديث عن آلاف القديسين، والذين تسميهم بعض التراجم ( أطهار الملائكة ) أي: أطهار الأتباع، إذ يطلق هذا اللفظ ويراد به: الأتباع، كما جاء في سفر الرؤيا أن ( ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنينُ وملائكتُه...) (الرؤيا 12/7).
فمتى شهدت فاران مثل هذه الألوف من الأطهار إلا عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟
6- وما جاء في سفر حبقوق يؤيد قول المسلمين حيث يقول: ( الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم...) (حبقوق 3/3 - 6).
فالنص شاهد على أنه ثمة نبوة قاهرة تلمع كالنور، ويملأ الآفاق دوي أذان هذا النبي بالتسبيح.
وتيمان كما يذكر محررو الكتاب المقدس هي كلمة عبرية معناها: ( الجنوب )،
لذا يقول النص الكاثوليكي للتوراة: (الله يأتي من الجنوب، والقدوس من جبل فاران)،
ولما كان المخاطبون في فلسطين فإن الوحي المبشر به يأتي من جهة الجنوب أي من جزيرة العرب، فالقدوس سيبعث في جبل فاران.
ومن هذا كله فالقدوس المتلألئ في جبال فاران هو نبي الإسلام، فكل الصفات المذكورة لنبي فاران متحققة فيه، ولا تتحقق في سواه من الأنبياء الكرام.
المزامير تبشر بصفات نبي آخر الزمان:
وها هي المزامير تبشر بالنبي الخاتم، ويصفه أحد مزاميرها، فيقول مخاطباً إياه باسم الملك: (فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر: أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد.
تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نُبُلُك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم.
من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك... بنات ملوك بين حظياتك، جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير.
اسمعي يا بنت وانظري، وأميلي أذنك، انسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له... عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض، أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد ) (المزمور 45/1 - 17).
ويسلم النصارى بأن النص نبوءة بالنبي الآتي، ويزعمون أنه عيسى عليه السلام، فيما يرى المسلمون أن الصفات التي رمزت في النص إنما تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وتمنع أن يكون المعني به عيسى أو غيره من الأنبياء الكرام، ففي النص تسع أوصاف لهذا النبي، وهي:
1- كونه صاحب حسن لا يعدل في البشر ( بهي في الحسن أفضل من بني البشر )، ولا يجوز للنصارى القول بأنه المسيح، وهم الذين يقولون: تحققت في المسيح نبوة إشعيا،
وفيها أن المتنبئ به (لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه ) (إشعيا 52/2)،
وهذا المعنى الذي لا نوافقهم عليه أكده علماؤهم، فقال كليمندوس الإسكندراني: ( إن جماله كان في روحه وفي أعماله، وأما منظره فكان حقيراً )
وقال ترتليان: ( أما شكله فكان عديم الحسن الجسماني، وبالحري كان بعيداً عن أي مجد جسدي ) ومثله قال مارتير وأوريجانوس وغيرهما.
فمن كان هذا قوله بالمسيح لا يحق له أن يقول بأنه أيضاً: ( أبرع جمالاً من بني البشر ).
وقد جاءت الآثار تتحدث عن حسن نبينا وفيض جماله بعد أن كساه الله بلباس النبوة، فلم ير أجمل منه.
ففي الأثر الصحيح يقول البراء بن مالك: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنه خَلْقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)
2- أن النبوة وكلامها يخرج من شفتيه (انسكبت النعمة على شفتيك)، فقد كان أميًّا، ووحيه غير مكتوب، فيما كانت لإبراهيم وموسى صحفاً، كما كان عيسى قارئاً. (انظر لوقا 4/16).
وقد جاءت نصوص كتابية عدة تؤكد أمية النبي القادم منها ما سبق في سفر التثنية ( أجعل كلامي في فمه ) (التثنية 18/18)،
وما جاء في إشعيا ( أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، فيقال له: اقرأ، فيقول: لا أعرف الكتابة ) (إشعيا 29/12).وفي غير الترجمة العربية المتداولة ( لا أعرف القراءة ) وهي تماثل - كما سبق - قول النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء: ((ما أنا بقارئ))
3- كونه مبارك إلى الأبد، صاحب رسالة خالدة ( باركك الله إلى الأبد... كرسيك يا الله إلى دهر الدهور).
4- كونه صاحب سيف يقهر به أعداءه لإقامة الحق والعدل ( تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار... بجلالك اقتحم. من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف. نُبُلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون ).
والمسيح عليه السلام لم يحمل سيفاً ولا أسقط أعداءه، ولا صوَّب نبله في قلوب أعدائه لنشر دعوة الحق، كما لم يكن ملكاً في قومه.
5- وهذا النبي محب للخير، مبغض للإثم كحال جميع الأنبياء، لكن الله فضله عليهم.
( مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك ).
6- يؤتى لهذا النبي بالهدايا لعزه، وبنات الملوك يكن في خدمته أو في نسائه ( بنات ملوك بين حظياتك.. بنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية... ).
وقد تزوج النبي بصفية بنت حيي بن أخطب سيد قومه، كما أهديت إليه مارية القبطية، وكانت شهربانو بنت يزدجر ملك فارس تحت ابنه الحسين رضي الله عنه.
7- تدين له الأمم بالخضوع، وتدخل الأمم في دينه بفرح وابتهاج ( بملابس مطرزة وتحضر إلى الملك، في إثرها عذارى صاحباتها، مقدمات إليك، يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك).
8- يستبدل قومه بالعز بعد الذل ( عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض).
9- يكتب له الذكر الحميد سائر الدهر ( أذكر اسمك دور فدور، من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد ) فهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم.