بين الخوف والرجاء
ان قدرا كبيرا من الخوف اذا دخل القلوب فإن من شأنه
ان يجعله البعض منا يترك الدنيا ويعتزل الناس،
وقد يدفع البعض الآخر الى اليأس والقنوط من رحمة الله وهذا من الكبائر...
وقد يقول قائل آخر:
وأين موقع الرجاء هنا والآيات كثيرة تتحدث عن سعة رحمة الله وعفوه ومغفرته ؟
يجيب عن هذا التساؤل الامام ابو حامد الغزالي فيقول:
اعلم ان الاخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت،
وربما ينظر الناظر اليها فيعتريه شك في ان الافضل ايهما ؟
وقول قائل الخوف افضل ام الرجاء ؟
سؤال فاسد يضاهي قول القائل: الخبز افضل ام الماء ؟
وجوابه ان يقال:
الخبز افضل للجائع، والماء افضل للعطشان، فإن اجتمعا نُظر الى الاغلب،
فإن كان الجوع اغلب فالخبز افضل، وإن كان العطش اغلب فالماء افضل،
وان استويا فهما مستويان
وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالاضافة الى مقصوده لا الى نفسه،
والخوف والرجاء دواءان يُداوى بهما القلب،
فضلهما بحسب الداء الموجود
فإن كان الغالب على القلب داء الامن من مكر الله والاغترار به فالخوف افضل،
وان كان الاغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء افضل،
وكذلك ان كان الغالب على العبد المعصية فالخوف افضل.
وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي ان يستعمل فيه لفظ الاصلح لا لفظ الافضل،
فنقول: اكثر الخلق الخوف لهم اصلح من الرجاء، وذلك لاجل غلبة المعاصي،
فأما التقي الذي ترك ظاهر الاثم وباطنه، وخفيه وجليه،
فالاصلح ان يعتدل خوفه ورجاؤه، ولذلك قيل لو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا.
وروي ان عليا –كرم الله وجهه- قال لبعض ولده:
يا بني خف الله خوفا ترى انك لو اتيته بحسنات اهل الارض لم يتقبلها منك،
وارج الله ورجاء ترى انك لو اتيته بسيئات اهل الارض غفرها لك.
ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-:
لو نودي ليدخل النار كل الناس الا رجلا واحدا لرجوت ان اكون انا ذلك الرجل،
ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس الا رجلا واحدا لخفت ان اكون انا ذلك الرجل.
وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع الغلبة والاستيلاء
ولكن على سبيل التقاوم والتساوي،
فمثل عمر –رضي الله عنه- ينبغي ان يستوي خوفه ورجاؤه،
فأما العاصي اذا ظن انه الرجل الذي استثني من الذين امروا بدخول النار
كان ذلك دليلا على اغتراره [1].
ويقول ابن القيّم:
القلب في سيره الى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه،
والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيرا،
ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر،
ولكن السلف استحبوا ان يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء،
وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف [2].
---------
نقلا عن كتاب الايمان اولا- فكيف نبدأ به، د. مجدي الهلالي، 113.
نقلا عن:
1. احياء علوم الدين 4/254، 255.
2. تهذيب مدارج السالكين، 272.