بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
الشرك في الربوبية
كل اعتقاد، أو قول، أو فعل؛ فيه إنكار لخصائص ربوبية الله تعالى، أو بعضها؛ كفر وردة.
أو ادعاء شيء من هذه الخصائص؛ كادعاء الربوبية، كما قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24.].
أو ادعاء الملك، أو الرزق، أو التصرف من دون الله تعالى، وغيرها من الأمور التي هي من أفعال الله تعالى وخصائصه، وكذلك يكفر من يصدق بهذه الدعوى، ومن الأمثلة على ذلك:
الاعتقاد بأن لله تعالى شريكاً في الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير.
الاعتقاد بأن الأولياء لهم تصرف في الكون مع الله تعالى.
اعتقاد تأثير وتصرف غير الله تعالى؛ من الأبراج والكواكب ومساراتها ومواقعها على حياة الناس.
الاعتقاد بأن المخلوق يمكنه أن يرزق المخلوق، أو يمنع عنه الرزق، أو يمكنه أن يضر، أو ينفع من دون الله تعالى.
الاعتقاد بأن أحداً دون الله تعالى يعلم الغيب.
اعتقاد حلول الله تعالى في خلقه، أو أن الله في كل مكان.
الاعتقاد بأن الشفاء من الطبيب أو الدواء، أو اعتقاد التوفيق في حياة العبد من ذكائه، أو جهده واجتهاده.
الاعتقاد بأن للمخلوق حقًّا في سن القوانين وتشريعها، وهي تلك النظم التي تحكم في أموال الناس وأعراضهم.
وغيرها من الاعتقادات التي تناقض الإيمان وتبطله. (38)
ومنه أيضاً أن يوصف أحد من الخلق بأي صفة من صفات الله عز وجل الذاتية أو الفعلية المختصة به كالخلق أو الرزق أو علم الغيب أو التصرف في الكون، حتى مع إثبات هذه الصفات لله عز وجل. وهذا الشرك يكثر لدى بعض الفرق المنحرفة كغلاة الصوفية والرافضة والباطنية عموماً، حيث يعتقد الرافضة- مثلاً- في أئمتهم أنهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرات الكون ونحو ذلك، وكذلك يعتقد الباطنية والصوفية في أوليائهم نحو ذلك، فعامة شرك الربوبية عند هؤلاء يقع في العلم والتصرف، أما في الخلق، والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذا المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق، لكنهم يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله لزعمهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، لذلك اقتصر مفهومهم للشرك باعتقاد أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق استقلالاً. وبعد تقرير هذا الأصل ولكثرة أنواع الشرك في الربوبية، فقد رأيت أن أختار مثالين منهما وهما الشرك في العلم والشرك في التصرف ومن خلال نقل بعض أقوال الفرق يتضح انحرافها في هذا الأصل، ثم نرد عليهم و نبين المنهج الحق في ذلك:
أولاً: الشرك في العلم
أ- نُقول عن الفرق فيها نقض لتوحيد الربوبية
الأقوال كثيرة ومشتهرة وسأقتصر على الأقوال الصريحة منها:
فالباطنية زعموا أن أئمتهم وأولياءهم يعلمون ما كان وما يكون، ومن النقولات في ذلك ما ذكره صاحب (تأويل الدعائم) من أنه (جاء عن أولياء الله من الأخبار عما كان ويكون من أمر العباد) (1) وجاء في كتاب (المجالس المؤيدية) (أن الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد) (2) ، وروى النعمان القاضي عن المعز لدين الله أنه قال: (... أفمن أودعه الله علم ما يكون يجهل فضله...فكيف بمن علمه الله علم ما يكون مما لم يكن بعد) (3) ، وقال المعز: (إن عندنا علم ما يطلب، كقول جده علي: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة لا تسألوني عن علم ما كان وما يكون، ومن علم ما لا تعلمون إلا أخبرتكم به...) (4) ، فهذه النصوص- كما نلاحظ- فيها دعوى أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون من أمر العباد وأمر الجن أو المعاد.
ومثل ذلك ما نقل عن الرافضة حيث ينسب الكليني إلى جعفر الصادق قوله: (ورب الكعبة ورب البنية لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله وراثة) (5) . وينسبون إلى الحسن بن علي رضي الله عنه قوله: (إنا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته) (6) .
ولا حاجة للإشارة إلى كذبهم على الحسن- رضي الله عنه- أو جعفر الصادق- رحمه الله- وإنما المقصود أن الرافضة يعتقدون فيهم هذا، ولهذا نقلوا هذه الأقوال عنهم ونسبوها إليهم.
وهذه الفكرة موجودة لدى المتصوفة فبينهم وبين الرافضة أوجه شبه كثيرة من أهمها تقديس الأئمة والأولياء.
فهذا عبد الكريم الجيلي صاحب كتاب (الإنسان الكامل) يزعم أنه كشف عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد وأنه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة...إلخ (7) .
وهذا الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) ينقل عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما في اللوح المحفوظ ساعة بساعة (8) ، ومما قاله المتصوفة: (...وينبغي على المريد أن يعتقد في شيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة) (9) .
ويدخل في ذلك الكهانة والعرافة ونحوها، وكذلك إتيان الكهنة والعرافين وتصديقهم بما يقولون.
ب- اعتقاد أهل السنة في ذلك وحكم من ادعى علم الغيب
اعتقاد أهل السنة في ذلك:
يؤمن أهل السنة بأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، وأنه يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء وبذلك جاءت الآيات والأحاديث، قال سبحانه: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123]، وقال تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ [يونس: 20]، وقال عز وجل: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف: 26]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 50] يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (قل لهؤلاء المنكرين نبوتك: لست أقول لكم إني الرب الذي له خزائن السموات والأرض، فأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء، فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون رباً إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك لا إله غيره) (10) .
ومن الآيات في هذا المعنى قوله عز وجل: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65].
يقول الإمام القرطبي في تفسيرها: (فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه وتعالى شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى إلى قوله تعالى: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]، وقوله: لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف: 187], فكان هذا كله مما استأثر الله بعلمه لا يشركه فيه غيره) (11) .
ومن أصرح الآيات دلالة ما جاء في سورة الأنعام، قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 59]، وتفسيرها في سورة لقمان، قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره آية لقمان: (هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك، وهذه (أي الآية) شبيهة بقوله تعالى:وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59], وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب) (12) .
ثم ساق الحافظ عدة أحاديث في هذا المعنى، ومنها ما رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)) (13) . وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (...ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيب إلا الله) (14) .
فالآيات والأحاديث المذكورة وغيرها مما لم نذكره قطعية الدلالة على اختصاصه عز وجل بعلم الغيب دون سواه من الأنبياء والرسل أو الملائكة أو الأولياء.
2- تفسير قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:29]
مرَّ معنا نصوص صريحة بأن الرسل وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلمون الغيب مثل قوله تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 5] وسنزيد هذه المسألة إيضاحاً قبل أن نتكلم عن الاستثناء المذكور في الآية، قال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]. (أي لو كنت أعلم جنس الغيب، لتعرضت لما فيه الخير، فجلبته إلى نفسي، وتوقيت ما فيه السوء، حتى لا يمسني، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي، ولا ما قضاه في، وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه؟) (15) .
وقال- عز وجل-: وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود:31]
وقال سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:109].
ففي هذه الآية دليل على نفي علم الأنبياء بالغيب، وإذا لم يعلم الرسل والأنبياء ذلك فمن ادعاه لنفسه أو لغيره فهو مضاد ومكذب بما جاء في القرآن.
وقال سبحانه في حكاية المحاورة بين موسى عليه السلام وفرعون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] فأضاف موسى عليه السلام هذا العلم إلى الله سبحانه، ونفاه عن نفسه فدل على أن الأنبياء لا يعلمون منه شيئاً إلا ما يخبرهم به سبحانه (16) .
وقال سبحانه: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأحقاف: 9]
لقد قص علينا- سبحانه وتعالى- من أحوال الأنبياء والرسل وأخبارهم ما يؤكد هذا المعنى ويرسخه، فها هو إبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة، وجاءته الملائكة في صورة بشر فلم يعرفهم فذبح لهم عجلاً وقربه إليهم، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى قوم لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن أعلموه أنهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله (17) .
وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم أصابه همٌّ عظيم وقلق وانشغل باله فيما قذف المنافقون عائشة رضي الله عنها، ومكث أياماً يستشير أصحابه في الأمر، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله عز وجل براءتها وكذب المنافقين (18) ، فكل هذه الآيات والأخبار تدل دلالة قطعية على أن الأنبياء لا يعلمون الغيب فإذا كان الأنبياء الأصفياء المقربون لا يعلمون ذلك، فغيرهم من باب أولى.
أما الاستثناء الوارد في قوله تعالى: إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:29], فمعناه: (أي من اصطفاه من الرسل، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه، ليكون ذلك دالًّا على نبوته) (19) .
وقال الإمام ابن العربي المالكي: (وعند الله تعالى علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، فلا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله بدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] وقال الطيبي: (..فلا يظهر إظهاراً تامًّا وكشافاً جليًّا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً [الجن: 27], وتعليله بقوله: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28], وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء) (20) ، وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الآية رد على المنجمين، وعلى من يدعي أنه مطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك؛ لأنه مكذب للقرآن وهم (أي المنجمين ومن في حكمهم) أبعد شيء من الارتضاء مع سلب صفة الرسولية عنهم) (21) .
إذاً الآية صريحة الدلالة في أن الغيب مختص به ولا سبيل إلى علمه إلا من إخبار الله تعالى لمن يشاء من رسله وأنبيائه. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الله عز وجل عن يوسف عليه السلام، قال تعالى: قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف: 37] وقوله عن عيسى عليه السلام: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 49].
ومن ذلك أيضاً ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من فتوحات إسلامية، وفتن وملاحم وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن علامات الساعة، والشهادة لبعض الصحابة بالجنة وأحوال أهل الجنة والنار...إلخ (22) . والرسول يخبر أمته بما أعلمه الله تعالى، وقد أورد الشوكاني سؤالاً وأجاب عنه فقال: (إذا تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت (أي الشوكاني): نعم ولا مانع من ذلك وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئاً مما يتعلق بالفتن ونحوها حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، كذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث من الفتن بعده، ومنها تحدثه لعمر رضي الله عنه عن الفتن التي تموج كموج البحر، وكذلك ما ثبت من إخباره صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بما يحدث له، وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية، ونحو هذا الكلام مما يكثر تعداده ولو جمع جاء منه مصنف مستقل)