الحكم بالكتاب والسنة
من شريعة الإسلام تنصيب حاكم يحكم بين المسلمين بأمر الله، ويجتمعون على طاعته ما أطاع الله فيهم، وبهذا يسود النظام التام حياة الجماعة الإسلامية، ويمكن للحاكم من إقامة حدود الله، ففي الإسلام ـ فوق العقوبة الأخروية ـ عقاب دنيوي، كحد الزاني والسارق وشارب الخمر وقاذف المحصنة وقاطع الطريق والباغي على الجماعة الإسلامية التي تحكم بالكتاب والسنة والقاتل ظلما، ولم يجعل الله حق إقامة الحدود على مستحقيها إلا للحاكم بعد أن يرفع إليه أمرهم.
وفي الإسلام قصاص، وفيه إيجاب الاحتكام إلى الكتاب والسنة، فإذا لم يكن ثم حاكم إسلامي عام فمن ذا الذي يقيم الحدود، ويقتص للمظلوم، ويفصل بين المتخاصمين؟! ولهذا أوجب الله على المسلمين أن ينصبوا عليهم من أنفسهم حاكما عادلا ينفذ بالحق والعدل شريعة الله، حتى لا تكون فتنة ولا فوضى، ولا تِرَاتٌ في النفوس، ولا أحقاد، ولا أضغان في القلوب، حتى يستتب الأمن، ويسود السلام، وتصفو القلوب، وترضى النفوس، إذ يرون حكم الله نافذا في الجميع، له السلطان وحده فوق كل حاكم ومحكوم.
حق الحاكم على المحكوم:
حق الحاكم أن يطاع، وأن لا ينازع أمره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[سورة النساء: 59]، فإن وجد المحكوم عليه ـ أو: له ـ في حكم الحاكم ما يحسبه مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية راجعه فيما حكم به، واحتكم وإياه إلى الكتاب والسنة: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [سورة النساء: 59]، ويقول : «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» ( ) "البخاري". وعن أبي هريرة، قال: «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدوع الأطراف»( ) "مسلم". وعن عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا تنازع الأمر أهله، قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا (جهارا) ـ عندكم فيه من الله برهان»( ) "الصحيحان". وقال : «من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»( ) "الصحيحان".
هذا حق الحاكم الإسلامي على المسلمين، وإن من يتأمل هذه الأحاديث ليؤمن بأن شريعة الإسلام تقرر مبدأ النظام التام والمساواة الكاملة تقريرا يسمو بهما إلى الذروة العليا من السمو مما لا تطمع في الدنو ـ حتى من قريب منها ـ أسمى قوانين البشر نظاما وعدلا، وأبرها سماحة ونبلا، في تقرير المساواة، والشريعة الإسلامية لا تكتفي بالدعوة إليهما، بل توضح مع ذلك السبيل العملي الذي يتحقق به وجودهما على أكمل وجه وأتمه.
والواجب أن يكون الباعث على طاعة الحاكم تقوى الله وحده، لا الرجاء في ثواب الحاكم، ولا الخوف من عقابه، وفيما ذكرتك به من آيات الله، وهدي السنة المطهرة، حجة تدحض بهتان أولئك الذين يزعمون أنه يجب فصل الدين عن الحكم، وعن شئون الحياة. يمهدون بذلك للبغي والجور والسفه والإلحاد ونقض قواعد الإسلام ودك أسسه، ولكن الله غالب على أمره ولو كره عبيد المرأة!!
حق المحكوم على الحاكم:
وكما وصى الله المسلمين بطاعة الحكام فإنه وصى الحكام بالعدل والبر والرعاية الرحيمة لكل فرد من أفراد الجماعة المؤمنة، وجعل كل حاكم مسئولا عن رعيته، يقول : «من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره»( ) "أبو داود والترمذي". ويقول: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا وضياعا فإلي وعلي» "أبو داود والترمذي". ويقول: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا»( ) "الصحيحان". يوجب الله على الحاكم أن يكفل من مات من المسلمين في دينه وذريته الضعاف وأهله الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض.
هذا هو الضمان الاجتماعي في سموه ورحمته، إنه ليس منحة تتفضل بها الدولة، بل فرضا مقدسا عليها للمحتاجين.
الواجب على الحاكم:
أوجب الله على كل مسلم أن يحتكم إلى الكتاب والسنة عند النزع، وأوجب على الحاكم أن يحكم بين المسلمين بالكتاب والسنة، وأن يكون بهداهما بصيرا حتى يكون حكمه عن بينة منهما، وأوجب عليه ألا يستبد أو يتعصب لما حكم به إذا ثبت له أنه على غير الحق من الكتاب والسنة وليرد ما نازعه فيه المحكوم عليه ـ أو : له ـ إلى الله ورسوله. وإليك من آي القرآن ما يقرر فرض هذا الواجب على الحاكم:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة: 48].
وبهذا يتوجه الخطاب أمرا ونهيا في قوته وجلاله إلى كل حاكم إسلامي، بتوجيهه إلى صفوة الخلق ـ إمام الحاكمين جميعا عدلا وهداية ـ رسول الله . يأمر الله الحاكم ويفرض عليه أن يكون حكمه عن بينة من الكتاب والسنة، ويحذره من أن يميل به عن الحق هواه مع الناس، أو هوى الناس معه، ولو كان بعض من يحكم بينهم من آبائه وأبنائه وإخوانه وخلانه وغيرهم ممن تربطهم به أية رابطة من روابط الوجود الإنساني، يحذره من الحكم بغير الكتاب المبين، لأن الله سبحانه جعل لكتابه الهيمنة الكاملة على كل كتاب سماوي، فما بالك بكتب القوانين الوضعية.
معنى هيمنة القرآن:
يفصل لنا الإمام الصبار الشكور ابن تيمية هذا المعنى تفصيلا جليلا شافيا، إذ يقول في كتابه جواب أهل الإيمان: "فإنه (أي القرآن) قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وزاد على ذلك بيانا وتفصيلا. وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره المتبعين لها، وبين ما حُرف منها وبُدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوة بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريَّات، حاكم في الأمريَّات".
ثم يقول ـ رضي الله عنه ـ : "ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم والإلهية، وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات وأهل الرأي ـ كالمتفلسفة ـ وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن، ولهذا لم تحتاج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر فضلا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه".
وإذا كان هذا هو شأن القرآن بالنسبة إلى الكتب السماوية، فما بالك بالكتب الوضعية التي يبتدعها البشر ليحكم بها المسلمون في دينهم ودنياهم؟! ما بالك بالكتب التي يزعم أصحابها أنها تفصل أحكام الدين وفقه الشريعة الإسلامية؟! ألا يجب أن يجعل المسلمون كما أمر الله للقرآن الهيمنة على كل كتاب يشرع قانونا، أو يفصل ـ بزعم واضعه ـ أحكاما في الدين؟ بلى يجب عرض كل كتاب قانوني أو ديني على حق كتاب الله وهداه، فإن كان ما في هذه الكتب يطابق ما جاء به القرآن، ويشرف بالانتساب إليه، والغاية منه الدعوة إلى الله، فهو حق وخير، وإلا فهو شر يجب استئصاله، والتحذير منه، والمتدينون لا يفتنون بكتب القوانين الوضعية كما يفتنون بالكتب الدينية!! فالأولى معروف نسبها وغايتها ومصدرها، أما الثانية فينسبها أصحابها إلى الشريعة، ويزعمون أنها تمثل الناحية الروحية في الإسلام، أو تفصل الحقائق العليا في شريعته الخالدة!! في حين أنك لو ابتليت ما في تلك الكتب لوجدتها قناع مجوسية، ولئام إلحاد ينافق بالرياء، ولاسيما كتب هذه الإمعات التي فتنتها امرأة، ومن أجلها فسقت عن أمر الله، وآمنت معها أن المرأة قوامة على الرجل، وأن الدين عمل فردي لا شأن له بالجماعة، ولا بنظم الحكم، ولا بشئون الحياة. قالوا ذلك من أجلها فمهدوا لهذا بهذا إلى الجريمة المستعلنة التي كانت تخفيها ببقية من خوف، وشفٍّ رقيق من الحياء، ولكنها وجدت من يعينها على أن تهتك الستر كله، وعلى أن تعلن الحرب ـ دنيئة مُلتاثة البغي ـ على سنة الله وفطرته التي فطر الناس عليها، وعلى دينه، ترميه بالجمود والعدوان الظالم على حقوق المرأة، وجدت من يعينها على ذلك، وكانوا ـ ويا أسفاه ـ ممن يفترون أنهم من رجال الدين وعلمائه!!
وجوب الرقابة على الكتب الدينية:
يجب مراقبة كل كتاب ديني، وعرضه على الكتاب والسنة، والحكم عليه بعد ذلك حكما عادلا مجردا من كل هوى وعاطفة، حكما لا يرعى غير وجه الله ذي الجلال، وذلك حتى نحول بين الناس ـ وبخاصة الشباب في هذا العصر العربيد المجون والإلحاد ـ وبين الزيغ والضلال والفتنة، وسيتهمنا بعض من يعيشون على افتراء الكذب والدجل باسم الحرية أننا بهذا نقيد حرية الفكر المطلقة المقدسة ونعاديها!! ولسنا ـ والله ـ من أعداء الفكر ولا حريته، وكيف ونحن دعاة إطلاق الفكر من إسار التقليد الوثني لتراث الجاهلية وأغلال العبودية لإباحة الغرب وإلحاده حتى يستطيع الفكر أن ينعم بصرا بالنور الإلهي يهديه إلى الحق وحمى الحقيقة؟! ولكنا أعداء المجون والإلحاد: يسميان حرية فكرية!!!
الحرية بين التقييد والإطلاق:
ليس في الوجود ولا عند العقل ما يسمى حرية مطلقة، بل كل حرية مقيدة بقيد قد يكون ظالما أو عدلا، أما القيود الظالمة فنحن أول الدعاة إلى تحطيمها، أما العادلة فنحن أول الدعاة إلى بقائها وحراستها، حفاظا على الفكر نفسه، وعلى الأخلاق، وعلى الدين.
فليست حريتك مطلقة في جمع المال، بل هي مقيدة بوجوب اتباع السبل المشروعة لجمعه، وإلا كان الغصب والنهب والسلب والسرقة، وليست حريتك مطلقة وأنت تسير في الطريق، بل هي مقيدة بوجوب مراعاة آدابه، وإلا كانت ضعة الأخلاق. ألا ترى الصحف في كل ساعة تلح على حماة الآداب من الشرطة أن يبالغوا في مراقبة الشباب الماجن المستهتر من أحلاس العربدة في الطريق، وأن يأخذوهم بالشدة الرادعة حماية للأخلاق وللأعراض؟! فهل حماية هذين أولى عند حرية الفكر من حماية الدين القيم وعقائد المؤمنين به، وهو الدين الذي تسمو به الأخلاق، ويجعل المقاتل دون عرضه من الشهداء؟! أحماية المرأة السافرة الماجنة السفور من ذئب تتقتل له الشاة ليأكلها أولى من حماية الدين ممن يدسون له السم، وهم خاشعوا النفاق في المحاريب؟!
لقد أذنت الحرية المطلقة للمرأة أن تسفر بالفتنة الآثمة في الطريق، وأن تبيح لحمها لشهوة كل ذئب منهوم، وأذنت الحرية المطلقة لهذه الحيوانات أن تتدين بما شاءت، وأن تتخلق بما تهوى، فكيف تريد الحرية المطلقة من شبابها المائع الماجن أن يكون على جوع الغريزة صبورا، ونهمها جلدا، فلا يأكل من لحم المرأة ما يريد؟! أتؤجج النار وتلهب السُّعار ثم تقول: أخمد أيها اللهب وأعقل أيها الكلب المسعور؟! يا للحرية المطلقة تلطخ بدم الجريمة يديها ثم تسميه أصباغ وجنات وشفاه!!
فإذا حاولنا حماية المرأة بما حماها به الدين، وتكريمها بما كرمها به، وسما بشأنها، وإذا حاولنا دعوة الشباب إلى حمى الدين يحتمي به من فجور الغي، ويجني من مجانيه العزة والكرامة والسمو ـ إذا حاولنا ذلك ـ قالت الحرية المطلقة: رجعية وجمود في القرن العشرين!! فلا تطيق الحرية المطلقة ـ وذئابها ـ أن يسمعن كلمة الله، ولو أن الإسلام دعاها إلى الخير لسمته بغي الشر، ولو دعاها "مستر فلان" إلى أن تلعق دم الرذيلة لبشرت بدعوته على أنها روح الفضيلة؟!
تلك هي الحرية المطلقة، وهذا هو هدفها، وتلك وسيلتها في تحطيم الأخلاق، وتدمير الفضائل!!
وليست حريتك مطلقة في الملكية، بل هي مقيدة بوجوب مراعاة ما يملك غيرك، وإلا كان البغي والجور، بل ليست حريتك مطلقة في التصرف فيما تملك، بل هي مقيدة بوجوب الإحسان فيه، وإلا كان السفه والخيال، وأقيم عليك قيم يتصرف لك في مالك وما تملك.
وليست حريتك مطلقة في الأم بمعروف، أو نهي عن منكر، بل هي مقيدة بوجوب مرعاة ما سماه الله معروفا، وما سماه الله منكرا ـ هذا قيدها العادل ـ ، أما قيدها الظالم الذين يجب أن يتحطم فشهوات الباغين ممن يضارون بالدعوة إلى المعروف، والنهي عن المنكر.
وهكذا لو فكرت في كل معاني الحرية لوجدت بجانب كل حرية قيدا عادلا رحيما حكيما، يقيد إطلاقها ويخصص عمومها، ويحدها بحدود ينبغي أن لا تعتديها، وإلا كانت الفوضوية المطلقة، وإلا كان عالم وحوش انفلتت غرائزها، وجمحت شهواتها، فاندفع كل وحش منها ليجعل الآخرين بعض صيده!! وهذا فرق ما بين الغاب بحيوانه، والعالم بإنسانه، فالإنسان له عقل يقيده، وضمير يحكمه، ودين يحدد له ما يصح أن يسلكه من سبيل، وكل هذه السلطات المعنوية تحد من حرية صاحبها وتقيدها، أما الحيوان المسعور فهو زعيم أولئك الذين ينشدون الحرية الفكرية المطلقة!!
فإذا كانت الجماعة البشرية قد تواضعت على ذلك، واستكانت لما قيدها به العقل، والضمير، والعرف الخاص ـ أو العام ـ من قيود، فلم تتعال على الحق الذي يوجب أن تكون الدعوة إلى الله في حدود ما أمر الله به، وبينه رسوله، لا كما يريد الشيوخ وتنمق الشهوات، وتتشهى امرأة الأساطير!!
فإذا طالبنا بجعل الهيمنة للقرآن على كل كتاب يؤلف في الدين، وبوجوب عرض هذه الكتب على هداه، حتى لا يصل إلى أيدي الشباب ما يحيل يقينهم ريبا، وما يبتليهم بالشبهات فوق الشبهات، وما يزلزل فيهم الثقة في أن هذا الدين هو خير الأديان وأسماها هدى وحقا وحكما وعدلا ـ أقول: إذا طالبنا بذلك ـ فلسنا بدعا في هذا الأمر، ولسنا أعداء حرية الفكر، إذ ثبت لك مما قدمته حرية الإنسانية حتى وهي في ذروة مدنيتها وحضارتها العليا رضخت لقيود العقل والعرف راضية، فكيف تتعالى هذه الحرية اليوم على الحق، وتأبى إلا أن تقول في الدين الإسلامي ما تشاء؟ وإدخال لو أن كتابا أُلف بحرية مطلقة في الناحية الجنسية لتعالت أصوات دعاة الحرية الفكرية تلح في مصادرته وإحراقه، والبطش بصاحبه، والتنكيل به ادعاء الحماية للفضيلة!! أما الدين الإسلامي؟!...
ألا إنهم لا يدعون في الحق إلى الحرية الفكرية، وإنما يهدفون من وراء ذلك إلى الإلحاد والتشكيك في الإسلام باسم الحرية الفكرية.
عود إلى وجوب الحكم بالكتاب والسنة:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة: 49]. يحث بها الله الحاكم الإسلامي على الحكم بما أنزل الله، ويوجب عليه الحكم به بين المتخاصمين، دون أن تكون له غاية من حكمه إلا ابتغاء وجه الله بتثبيت سلطان الحق، وإعلاء شأن العدل، مع الحذر الشديد البالغ من أن يفتنه أحد طرفي الخصومة، فيصرفه بالفتنة عن الحق، أو الحكم بالعدل، فقد يكون أحد المتخاصمين ذا جاه، أو حسب ونسب، أو ممن لهم بالحاكم صلة، وقد يكون من سحرة البيان، وشياطين الجدال، أو من المرائين بالتنسك والوقار، فيجب على الحاكم أن يحذر فتنة هؤلاء، وأن يكون شديد اليقظة لمداخل الفتنة، ومساربها حتى لا تتسرب في غفلة إلى قلبه، فتصرفه عما أنزل الله إليه، وما يحب الله للحاكم أن يصرفه صارف عن بعض ما أنزل الله ليحكم به في قضايا الدين والحياة.
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [سورة النساء: 105] إيجاب على الحاكم أن يكن نافذ البصيرة في تدبر القرآن والسنة، وأن يظل الحياة كلها، منفذا لأحكامها، مقيما حدودهما على مستحقيها، فالكتاب حق نزل بالحق من الحق العلي الكبير، ومن نزل عليه الله الكتاب ـ وهو الرسول ـ علمه الله سبحانه، واراه كيف ينفذ أحكام الشريعة الإسلامية، ويطبقها تطبيقا صحيحا حكيما عادلا، فكانت السنة ـ قولا وعملا ـ من الله وحيا وتعليما، فالحاكم بالسنة مع الكتاب إنما يحكم بما علمه الله لنبيه المعصوم، إنما يحكم بما في القرآن، وقد تمثل عملا هاديا يقتدى به الحكام المهتدون فيما يحكمون، والمؤمنون فيما يعملون.
والله يوجب على الحاكم بهذه الآية أن تتسامى عدالته فوق كل الأهواء النفسية، حتى لو اختصم إليه فريقان: هذا من شيعته، والآخر من عدوه، هذا أمين موصوف بالأمانة، والآخر خائن طبيعته الخيانة. وبمثل هذا يبتلي الله النفس الإنسانية، ليرفعها إلى تمجيد الحق حيث كان، رعاية للعدل الكامل في كل ما تحكم به أو تتناوله من شئون، ألا ترى الآية توجب على كل حاكم أن يحكم بالحق والعدل وإن كانا مرة في جانب عدوه؟! ولو أن كان عدو شريف بعض الأخلاق لأندى ذلك قليلا من غلة العاطفة النفسية. ولكنه عدو خائن، لازمته الخيانة في كل ما يقول أو يفعل حتى أصبحت صفة ثابتة له، ومقوما دائما من مقومات أخلاقه، لمثل هذا الخائن يوجب الله على الحاكم الإسلامي أن يوطئ له من أكناف عدله، وأن يحكم له بالحق إن كان معه، ويحذره من أن يحول بينه وبين الحاكم بالحق له علمه أنه خائن يخون العدل والحق والأمانة، مادام ذلك الخائن قد ارتضى الحاكم الإسلامي حكما. وجاء راغبا في النزول على حكم الله!
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]، إن من يتأمل هذه الكلمة النَّاسِ وهي في موضعها هذا المعجز يؤمن أن حقيقة المثل الأعلى للعدالة ما هي إلا شعاع علوي من نور الإسلام. إن الله ـ سبحانه ـ بهذه الكلمة المعجزة في موضعها من الآية الكريمة يوجب على الحاكم أن يكون حليف الحق وولي العدل في حكمه بين جميع أفراد الجماعة الإنسانية التي تحيا في ظل الدول الإسلامية، سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، مسلمهم وغير مسلمهم، مهديهم وضالهم، أمينهم وخائنهم، وشريفهم ووضيعهم أمراؤهم وأراذلهم، غنيهم وفقيرهم، صديقهم وعدوهم.
يوجب على الحاكم ألا يحول بينه وبين العدل والحكم بالحق عصبية دينية، أو جنسية، أو وطنية، أو حمية لذوي قرباه، وأولياء حكمه، فكيف يخشى غير المسلمين من الحكم الإسلامي وها هم يرون القرآن ينص نصا قطعي الدلالة على وجوب العدل والحكم بالحق للمسلم وغير المسلم؟ وهل يرون شريعة أو قانونا أبر بالعدل وأرعى للحق وأرحم بغير أهله من الشريعة الإسلامية؟! وهل نص القانون على مثل هذا؟ وهل في تاريخ العدالة تبشر بسموها قوانين البشر ما يرف منه شعاع واحد على العالم كنوز هذا العدل الإلهي الأسمى؟؟
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
[سورة المائدة: 42]. هم اليهود ترجمهم لعنة الله، ويهلكهم غضبه سبحانه، حتى هؤلاء الذين نعتهم الحكيم الخبير بما فيهم من نعوت تنحط بها الإنسانية إلى حضيض الضعة والدناءة والصغار المهين ـ حتى اليهود السماعون للكذب الأكالون للسحت ـ يوجب الله على الحاكم الإسلامي أن لا يمتنع عن الحكم بينهم وبين خصومهم، وأن يحكم لهم بالحق إن كان لهم، وأن يلتزم العدل التام فيما يحكم به بينهم، ماداموا يحيون في ظل حكومة الإسلام، يرضون حاكمها بينهم حكما...
وإلى أدنى منزلة من هذا لن تصل يوما عدالة البشر وقوانين البشر، وإن الآية لتعدل الحاكم الإسلامي بالحب الإلهي ثوابا على حكمه بالعدل والحق بين السماعين للكذب الأكالين للسحت، إذ تقول: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
[سورة المائدة: 42]. فهل يمكن للحاكم الإسلامي ألا يعدل بينهم والله يعده بثواب لا يدانيه أبدا ثواب آخر، وهو محبة الله له؟! ترى هل يفهم ذلك عدو الإسلام من ملاحدة الغرب وأوليائهم من ببغاوات الإلحاد في الشرق، أولئك الذين يفترون على الحكم الإسلامي الجور والبغي، ويبهتونه بالتخلف عن ركب الحضارة الإسلامية وعدالتها؟! ولشد ما يؤلم الحق أن يكون بعض من ينتسبون إلى الإسلام ويلقبون أنفسهم بأنهم من العلماء بوقا لهؤلاء الذين يكيدون للإسلام ويقترفون عليه المنكر، فيدفعهم خصيم الإسلام وعدوه إلى المناداة بفصل الدين عن الحكم، وشئون الحياة، حتى ينطلق الشرق الإسلامي ـ في زعمهم المخبول ـ إلى أقداس الحضارة، ويسمو إلى آفاق المدنية بعد أن يحطم عنه هذه الأغلال التي كبله بها الإسلام!!!
لقد سمعت هذه الببغاوات الجاهلة العمياء ما يقول عدو الإسلام، فمضت تردد هذا القول دون وعي أو إدراك، يقترف أولئك إثم هذا التقليد حتى يصفوا بالتجديد والتفكير الحر والاطلاع على ثقافة الغرب، وأحسن ما يكونون سعداء حين يقرأ الناس لهم: قال "جورج"! وغير ذلك من أسماء أصنام الغرب وأحلاسهم في الشرق، وأشد ما يكونون خزيا حين يضطرون ـ أحيانا! ـ إلى أن يقولوا: "قال الله .... قال محمد ...." بل يدمجون الآية في المقال دون نسبة حتى لا تفهم المرأة التي يعبدونها أنهم من الرجعيين الذين يقولون بقول الله، وقول محمد!!
يا هذه الببغاوات: تلك هي عدالة الإسلام يجليها كتاب الله، وذلك هو حكم الإسلام وحاكمه. فهل ستظلين على شتم الإسلام وهجوه؟!
وثم فريق آخر من الشيوخ ـ أصحاب العزة! ـ يحاول تأويل أحكام الشريعة الإسلامية بالباطل، حتى تتواءم وشهوات الغرب، وأهواء ملاحدته، أي يجعل قانون الغرب هو القاعدة، ويحاول بعد ذلك الملاءمة بين الشريعة وبينها، فينزل بشريعة الله إلى حضيض ظلم البشر، ويزعم هذا الفريق أنه بذلك يذود عن الإسلام كيد الكائدين له، ويرفع عنه تهمة أنه لا يمكن الأخذ بأحكامه في هذا العصر الذي شملت حضارته كل مقومات الوجود!! ولست أدري متى، كان الفتك بالشيء من أجل عدوه حماية له من خصومه وعدوه؟! أولى بهؤلاء الناعقين بالإلحاد المجددين في الوثنية ـ إن كانوا يريدون حقا عن الدين دفاعا ـ أن يبرزوا للناس، غربيهم وشرقيهم، حقائق هذا الدين كما هي في الكتاب والسنة إشراقا وجلالا وسموا وهداية وعدلا، دون تأويل لها بما اصطلح عليه البشر من أوضاع، ودون إلباس حقها بالباطل. أولى بهؤلاء أن يفعلوا ذلك، وأن يصدعوا بالحق المبين في قوة، ويقين وهو أن الشريعة الإسلامية أجل وأسمى من أي قانون شرقي أو غربي، وأن الفرق بينهما كالفرق بين الحق والباطل، بل بين الإيمان والكفر، هذا ما يجب أن يعتقده ويصرح به كل مسلم، وإلا فليصرح هؤلاء بما يكنون: وهو أن الطغاة من البشر وملحديهم أحكم وأعدل من أحكم الحاكمين جل وعلا! فإن ما يحاولونه من إخضاع الشريعة لقوانين الغرب، والحكم عليها بمصطلحاته، لا يدل على شيء إلا على أن نفوسهم تنطوي على عدم اليقين بالله خلاقا حكيما هاديا عليما خبيرا، وعدم الثقة بصلاح الشريعة الإسلامية في الهداية والإصلاح، وإرساء قواعد الحياة على أسس من العدل والنظام والمساواة.
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة: 44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة: 45].
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة: 47].
في القرآن والسنة تفصيل مشرق البيان والهداية لما يجب أن يحكم به في قضايا الدين والحياة، فلم يبق للحاكم من عذر يبيح له أن يحكم بغير الكتاب والسنة، وليس في الآيات ما يقيد الحكم بما أنزل الله بقيد ما، أو يخصصه بقضايا الدين ـ كما يزعم المتهوِّكون ـ ، بل إنها توجب الحكم به في كل قضية يختصم فيها المسلمون أو غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، سواء كانت دينية أم دنيوية. ودليلنا على ذلك أن جميع الآيات التي ورد فيها وجوب الحكم بكتاب الله والسنة لا يقيد فيها الحكم بقيد سوى ما يفيد أنه بالكتاب والسنة، واقرب شاهد هذه الآيات: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ولو كان مقصودا بها الحكم في شئون الدين لقيل ـ والله أعلم وأحكم ـ : "ومن لم يحكم في الدين بما أنزل الله"! ولكن ترك فيها جميعها الفعل يَحْكُمْ مطلقا، غير مقيد بقيد سوى أنه: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، فكيف نقيد بالشهوة ما أطلقه الله، ونخصص ـ ابتغاء الإلحاد ـ ما جعله الله عاما؟!
وفي الآيات نذير ووعيد شديد للحاكم يصرفه الهوى عن الحكم بما أنزل الله. فليحذر الحاكم أن يفتنه الشيطان أو يضله أولياؤه عن الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإلا فهو "كافر فاسق ظالم". وصف بأنه مشرك، إذ الظلم هنا هو الشرك، لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان: 13] ووصف فوق هذا بصفة إبليس: وهي الفسق، لقوله تعالى: عن إبليس: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف: 50]، والفسق هنا أشد من الكفر، لأنه المروق من الدين بعد علم، وهذا سر وصف الشيطان به، إذ كفر بعد علم، فكان بكفره هذا فاسقا، ووصف مع هذا بصفة من حادوا الله ورسوله، وهي الكفر. تلك هي صفات من لا يحكم بما أنزل الله.
على الحاكم دائما أن يهاب أمر الله:
الإمارة عمل كبير، وعلى الأمير تبعات ثقال شداد لا يستطيع حملها إلا بعون من الله، وتوكله عليه. لذا يجب على الأمير أن يكون هيابا لأمر الله، شديد الخوف من الله، متواضعا لا يغره جاه الإمارة، عادلا رحيما برا برعيته، مجهدا نفسه في سبيل خيرهم، مبيحا بابه لذوي الفاقة منهم والحاجة، وغير ذلك مما فرضه الله عليه، حتى يستحق من الله العون، وأن لا يكله الله فيها إلى نفسه. قال عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت فيها إلى نفسك، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» ( ) "الصحيحان، أبو داود، الترمذي، النسائي". وقال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» ( ) "البخاري، النسائي". وقال: «أهل الجنة ثلاث: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى مسلم، وعفيف متعفف ذو عيال»( ) "مسلم". وقال: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل»( ) "أحمد". وقال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به»( ) "مسلم، النسائي". وقال: «ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة»، وفي رواية: «فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة»( ) "الصحيحان".
الوزارة في الشريعة:
أوجب الله على الحاكم أن يكون وزراؤه وزراء صدق، يذكرونه دائما بأمر الله، ويعينونه على الحكم بما أمر الله سبحانه، وهكذا يسبق الإسلام بنظامه الحكيم كل نظام، وبتشريعه الأسمى كل تشريع. قال : «إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء: إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه» أبو داود.
القضاة والولاة:
يوجب الله سبحانه على الحاكم أن يكون محسنا في اختيار الولاة والقضاة، فلا يختار منهم إلا من كان على بصيرة بأحكام الشريعة الإسلامية، وعلى نور من الكتاب والسنة، وبينة منهما، وكان معروفا بالأمانة في الدين، والإخلاص في العمل، وتقوى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة النساء: 135]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المائدة: 8]. هذا ما يجب أن يكون عليه كل مؤمن، وأولى أن يكون عليه قضاة المسلمين وولاتهم وحكامهم.
وقال : «القضاة ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» "أبو داود، والترمذي، وابن ماجة"، وقال: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان» "الترمذي، ابن ماجة، ابن حبان، الحاكم".
أما الولاة:
فإليك ما ينصحهم به الرسول، ويحذرهم منه: «ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل الجنة معهم»( ) مسلم والطبراني، وزاد: «كنصحه وجهده لنفسه». وقال: «من ولى أمر الناس ثم أغلق بابه دون المسكين، والمظلوم، وذي الحاجة: أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها» "أحمد، وأبو يعلى".
ذاك بعض ما يقوم عليه نظام الحكم الإسلامي الرشيد العادل، فكيف يفترى أن الإسلام يجب أن لا تكون له صلة بالحكم، إذ لا يصلح نظام حكمه في القرن العشرين!!؟ إن من يزعم هذا ممن يتزيا بزي العلماء يجمع ـ فوق الإلحاد ـ بين الجهالة والغباء، ولا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا. فليتكلم هؤلاء للمرأة، وليحدثوها عن جمال الأصباغ، وليدعوا الكلام عن الدين لا يؤمنون بربه، ولا برسالة رسوله.