ذم الحسد والعين
د. خالد بن عبدالله بن عبدالعزيز القاسم
الحمد لله رب العالمين.
أما بعد، عباد الله:
نتحدث في هذه الخطبة عن داء عضال، ومرض خطير، وخصلة ذميمة، ابتلي
بها كثير من الناس، إنها خصلة مؤذية لعباد الله، بل شرها مستطير، وأذاها
مستديم، إنه الحسد - عباد الله.
صفة إبليس اللعين، وهو أول معاصي بني آدم في الأرض، وسبب أول قتل في
الأرض، وهي خصلة اليهود المذمومة في القرآن الكريم، قال تعالى: {أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ** [النساء: 54]، وقال
سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ
عِندِ أَنفُسِهِم** [البقرة: 109]، إنه رذيلةٌ من رذائل الأخلاق، إنه تمني
الشر للآخرين، والحسد سبب لمشاكل اجتماعية لا تحصى، إنه فساد في القلب،
إنه سبب العداوات والبغضاء، إنه تمني زوال النعم.
إنه مرض قلبي خطير، يناقض الإيمان، لذا يقول عليه الصلاة والسلام (لا
يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد) [رواه النسائي: 4317] وقد
جاء النهي عنه في نصوص عديدة، يقول عليه الصلاة والسلام (إياكم والظن،
فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا
تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً))؛ رواه البخاري (4849)، ومسلم
(2563).
عباد الله:
إن الحسد من كبائر الذنوب والكثير منا لا يلقي له بالاً، بل إنه مهلك للحسنات،
يقول عليه الصلاة والسلام (إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل
النار الحطب))؛ رواه أبو داود (4903)، وابن ماجه (4210).
إن الإسلام جاء بتطهير الباطن والظاهر، وكثير منا في غفلة عن أمراض
القلوب، المحبطة للأعمال، المهلكة للحسنات، الجالبة للعنات. إن الحسد له
أثره العظيم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((دب إليكم
داء الأمم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق
الدين))؛ رواه الترمذي (2510)، وأحمد (1430).
عباد الله:
الحسد ناتج عن البغضاء، وسبب لها، وهو ينافي أصل الأخوة الإيمانية، وقد قال
عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه))؛ متفق عليه.
وتأملوا قول المولى سبحانه وتعالى مادحاً المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ** [الحشر: 10].
عباد الله:
للحسد دواعي عدة منها: بغض المحسود فلا يسر بالنعمة له، ومنها البخل
بالنعم والتحسر لرؤيتها لغيره، وقد قال سبحانه وتعالى {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ** [سورة
الزخرف، آية: 32].
والفائدة العظمى: أن يتمنى المرء من الخير ما شاء، دون أن يتعرض لإخوانه
المؤمنين، ولكنه خبث القلوب، وشح النفوس، وهي طبيعة ينميها البعد عن الله
تعالى، إن الحسد مركوز في النفوس.
قال الحسن البصري رحمه الله: ما خلا جسد من حسد، ولكن المؤمن يربيه
الإيمان، ويدفعه بالتقوى. وهذا علاج الحسد خوف الله تعالى، والاعتقاد بأن
الحسد من الكبائر الموبقات، ومن أقبح السيئات، وأنه يغضب الرب سبحانه
وتعالى، وأنه اعتراض على قضاء الله تعالى، {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ
اللّهُ مِن فَضْلِهِ** [سورة النساء، آية: 54].
ألا قل لي لمن بات حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله سبحانه لأنك لا ترضي لي ما وهب
عباد الله:
ومن علاج الحسد: مقابلته بالضد، وذلك بتمني الخير للمؤمنين والدعاء لهم
والإحسان إليهم، ومساعدتهم، ودعاء الله سبحانه وتعالى بأن يجنبنا الحسد
ودواعيه، وأن نعلم أن متاع الدنيا زائل، وأن العطاء الحقيقي هو ما في الآخرة
وأن خير ما في الدنيا معرفة الله سبحانه وتعالى والتعلق به والتوكل عليه وهو
متاح لكل راغب، قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً** [سورة الإسراء، آية: 21] وقال سبحانه
{قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى** [سورة النساء، آية:
77].
عباد الله:
ومن علاج الحسد: الرضى بقضاء الله وقدره والقناعة بما لديك وأن ما
أعطاك الله خير لك، ومن علاج الحسد عدم التطلع إلى ما عند الآخرين من متاع
الدنيا، فهو ليس بالضرورة خيراً لهم، يقول سبحانه وتعالى موجهاً نبيه صلى الله
عليه وسلم {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى** [سورة طـه، آية: 1312].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبهدي سنة سيد المرسلين، وصلى الله عليه
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله واهب الخيرات، وجالب المسرات، ودافع المصيبات، والصلاة والسلام
على من فضله المولى على البشر تفضيلاً، محمد بن عبدالله صلى الله عليه
وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، عباد الله:
إن الله أمر بالمحبة والإخاء، وحرم الشحناء والبغضاء، يقول عليه الصلاة
والسلام (تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فيغفر الله عز وجل في ذلك لكل
امرئ لا يشرك به شيئاً إلا امرئ كان بينه وبين أخيه شحناء يقول: اتركوا
هذين حتى يصطلحا) [رواه مسلم: 2565] بل والأدهى من ذلك أنه
أحد موانع قبول الصلاة، يقول عليه الصلاة والسلام (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق
رؤوسهم، رجل أم قوم وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط،
أخوان متضارمان) [رواه ابن ماجه: 971] أي متشاحنان.
ومن علاج الحسد: أن يعلم الحاسد أن الحسد ليس فقط جالب لسخط الرب
سبحانه وتعالى، ومهلك للحسنات، ومانع من المغفرات، بل إنه مع ذلك لا فائدة
له في الدنيا، بل هو مضر بالقلوب، جالب للقلق والهموم، نار تشتعل في قلوب
الحاسدين:
لله در الحاسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
عباد الله:
ومن أسباب الحسد: عدم تربية الأولاد على الخير ومحبته للآخرين، وتمني
الخير لهم.
ومن دواعي الحسد: عدم المساواة بين الأبناء أو الطلاب، فالواجب ألا يقدم
أحد على الآخر حتى لو كان باراً بوالديه، فإن ذلك من أسباب العداوة والبغضاء
بينهم.
يقول النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ذهب بي أبي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقد ميَّزَني بشيء من القسمة، ليشهد على قسمته، فقال صلى
الله عليه وسلم: أفعلت هذا بكل ولدك؟ قال: لا يا رسول الله، قال صلى الله
عليه وسلم: ((فلا تشهدني إذاً، إني لا أشهد على جور))؛ رواه البخاري
(2507)، ومسلم (1623).
وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))؛ رواه
البخاري.
ومن الوقاية من الحسد: كثرة ذكر الله تعالى، وعلى العائن إذا أعجبه شيء أن
يدعوا له بالبركة، كما ثبت في السنة الصحيحة (اللهم بارك عليه) وقول النبي
صلى الله عليه وسلم لمن حسد أخاه: ((ألا باركت عليه))؛ (فتح
الباري: 10/205) أي: دعوت له بالبركة، اللهم بارك له.
وإذا حدثت العين فيبذل العائن من غسله للمحسود يقول عليه الصلاة والسلام:
((وإذا استغسلتم فاغتسلوا))؛ رواه مسلم.
فإن العين حق كما في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك
فلا ينبغي المبالغة في الخوف من العين أو نسبة كل شيء للعين، بل هي سبب
من الأسباب.
للوقاية من العين: قراءة الأدعية المشروعة التي حث عليها النبي صلى الله
عليه وسلم في الصباح والمساء؛ مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ
بكلمات الله التامات من شر ما خلق))؛ رواه مسلم (2708)، وقوله:
((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو
السميع العليم))؛ رواه ابن حبان (852) من قال ذلك حين يصبح أو
يمسي ثلاث مرات لم يضره شيء.
وكذلك دعاء الخروج من المنزل ((بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة
إلا بالله))؛ رواه ابن حبان (822) والإخلاص والمعوذتين في الصباح
والمساء وأية الكرسي بعد كل صلاة.
وقد أمر سبحانه وتعالى بالاستعاذة من الحاسدين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن
شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ *
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ** [الفلق: 5].
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قراءتها بعد كل صلاة. اللهم ادفع عنا
حسد الحاسدين، وجنبنا أن نؤذي إخواننا المؤمنين.
أقول ما تسمعون، وأصلي وأسلم على النبي الكريم فقد أمرنا ربنا بالصلاة عليه
في كتابه الكريم فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا
أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما**.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِدْ وبارِك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.