حسنات جارية
إذا مات العبد وانتقَل إلى ربِّه، تَبِعه إلى مقبرته ثلاثة أشياء: \"أهله - أولاده وأقاربه، وأهل صحبته ومعرفته - وماله - كالعبيد والإماء، والدابَّة والخيمة ونحوه - وعمله؛ سواء كان صالحًا أو فاسدًا\".
فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يرجع: \"أهله وماله\"، ويبقى: \"عمله\"، فإذا كان عمله صالحًا فيا للفرحة والسعادة، وإن غيرَ ذلك؛ فيا للحسرة والندامة!
فالعبد بعد موْته لن ينفعَه أهلُه، ولا ماله، ولا جاهه، ولا سُلْطانه، ولا أصحابه، ولا..، ولا..، إنما ينفعه عمله الصالح؛ لِمَا جاء ذلك في الحديث عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَتْبَع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يَتْبَعه أهله وماله وعمله، فيرجِع أهله وماله، ويبقى عملُه))؛ رواه البخاري (6514)، ومسلم (2960)، ففيه: حثٌّ للعبد على أن يعملَ عملاً صالحًا ينفعه بعد موْته، يؤنس وحْشَته في قبْره، ويُبَيِّض وجْهه عند لقاء ربِّه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106].
فالذي ينفع العبد بعد موته، ويبقى له من رصيد حياته الدنيوية - أمواله وثرواته - ما قدَّمه في حياته من عمل صالح؛ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46].
فهذا هو الذي ينفع العبد ويبقى له، الإيمان بالله، وإتْباع ذلك بالعمَل الصالح، وبذلك يكون العبد قد أمَّن مُستقبله الحقيقي بعد موْته. \"فَلا يَخَافُ ظُلْمًا ؛ أي: زيادة في سيئاته، وَلا هَضْمًا أي: نقْصًا من حسناته، بل تُغْفر ذنوبُه، وتُطَهَّر عيوبه، وتُضاعَف حسناته؛ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]\"؛ تفسير السعدي، ص 514.
وإذا مات العبد فقد انقطَع عمله؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا مات الإنسانُ، انقطَع عنه عمله، إلاَّ من ثلاثة...))؛ رواه مسلم 1631.
أي: انقطَع عنه مباشَرة عمله، وبَقِي له أجْر ما قدَّمه من أعمال صالحة، وذلك في الأعمال الصالحة التي ينتفع العباد منها بعد موته، فأجْرُها وثوابها مُستمرٌّ لصاحبها ما بَقِيت تلك الأعمال يُنتفَع بها.
وإليك ذِكْر هذه الأعمال مُدعمة بالدليل من الكتاب والسُّنة الصحيحة، وهي كالتالي:
أولاً: الصدقات الجارية - والمقصود بها الأوقاف الخيرية - فالأعمال التي تبقَى أعيانها بعد موت العبد، ويستمرُّ انتفاع الناس بها، يَصِله أجرُها بعد موته، وذلك يشمل الأمور الآتية:
1- طباعة المصحف (القرآن الكريم) وتوزيعه، ويدخل في ذلك طباعة كُتب السُّنة الصحيحة، كالبخاري ومسلم، وسائر كتب السُّنة الصحيحة...، وكذلك طباعة الأشرطة الإسلامية وتوزيعها، وكل وسيلة علميَّة يَنتفع الناس بها، ويُنشر الخير بها.
2- بناء المساجد ابتغاء وجْه الله، ويدخل في ذلك وقْف مصليات العيد، وبناء المراكز الشرعية، والمعاهد العلمية، ونحو ذلك.
3- بناء البيوت، وإيقافها على ابن السبيل، وسائر المحتاجين للإيواء.
4- حفْر الآبار؛ ليشرب منها العباد، ويسقون، ويزرعون.
لِما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إن مما يَلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، عِلْمًا عَلِمه ونشَره، وولدًا صالحًا ترَكه، ومُصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجْرَاه، أو صدقة أخرَجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته))؛ رواه ابن ماجه (242)، وحسَّنه الألباني في \"صحيح الترغيب\"، (77، 112، 275).
ومما يدخل في الصدقات الجارية، إصلاح الطرق؛ قال ابن عثيمين: \"ومن الصدقات الجارية: إصلاح الطرق، فإن الإنسان إذا أصلَح الطرق، وأزال عنها الأذى، واستمر الناس ينتفعون بهذا، فإن ذلك من الصدقات الجارية، والقاعدة في الصدقة الجارية: كلُّ عمل صالح يستمرُّ للإنسان بعد موْته\"؛ \"شرح رياض الصالحين\"، (5/ 438).
ثانيًا: دعاء الولد لوالديه بعد موتهما.
ثالثًا: نشْر العلم الشرعي بين الناس، ويدخل في ذلك تأليف الكُتب العلمية النافعة، وكتابة الردود العلمية، وسائر فُنون العلوم الشرعية النافعة؛ لما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا مات الإنسانُ، انقطَع عنه عمله إلاَّ من ثلاثة: إلاَّ من صدقة جارية، أو عِلْم يُنْتَفع به، أو ولَد صالح يدعو له))؛ رواه مسلم (1631).
قال النووي - رحِمه الله -: \"قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت يَنقطع بموْته، وينقطع تجدُّد الثواب له، إلاَّ في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببَها، فإن الولد من كسْبه، وكذلك العلم الذي خلَّفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقْف.
وفيه دليل لصحة أصل الوقف، وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختارَ من العلوم الأنفعَ فالأنفع، وفيه أنَّ الدعاء يصِل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما، وكذلك قضاء الدَّين\"؛ \"شرح النووي على صحيح مسلم\" (11/ 85).
فدعاء الولد لوالديه يصل إليهما، وكذا الاستغفار لهما؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله - عزَّ وجلَّ - ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك))؛ رواه أحمد (10232)، وابن ماجه (3660)، وحسَّنه الألباني في \"مختصر السلسلة الصحيحة\" (1598).
ذَكرًا كان أو أنثى، فالولد يطلق عليهما جميعًا؛ كما في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11].
قال المناوي - رحمه لله -: \"دلَّ به على أن الاستغفار يمحو الذنوب، ويرفع الدرجات، وأن استغفار الفرْع لأصله بعد موْته كاستغفاره هو لنفسه؛ فإنَّ ولدَ الرجل من كَسْبه؛ فعملُه كأنَّه عمله\"؛ \"التيسير بشرح الجامع الصغير\"، (1/ 285).
وأمَّا إهداء ثواب قراءة القرآن له فلا تنفع الميت ولا يَصِله ثوابها - هذه المسألة مختلَف فيها، ولكن ما ذكرناه هو الراجح - لأدلة كثيرة، منها: قوله - تعالى -: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39].
قال ابن كثير - رحمه الله -: \"ومن هذه الآية استنبَط الشافعي ومَن تَبعه أنَّ القراءة لا يصل إهداءُ ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسْبهم؛ ولهذا لَم يَندُب إليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمَّته، ولا حثَّهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنصٍّ ولا إيماء، ولَم ينقلْ عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرًا، لسبقونا إليه، وباب القُربات يُقْتَصر فيه على النصوص، ولا يُتَصرَّف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأمَّا الدعاء والصدقة، فذاك مُجْمَع على وصولها، ومنصوص من الشارع عليها\"؛ \"تفسير ابن كثير\"، (4/ 259).
وقال ابن باز - رحمه لله -: \"أمَّا قراءة القرآن، فقد اختلَف العلماء في وصول ثوابها إلى الميت على قولَيْن لأهل العلم، والأرجح أنها لا تَصِل لعدم الدليل؛ لأن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يفعلها لأمواته من المسلمين، كبناته اللاتي متْنَ في حياته - عليه الصلاة والسلام - ولَم يفعلْها الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - فيما عَلِمْنا، فالأَوْلَى للمؤمن أن يتركَ ذلك، ولا يقرأ للموتى ولا للأحياء، ولا يُصَلِّي لهم، وهكذا التطوع بالصوم عنهم؛ لأن ذلك كله لا دليل عليه، والأصل في العبادات التوقيف، إلاَّ ما ثبَت عن الله - سبحانه - أو عن رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شرعيَّته\"؛ مجموع فتاوى العلاَّمة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله، (4/ 348