موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

تم غلق التسجيل والمشاركة في منتدى الرقية الشرعية وذلك لاعمال الصيانة والمنتدى حاليا للتصفح فقط

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 25-04-2023, 12:11 AM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابيان : طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله و الزُّبَيْر بن العَوام ،محمد راتب النابلسي

االدرس 3 / 50 ، سيرة الصحابيان : طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله و الزُّبَيْر بن العَوام ، لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
تاريخ : 26 / 10 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، ما دام الإنسانُ مخلوقاً للدار الآخرة وللسعادة الأبديَّة فأثْمَنُ شيءٍ في هذه الدنيا أنْ يرْضى الله عنه ، وما دامتِ الأبَدِيَّة وما دامتِ الدار الآخرة هي مصير الإنسان ، فأثْمَنُ شيءٍ أنْ يرْضى الله عزّ وجل عنك ، وهو الذي سوف تكون في رِحابِهِ إلى أبد الآبِدين ، حيث كان الأمر مع الصحابة رضي الله عنهم بِنَصِّ القرآن الكريم ، قال تعالى :

[ الفتح : الآية 18 ]
وبعد ؛ فإذا درَسْنا أفْعال الصحابة ومواقِفَهم وصِفاتِهم وسجاياهُم وتَضْحِياتِهم لا نقْصِدُ من هذه الدِّراسة مجرّد الاطِّلاع ، ولكن نقْصِد أن نتأسى بهم ، وأن نقْتَدِيَ بهم وأنْ نجْعَلَهم مُثُلاً عُلْيا لنا ، فَلِذلك حينما ندْرس تاريخ الصحابة ينْبغي أنْ تبْقى هذه الفِكْرة ماثِلَةً في أذْهاننا ، نحن أمام النموذج الذي رضي الله عنه ، ماذا فَعَل ؟ وماذا قال ؟ ولِماذا وقفَ هذا المَوْقِف ؟ .
شيءٌ آخر ؛ في سيرة الصحابة شيئان ؛ أحْداثٌ و تَحْليلات ، فَنحن قد نُعْنى بالتحْليلات أكثر مما نُعْنى بالأحْداث ؛ لأنّ التحْليل هو القانون والضِّياء والتحْليل هو النِّبْراس .
أبو محمّد طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله ، هذا صحابيٌّ جليل بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم مع سعيد بن زيدٍ قبل خُروجِهِ إلى بدْرٍ ، يتَجَسَّسان خبرَ العِير ، فَمَرَّتْ بِهما ، فَبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الخَبَرُ ، فَخَرَج ورجعا يُريدان المدينة ، ولم يعْلما بِخُروج النبيّ صلى الله عليه وسلَّم فَقَدِما في اليوم الذي لاقى فيه النبي صلى الله عليه وسلّم المُشْركين ، فَخَرَجا يعْتَرِضان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فَلَقِيَاهُ مُنْصَرِفاً من بدْرٍ ، فَضَرَبَ لهُما بِسِهامِهِما وأَجْرِهِما ، فَكانا كَمَن شَهِدَها ، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام يقودُ أُمَّتَهُ قِيادَةً فَذَّةً ، فالمَعْلومات شيءٌ مُهِمٌّ ؛ فقد بعثَ النبي صلى الله عليه وسلّم طلْحَة مع صحابِيٍّ آخر لِيَأْخُذا خبر العَدُوِّ ، فالخبرُ في المعْرَكَة له قيمَةٌ كبيرة، ولا تنْسَوا أيها الإخوة ، أنَّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أبْقى عَمَّهُ العباس في مكَّةَ يوْمَ كان المُشْركون يتولَّوْن أمْرهم ، أبْقاهُ في مكَّةَ معهم لِيَأتيهِ بالأَخْبار ، فقد كتَمَ إسْلامه ، وكتَمَ العَباسُ كذلك إسْلامه ، ولم يُفاجأ النبي عليه الصلاة والسلام بِأَيِّ حدثٍ من قريْشٍ ، لأنَّ المعْلومات كانت تأتيهِ تِباعاً من عمِّهِ العباس ، لكن وقعتْ مُشْكِلةٌ في مَوْقِعَة بدْر حينما شارك العَباس المُشْركين في هذه المَوْقِعة ، فلو لم يُشارِك لَكُشِفَ أمْرُهُ ، ولو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال : لقد أسْلَمَ عمِّي لَكَشَفَهُ ، وانْتَهتْ مُهِمَّتُهُ ، ولكنَّهُ قال : لا تقْتُلوا عمِّي العَباس ، ولو لم يقُل ذلك لَقَتَلَهُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم ، إنْ تكلَّمَ العباسُ كَشَفَ أمْرهُ ، وإنْ لم يُشارِك في المعْركة كُشِف ، وإنْ قال النبي صلى الله عليه وسلَّم أسْلم كَشَفَهُ ، وإنْ سكت صلى الله عليه وسلَّم قتلَهُ أصْحابُهُ ، فلا بدّ من تنْبيه الصحابة ألاّ يقْتُلوا عمَّهُ العَباس ، وكان من جراء ذلك أنَّ صحابِيًّا أساء الظنّ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال : ينْهانا عن قَتْلِ عمِّهِ ، وأحَدُنا يقْتُلُ أباهُ وإخْوانهُ ! فلما كُشِفَ له الأمر بَقِيَ عشْرَ سِنين يتصَدَّقُ ويُعْتِقُ الرِّقاب ، لعلَّ الله يغْفِرُ له سوءَ ظَنِّهِ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فالمعْلومات ضروريَّةٌ في أيِّ قِيادة ، والنبي صلى الله عليه وسلَّم أرْسَلَ طلْحَةَ بن عُبيْدِ الله لِيأْتِيَهُ بالأخْبار ، لأنَّ قرارَ المعْركة أساسه الخبرُ الصحيح ، والحَرْبُ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : الْحَرْبُ خَدْعَةٌ *
[رواه البخاري عن جابر]
شَهِدَ طلْحَةُ أُحُداً ، وثبتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئِذٍ ، ووقاهُ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ إصْبعاهُ ، وجُرِحَ يومئِذٍ أربعاً وعشرين جِراحَةً ، ويُقال : كانت فيهِ خَمْسٌ وسبْعون ؛ بين طعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ ، وسَمَّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومَ أُحُدٍ طلْحَةَ الخَيْر ، وسمَّاه يومَ غزْوة ذات العُشَيْرة طلْحَةَ الفياض ، وسمَّاه يوم حُنَيْنٍ طلْحَةَ الجود ، وفي أُحُدٍ طلْحة الخير ، وسمَّاه في غزوة ذات العُشَيْرة طلْحَةُ الفياض ، وفي غزوة حُنَيْن طلْحَةَ الجود ، فهذه مواقف مُشَرِّفَةٌ وقفها هذا الصحابِيُّ الجليل .
إنَّ الأحْداثَ تمْضي ، والآلام تنْتهي ، والمَوْتُ يُنْهي كُلّ شيءٍ ، وتَبْقى المواقِفُ المُشَرِّفَة التي يسْعَدُ بها الإنْسانُ إلى الأبد ، وكُلّ شيءٍ ينقضي ؛ فاللَّذائِذُ تمْضي وتبْقى تَبِعاتُها ، والمتاعِبُ تمْضي وتبْقى خَيْراتُها ، ذات مرَّةٍ قُلْتُ لكم ذلك فقد قرأْتُ كِتاباً عن تاريخ العَرَب ؛ وهو كِتابٌ أدَبيٌّ مُمْتِعٌ اسْمُهُ : قَصَصُ العَرَب ، فيه من القِصص المُمتِعة الشيءُ الكثير ، بعد أنْ أنْهَيْتُ قِراءَته تأمَّلْتُهُ تأَمُّلاً طفيفاً ؛ قُلْتُ : هؤلاء الذين قرأْتُ عنهم ، الأقْوِياءُ منهم ماتوا ، والضُّعفاء ماتوا ، والأغنياءُ ماتوا ، والأصِحاءُ ماتوا ، والمرْضى ماتوا ، والأذْكياءُ ماتوا ، والأغْبِياء ماتوا ، والظالمون ماتوا ، والمظْلومون ماتوا ، وكُلُّهم تحت أطْباق الثرى ؛ ماذا بَقِيَ الآن ؟ بَقِيَتْ مواقِفُهُم التي سَيُحاسَبون عليها ؛ إنْ خيراً فَخَيْرٌ ، وإنْ شراً فَشَرٌّ ، ونحن لا بد من يومٍ نكون فيه تحت أطْباق الثرى ، هذا الوقت ؛ كيفَ أمْضَيْتَهُ ؟ في طاعَةٍ أم في معْصِيَةٍ ؟ ماذا فَعَلْتَ ؟ وماذا أدَّيْتَ ؟ وماذا قَدَّمْتَ ؟ وماذا أعْطَيْتَ ؟ وبِماذا ضَحَّيْتَ ؟ وما الأثر الذي تَرَكْتَهُ ؟ هذه النُّقْطة مُهِمَّةٌ ؛ يجب أن نذْكرَ دائِماً أنَّ الأيام والأسابيع والشهور والسِّنون تمْضي ، ويبْقى شيءٌ واحدٌ ؛ هو العَمَل ، إما في جنَّةٍ يدومُ نعيمُها ، أو في نارٍ لا ينْفَذُ عذابُها .
طلْحَةٌ رضي الله عنه ؛ إليكم جُمْلَةً من مناقِبِه ، فعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَوْجَبَ طَلْحَةُ *
[رواه الترمذي]
- أيْ وجَبَتْ له الجنَّة - لأنَّهُ ماذا فعَلَ ؟ أظْهر من المواقفِ والتَّضْحِيات الشيءَ الذي لا يوصَفُ ، فَطَلْحَةُ برَك على الأرض ، وصعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لِيَرى بعض ملامِحِ المعْركة ، فجَعَلَ من نفْسِهِ كُرْسِياً للنبي عليه الصلاة والسلام .
وقالتْ عائِشَةُ رضي الله عنها : كان أبو بكرٍ رضي الله عنه إذا ذُكِر يومُ أُحُدٍ ، قال : ذلك كُلُّهُ يومُ طلْحة ! .
وقال : أبو بكرٍ رضي الله عنه : "كُنْتُ أوَّلَ من جاءَ يومَ أُحُدٍ فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام ولِأبي عُبَيْدة بن الجراح عَلَيْكما به - يُريدُ طلْحة - وقد نزفَ ، فأصْلَحْنا من شأنِ النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ثمَّ أتَيْنا طلْحة في بعض تِلك الحِفار فإذا به بِضْعٌ وَسَبْعون أو أقَلَّ أو أكثر، بين طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَة ! وإذا قد قُطِعَتْ إصْبعُهُ ، فأصْلَحْنا من شأنِهِ " ، فقد بذَل سيّدنا طلْحة في غزوة أُحد الشيء الكثير .
النبي عليه الصلاة والسلام دَمِيَتْ يدُهُ في الخَنْدَق ، فعَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَدَمِيَتْ إصْبُعُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
قَالَ وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى *
[رواه الترمذي]
وعن موسى بن طلْحة عن أبيه طلْحةَ بن عُبَيْد الله قال : لما رجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أُحد صَعِدَ المِنْبر ؛ فَحَمِدَ الله وأثْنى عليه ثمّ قرأ هذه الآية قال تعالى :

[ الأحزاب : الآية 23 ]
وبِالمُناسَبَة كلِمَةُ "رجُلٍ" في القرآن والسُّنَّة لا تعْني في الأعَمِّ الأغلب أنَّهُ ذكَرٌ ، بل تعْني أنَّهُ بطلٌ ، وفي أقْوال الصحابة الكِرام ما يدْعَمُ هذا المعْنى ، فسيَّدنا سعدُ بن أبي وقاصٍ قال :" ثلاثة أنا فيهِنَّ رجُلٌ - أيْ بطل - وما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس - والعَوام أحْياناً يسْتخْدمون هذا المعْنى - ما صَلَّيْتُ صلاةً فَشُغِلَتْ نفْسي بغيرها حتى أقْضِيَها ، ولا سِرْتُ في جنازَةٍ فحَدَّثْتُ نفْسي بِغَيْر ما تقول حتى أنْصَرِفَ منها ولا سَمِعْتُ حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا عَلِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى "، فالرُّجولة أنْ تُصَدِّقَ أقْوال النبي عليه الصلاة والسلام ، والرُّجولةُ أنْ تُصَلي صلاةً كما أرادها الله عز وجل ، والرُّجولة أنْ تتَّعِظَ بِالمَوت ، لأنَّ الموت كما قال عُمَر: كفى بالموت واعِظاً يا عُمر ! فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما رجع من أُحد صعِد المِنبر فَحَمِد الله وأثْنى عليه ثمَّ قرأ قوله تعالى

[ الأحزاب : الآية 23 ]
فقام إليه رجُلٌ وقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال سيّدنا طلْحة : فأَقْبَلْتُ وعليَّ ثوْبان أخْضران فقال عليه الصلاة والسلام أيُّها السائل ؛ هذا منهم وأشار إلى سيّدنا طلْحة ، لو أرَدْنا أنْ نسْتفيد من هذا المَوْقف ، حينما يُشْعِرك الله عز وجل بِطَريقَةٍ أو بِأُخرى - بِرُؤْيا أو ثناءٍ صادِقٍ من أهل الحق أو بِسَعادةٍ يُلقيها في قلبك - أنه راضٍ عنك ؛ فهذه أسْعد لحظات المؤمن ، وقد قلت قبل قليل : المصير إلى الله عز وجل ، فحينما يُدْفَنُ العبد في القبر يقول الله عز وجل : عبدي رجَعوا وتَرَكوك ، وفي التُّراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبْقَ لك إلا أنا ، وأنا الحيّ الذي لا يموت ، ذكروا في الأخبار أنهم كشَفوا إنْساناً تحت أنْقاض الزِّلْزال ؛ بقي حيًّا بعد إحْدى وثمانين ساعة ، وإلى جانِبِهِ امْرأته وأُمُّهُ قد ماتتا ، شُعور الإنسان حينما ينْهار عليه البيت ، ويُصْبِحُ تحت الأنْقاض ؛ هذا شُعورٌ مُخيف ، لماذا نخاف الزِّلْزال ولا نخاف القبر ؟ أليس القبر يُشْبِهُ بِشَكْلٍ أو بِآخر دمار الزِّلْزال ؟ يوضع الإنسان في هذه الحُفْرة ثمّ يُهيل عليه الحُفَّارُ التراب ، وينْصرفُ الناس عنه ؛ هذا معنى رجَعوا وتَرَكوك ، وفي التُّراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبْقَ لك إلا أنا ، وأنا الحيّ الذي لا يموت ، فما دام المصير مع الله ، في جنَّةٍ عرْضُها السماوات والأرض أو -والعِياذ بالله - في نارٍ لا ينْفذ عذابها ، فأثمن شيءٍ في الدنيا ، وأعظمُ مرْتَبَةٍ تنالها أنْ يرضى الله عنك ، والله عز وجل يُعْطي القُوَّةَ لِأُناسٍ ، ولا يُحِبُّهم ، ويُعْطي المال لِأُناسٍ ، ولا يُحِبُّهُم ، ولكن إذا رضي الله عنك فهذا أعظمُ مَطْلَبٍ تناله ، فَنَحْنُ الآن ندْرسُ سيرة الذين رضي الله عنهم ؛ ماذا فعلوا ؟ أحْوالهم وأفْعالهم وأعْمالهم ومواقِفُهم ؛ مِن هذا المُنْطَلَق ، سيِّدنا طلْحة لو تحَدَّثْنا عنه مئة مرَّة ، هل يزْدادُ مقامُهُ عند الله عز وجل ؟ لا واللهِ ، وكذلك لو سَكَتْنا عنه هل يُنْقُصُ مقامُهُ ؟ لا ، ولو أنَّ رجُلاً ذمَّه هل ينْقُصُ مقامُهُ ؟ مقامُهُ هو مَقامُهُ ، كُلُّ إنْسانٍ بِحَسَبَ إخْلاصِهِ وعملِه - وهذه فِكْرة حبَّذا لو تفْهَموها - وله عند الله مقامٌ ومَكَانة ، وهذه المكانة لا يرْفَعُها المادِحون ، ولا يَخْفِضُها الذامون ، فَلو أنَّ الناسَ جميعاً أثْنوا عليك ، ولم يكُن خالقُك راضٍ عنك فأنت الخاسِرُ الوحيد ، ولو أنَّ الناس جميعاً ذَمُّوك وأنت عند الله مَرْضيٌّ ، فكُلّ هذا عند الله لا قيمة له ‍، فنحن ندْرس مواقف الذين رضي الله عنهم .
دخل سيِّدُنا طلْحة على النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي للسائِل : هذا مِن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ألا تَكْفي هذه الشهادة من رسول الله ؟! ، أحْياناً يقول لك شخْصٌ معي شهادة موقَّعة من البروفِيسور الفُلاني ، وهو أكبر جراح في العالم ، يُمْكن أنْ يفْتَخر بِهذا افْتِخاراً لا حُدود له ، فَكُلَّما ارْتفع مقامُ الذي يُثْني عليك يكون لِهذا الثناء قيمة ، فكيف إذا أثْنى عليك النبي عليه الصلاة والسلام ؟ واللهُ قد يُثْني عليك ؛ فقد يُريكَ مناماً تسْعَدُ به أمداً طويلاً ، وقد يُشْعِرُك بِالطُّمأنينة ، فَرِضى الله عليك قد يكون بالتيْسير لك ؛ فالأمور مُيَسَّرة ، قال تعالى :

[ الليل : الآية 5-13]
أحْياناً التَّيْسير علامة من علامة رِضى الله عنك ، وأحْياناً إذا انْطلق لِسانُك في الدَّعْوة إلى الله ، ورأَيْتَ المعْلومات تزْدَحِمُ ، واللِّسانُ طليق ، والتأثيرُ قَوِيّ ، قال تعالى :

[ الكهف : الآية 51 ]
إنّ التَّوْفيق في الدعوة إلى الله علامة ، وتيْسيرِ الأمور علامة ، والشُّعور بالطُّمأنينة علامة؛ كلها علامات رضاء الله عنك ، لذلك هناك من يجْعل وِرْدَهُ ذِكر الله تعالى ، لِقَوْله تعالى :

[ الإنسان : الآية 25 ]
فإذا انْقَطَعَ نفَسُهُ يقول : إلهي أنت مقْصودي ، ورِضاك مطْلوبي ، فإذا أردْتَ رِضاء الله في كُلّ أحْوالك انْقَلَبَت المُباحات إلى عِباداتٍ .
قال أحدُ الصحابة : " دخَلْتُ على طلْحَةَ فرأيْتُهُ مغْموماً ، فَقُلْتُ : ما شأنُك ؟ قال : المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني "، ما هؤلاء الأشْخاص ؟ إذا كثُر مالُهم أصابهم الكَرْب ! لأنَّ المال عِبءٌ ؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ *
[رواه الدارمي]
ففي المال هناك سؤالان ؛ فهذا الصحابي قال : المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني ، قُلْتُ : وما عليك ؟ اِقْسِمْهُ ، فَقَسَمَهُ حتى ما بَقِيَ منه دِرْهم! ، إنْفاق المال يُعْطي الإنسانَ سعادَةً كُبْرى ، واللهُ يُعَوِّض ، قال تعالى :

[ سبأ : الآية 39 ]
وعنه أنَّ طلْحة بن عُبيد باع أرضاً له من عُثمان بِسَبْعمئة ألفٍ ، فَحَمَلها إليه ، ولما جاء بها ، قال : إنَّ رجُلاً تبيتُ هذه عنده لا يدْري ما يطْرُقُه من أمر الله لَغَريرٌ بالله ، لأنَّ الله عز وجل يقول :

[ الانفطار : الآية 6 ]
من عَدَّ غداً من أجَلِهِ فقد أساء صُحْبة الموت ، هناك رجُلان اخْتلفا على بيْعِ بيْتٍ ، وكَلَّفاني أنْ أكون بيْنهما حَكَماً ؛ جَلَسْتُ معهما وقْتاً طويلاً - حتى الساعة الثانية عشرة - جلْسَةٌ وجلْسَةٌ وجَلْسة ، أحدُ الطَّرَفَيْن لم ينْصَعْ لِحُكْمِ المُحَكَّمين ، واسْتَمَرَّ الخِلاف أربعاً أو خمسَ سنواتٍ أو أكثر وأنا أُتابِعُ هذا الخِلاف ، كُلِّفَتْ لجْنَةٌ ولجْنةٌ ومُحَكَّمون ، والأمر يزْدادُ تخاصُماً ، فأُخْبِرْتُ البارحة أنَّ أحدَ الخصْمَينِ توفاهُ الله عز وجل ، هذه هي الدنيا ، كلّ هذه المتاعب ، ثمّ يأتي مَلَك الموت ، ويُنْهي هذه المتاعب ، فالإنسانُ عُمُرُهُ ثمينٌ ، فإذا أمْضاهُ في الخُصومات ، واسْتَهْلك أعْصابه ووقْته وحواسَّهُ وقُدْراته ، فقد قامَرَ بسعادته الأبدِيَّة ، وغامر في شيء زائل ، والعوام أحْياناً لهم أمْثلة مُعَبِّرة ؛ " تخانَقوا على ظِلِّ الحِمار" ، فهذا كان يجْلس في يومٍ حار في ظلّ حمار، ثمّ ذهب لِيَشْبب ، وعندها أخذ إنسانٌ آخر مكانه ، فصار هو والآخذ لِمَكانه يخْتَصِمان ، وبعْدها ذهب الحِمار فانْتهى موضوعُ الخِلافِ بِذَهابه ، وهذا هو الذي يحْدُث ، فأكثر الدعاوي تبقى في القضاء سنوات عديدة ، عشرًا أو نحو ذلك ، وفي الأعمِّ الأغْلب يموتُ أحدُ المُتَخاصِمَين قبل أنْ يُفْصَل بالدعوى ، فمن عدَّ غداً من أجله فقد أساء صُحْبة الموت .
هذا الصحابي الجليل قُتِل يوم الجمل ، عن عُمُرٍ لا يتجاوز الاثنين والسِّتين عاماً فيما تذْكُر الرِّوايات .

* * *

صحابِيٌّ آخر اسمه الزُّبَيْر بن العَوام ، هذا الصحابي كما ترْوي أُمُّهُ صَفِيَّة بن عبد المُطَّلِب عَمَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسْلَمَتْ وأسْلم الزُّبير وهو ابن ثماني سنين ، وقيل ابن ستَّ عشْرة سنة ، فَعَذَّبه عمُّهُ بالدُّخان ، لِكَي يتْرُك الإسلام فلم يفْعل ، وهاجر إلى أرضِ الحَبَشَة الهِجْرَتين جميعاً ، ولم يتَخَلَّف عن غزوةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، يقول أحدهم : أنا لا أتَخَلَّفُ عن الدرس ، ولكن ماذا في الدروس ؟ لا عِبءٌ ولا تضْحِيَة ولا سَفْك دم ، ومع ذلك لُزوم مجالس العِلْم عَمَلٌ عظيمٌ ، وهذا الوقت زكاةُ وقْتِكَ كُلِّه ، والله عز وجل قادِرٌ على أنْ يُضَيِّع لك عشرات الساعات بل المئات في الأمور التافِهَة ، وإذا أدَّى القويُّ من قوَّته لِنُصْرة الحق فقد أدَّى زكاة قُوَّتِه ، والمُتَعّلِّم إذا علَّم الناس أدى زكاة عِلْمِه ، والخبير إذا أدى خِبْرَته للناس أدى زكاة خِبْرته ، وطالب العلم إذا بذل وقْته لِمَعْرفة الله عز وجل فقد أدى زكاة وقْتِهِ ، والحقيقة أنَّ كلَّ حظٍّ آتاك الله إياه فهو له زكاة ، والدليل قوله تعالى :" ومما رزَقْناهم يُنْفِقون " ، فالقَويّ يجب أنْ يضع قوَّتَهُ في خِدْمة الضُّعفاء ، والغنيّ يجب أنْ يضع ماله في خدمة الفقراء ، والمُتَعّلِّم يجب أن يضع عِلْمه في خِدْمة الجُهال ، والوقتُ الذي هو رأس مال الإنسان يجب أنْ تأخذ منه ، وقْتاً لتَتَعَرَّف على الله عز وجل ، فإذا فعَلْتَ هذا فَكَأنما أدَّيْتَ زكاةَ وقْتِك ، قال : ولم يتخلَّف عن غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهو أوَّل من سلَّ سيْفاً في سبيل الله ، وكان عليه يوم بدْرٍ ريقةٌ صفْراء مُعْتَجِراً بها ، أيْ قُماشٌ أصْفر لَفَّهُ على رأسه ، وكان على مَيْمَنَة رسول الله ، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبايَعَهُ على الموْت ، وفي الحقيقة حين يبْذل الإنسان حياته في سبيل الله فقد بذل أثمن ما يَمْلكه ، والجود بالنَّفْس أقْصى غاية الجود .
من أبْنائِهِ المشْهورين ؛ عبد الله بن الزبير ، هذا الذي رآه عمرُ مع صِبْيَةٍ يلْعبون فَتَفَرَّقوا جميعا إلا هو ، فلما وصَلَ إليه قال :" يا غُلام لما لم تهْرُب مع من هرَبَ ؟ قال أيها الأمير : لسْتَ ظالِماً فأخْشى ظُلْمَك ، ولَسْتُ مُذْنباً فأخْشى عِقابك ، والطريق يَسَعُني ويَسَعُك " .
تَرْوي كُتُب السيرة أنَّ إسلام هذا الصحابي الزبير بن العوام ، كان رابِعاً أو خامِساً بعد إسْلام أبي بكرٍ ، هؤلاء السابقون والأولون ، والإنسانُ في ساعة العُسْرة إذا آمن فله حِسابٌ خاص ، أحْياناً قد يتعاونُ إنسانٌ مع جماعةٍ ، لكن قبل أن تسْتلم الجماعةُ الحُكمَ ، الدخول مع هذه الجماعة بعد الحُكم سهْلٌ ، والمغانِمُ كثيرة ، أما قبل الحُكم فالمتاعِبٌ كبيرة ، لذلك قال الله عز وجل :

[ آل عمران : الآية 113 ]
فالذي آمن مع النبي عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم في أشدِّ حالات الضعْف والعُسْرة والضِّيق ، والناسُ كلهم أعْداؤُهُ ، وقُريش تكيد له ، فهذا من ذوي البذل والتضحية ، أما الذي يُسْلم بعد الفَتْح فالقَضِيِّة سهْلة ، لأن هذا جاء للمغانم فقط ، لكن البطولة أن تؤمن بالحق وهو ضعيف ، والله عز وجل قادر أن يجعل الأنبياء ملوكا ، فإذا دعوا إليه انصاع الناس إليهم جميعا خوفا لا إيمانا ، ولكن لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الأنبياء ضعافا ، حيث إنك لو قلت عنه : إنه مجنون أو ساحر أو كاهن أو شاعر ، فإنك تنام مساءً مطمئنّ البال ، ولا شيء عليك ؛ من أجل أن يكون مَن آمن به قد آمن به عن قناعة ما بعدها قناعة ؛ وله أجرٌ عظيم، وهذا أيضا ينسحب بشكلٍ أو بآخر على الدعاة إلى الله ، لأن هذا الداعي ليس عنده شيء ، لا يقدر أن يعينك بمنصب ، ولا يقدر أن يعطيك مالاً ، وليس عنده أيّةَ ميزة ، إلا أن الحق معه ، فإذا اتبعته وسرت على منهج الله عز وجل بمعيته ، ولم يأتك شيء من الدنيا فقد أثبت أنك مع الحق ، فقوّة المؤمنين تكمن في أنهم آمنوا بالنبيّ وهو ضعيف ، قال تعالى:

[ الأعراف : الآية 188 ]
عن سعيد بن المسيّب قال : أوّل من سلّ سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام ، بينا هو بمكة - في اللغة العربية يصح أن تقول بينا ويصح أن تقول بينما - بينا هو بمكة إذ سمع نغمة ، يعني صوتاً ، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فخرج عرياناً وما عليه شيء ، وفي يده السيف مُصلتاً مسحوبا من غِمده ، فتلقاه النبي ، وقال له : ما لك يا زبير ؟ قال : سمعت أنك قد قُتلتَ ، قال: فماذا كنتَ صانعًا ؟ قال : أردتُ واللهِ أن استعرض أهل مكة بهذا السيف ، من شدّة حبّه للنبي عليه الصّلاة والسلام ، حين بلغه هذا الخبر اختلَّ توازُنه ، فخرج وليس عليه شيء ، وأراد كما قال للنبي الكريم أن يستعرض أهل مكة بهذا السيف ، فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام .
باع الزبيرُ داراً له بستمئة ألف ، قال : فقيل له يا أبا عبد الله غُبِنتَ ، قال : كلا، واللّه لتعلمنَّ أني لم أُغبَن ؛ هي في سبيل الله .
أعجبني في هذا الموضوع موقفا رائعا ، اختلف اثنان على مبلغ ، كلٌّ يدّعي أنه له ، وكان الحلُّ أن يُدفع هذا المبلغ لعملٍ صالح بكامله ، وكل إنسان يأخذ أجره عند الله عز و جل بنصيبه الحقيقيِّ منه ، فكثيراً ما يختلف اثنان على موضوعٍ ، فقال الحكم بينهما : ادفعوها إلى المسجد ؛ وانتهى الأمر ، والله عز وجل يعلم كمْ لكلٍّ منكما ، وستجدانه في صحيفتيكما يوم القيامة ، فباع الزبير دارًا بستمئة ألف ، فقيل له : يا أبا عبد الله غُبِنتَ ؛ قال : كلا واللّهِ لتعلمنَّ أني لم أُغبن ؛ هي في سبيل الله .
و عن عليِّ بن زيدٍ ، قال : أخبرني من رأى الزبير وإن في صدره مثلُ العيون من الطعن والرمي .
أحيانا يفتخر الإنسان بآثار خوضه للمعارك ، وآثار خوضه للغزوات ، كلها تشهد له يوم القيامة؛ كيف أن أهل المعصية تشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم ، كذلك أهل الإيمان تشهد لهم - هناك فرقٌ كبير بين مَنْ تشهد لهم ، ومَنْ تشهد عليهم - مواقفهم ، وجراحاتهم ، ومتاعبهم ، تشهد كلها لهم يوم القيامة .
قال الزبير بن العوام : " من استطاع منكم أن يكون له جَنْيٌ من عملٍ صالح فليفعل "، وهذا الموضوع دقيق ؛ فكل إنسان له مقام عند الله بحجم عمله الصَّالح ، فالإنسان يحاسب نفسه حساباً عسيرًا ، فإن حاسب نفسه في الدنيا حسابا عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيرًا ، وإن حاسبها حسابا يسيرا كان حسابه يوم القيامة عسيرا .
عن عبد الله بن الزبير قال : جعل الزبيرُ يوم الجمل يوصيه ؛ أي جعل أبوه يوصيه و يقول : "إن عجزتَ عن شيء فاستعن عليه بمولاي ؛ قال : فوالله ما فهمتُ ما أراد حتى قلتُ : يا أبت من مولاك ؟ قال : الله "، والإنسان كلما قوي إيمانه تمتَّنتْ علاقته بالله عز وجل ، ويطلب من الله مباشرة ، والناس ينهمكون بالوسائط وبالأسباب ، أمّا سيدنا زكريا فقد سأل الله عز وجل ، ولم يحرك شفتيه ، قال تعالى:

[ مريم : الآية 3 ]
فعلامة إيمان المؤمن أنّه يطْلب حاجاته من الله عز وجل ، ويسأله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ *
[رواه الترمذي]
إنَّ الله يُحِبّ المُلِحين في الدعاء ، من لا يدْعوني أغْضب عليه ، إنَّ الله يُحِبّ من العبد أن يسْأله شِسع نعْله إذا انْقطع ، قال : "يا أبت من مولاك ؟ قال : الله ، قال : عبد الله بن الزبير فوالله ما وقَعْتُ في كُرْبة من دَيْنٍ إلا قُلْتُ : يا مولى الزبير اِقْضِ عني فَيَقْضيهِ "، هذا الصحابي كان الناسُ يضَعون عنده المال ثِقَةً به ، من شِدَّة ورَعِهِ كان يقول لهم : سَلَفٌ وليس أمانة ، إذْ الأمانة لو تَلِفَتْ فهي على صاحِبِها ، فما دام لم يُصِبْها عُدْوانٌ ولا تقْصير فالمُؤْتَمَنُ ليس ضامِناً ، فكان هذا الصحابي لِشِدَّة وَرَعِهِ إذا أخذ مالاً لِيَكون أمانةً عنده عدَّهُ دَيْناً عليه ، فإذا تَلِفَ كان عليه أنْ يرُدَّهُ ، وقف هذا المَوْقف وألزم نفسه به ورعًا ، وفي التاريخ قِصَّة ؛ وهي أنّ زوْج بنْت النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أبو العاص زوْجُ السيّدة زَيْنب رضي الله عنها ، كان في طريقه من الشام إلى مكَّة ، فَسَرِيَّةٌ من سرايا النبي عليه الصلاة والسلام أخَذَتْهُ أسيراً مع بِضاعَتِهِ ، وجيءَ به أسيراً إلى المدينة ، معه بِضاعَةٌ لِقُرَيْش ، فعرضوا عليه الإسلام ، فإذا أسلم أصْبَحَتْ هذه البِضاعة غنائِم ، فَرَفَضَ أنْ يُسْلم ، والنبي عليه الصلاة والسلام لِسَبَبٍ أو لآخر أمر بِإِطْلاق سراحِهِ مع البِضاعة ، وذهب إلى مكَّة وأدَّى المال لِأصْحابه ، وبعد أنْ أعْطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ وقف وقال : أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله ، وعاد إلى المدينة ، وانْخَرَط مع أصْحاب النبي ، فلما قيل له : لمَ لمْ تُسْلم يوم كنت في المدينة ، ومعك البِضاعة ؟ وهذه البِضاعةُ تُصْبِحُ غنائِم ؟ قال هذا الصحابي زَوْجُ بِنْت النبي صلى الله عليه وسلّم : والله ما أُحِبُّ أنْ أبْدأَ إسْلامي بِهذا ! ما أراد أنْ يبْدأ إسْلامه بِأَكْل مال الناس ظُلْماً ، بعد أنَّ أدى المال لأصْحابه أسلَم ، والمال الذي عند الزبير أمانة ، لكنه جعله دينا عليه حتى يضمن لصاحبه هذا المبلغ لو تلف ، وقصة ابنه عبد الله معروفة ؛ فحينما أرسل إلى معاوية بن أبي سفيان يقول : أمّا بعد ؛ فإن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك ، وإلاّ كان لي ولك شأنٌ ، والسّلام ، فقال معاوية لابنه يزيد : ما قولك ؟ قال : أرى أن ترسل إليه جيشًا أوّلُه عنده ، وآخرُه عندك ، فيأتوك برأسه ، فقال : غير ذلك أفضل ، فكتب معاويةُ كتاباً قال فيه : أمّا بعد ؛ فقد وقفتُ على كتاب ولد حواريِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا هيِّنة جنب رضاه ، لقد نزلتُ له عن الأرض ومن فيها ، فجاء الجواب ؛ أما بعد ؛ فيا أمير المؤمنين - في الكتاب الأوَّل قال له : يا معاوية - لا خليفة ولا أمير و لا أيّ لقب ، وفي الكتاب الثاني ؛ فيا أمير المؤمنين : أطال الله بقاءك ولا أعدمك الرأي الذي أحلَّك من قومك هذا المحل فاستدعى ابنه يزيد وقال له : يا يزيد من عفا ساد ، ومن حلُمَ عظم ، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .
من خلال هذه المواقف ؛ أوَّلاً : نجد في أصحاب النبيِّ ورعاً ما بعده ورع ، وزهدا ما بعده زهد ، سبعمئة ألف وزَّعها في يومين ، وانتهى الأمر ؛ ورعٌ مع زهدٍ ، وتضحية بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، في سبيل الحق ، فإذا أردتم أن يرضى الله عنكم فعليكم بالورع ، كما في الحديث :" ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط " ، ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله ، هذا في الورع ، أما الزهد فهو انتقال الدنيا من قلبك إلى يديك ؛ إن كانت في القلب فهي مصيبة ، لأن القلب إذا أحبَّ الدنيا حبًّا جمًّا كان له هذا الحب حجابا عن الله عز وجل ، كما قال النبي عليه الصَّلاة والسَّلام : "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه إلا أن يأخذ منهما معًا " ، فإن الأولى مطيّةٌ للثانية ، هذا موقفٌ للنبي عليه الصَّلاة والسّلام ، معنى ذلك أن الدنيا بالأيدي ، والدنيا أحيانا يمكن أن تسهم في خدمة الخلق ، في حلّ مشكلات الناس ، في الرقيِّ عند الله عز وجل ، فالقاسم المشترك هو الورع والزهد والتضحية والحبُّ ، فحبهم للنبيِّ عليه الصّلاة والسلام كان من أعظم ما يميِّز هؤلاء عن الأبطال ، سيِّدنا أبو سفيان حينما رأى سيدنا خبيبًا قبيل أن يُصلَب سأله : "أتحب أن يكون محمدٌ مكانك ، وأنت في أهلك ؟ فانتفض خبيب ، وقال: والله ما أحبُّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا و نعيمها ويصاب رسول الله بشوكة " لذلك قال أبو سفيان : "ما رأيتُ أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً "
حبُّ للنبيِّ والمؤمنين ، وزهدٌ في الدنيا وما فيها ، وورعٌ شديد ، وتضحية وبذلٌ ، هذه أربعُ نقاطٍ تستنبط من حياة أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله ، لذلك هؤلاء الذين رضي الله عنهم هكذا كانوا ، وهكذا ينبغي أن نكون حتى يرضى الله عنَّا .
والحمد لله ربِّ العالمين


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 07:51 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com