الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الجن لهم تأثير بإذن الله تعالى وأضرار يلحقونها ببدن الإنسان وعقله، ومن ذلك الصرع وهو ثابت عند أئمة أهل السنة والجماعة، ويدل لذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ {البقرة:275**، والمس هو الجنون، كما قال أهل التفسير، ففي الطبري عند تفسير قوله تعالى: إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. قال: يعني بذلك: يتخبله الشيطان في الدنيا، وهو الذي يخنقه فيصرعه من المس، يعني من الجنون. وقال القرطبي في تفسيره: في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن... انتهى.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قال: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. وفي الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج عدو الله أنا رسول الله. قال: فبرئ، قال: فأهدت إليه كبشين وشيئاً من سمن وشيئاً من أقط. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ الأقط والسمن وأحد الكبشين ورد عليها الآخر. قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في الصحيحة بعد ذكر عدة روايات للحديث: وبالجملة فالحديث بهذه المتابعات جيد.
وفي الحديث عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والمراد بهمزه الجنون؛ كما قال صاحب عون المعبود.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة: تارة يكون الجني يحب المصروع فيصرعه ليتمتع به وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل، وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حاراً أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى وهذا أشد الصرع وكثيراً ما يقتلون المصروع، وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل... انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله، واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواماً يقولون: إن الجني لا يدخل بدن المصروع، فقال: يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه.
وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً، والمصروع مع ذلك لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع وغير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجر غير ذلك من الأمور، من شاهدها أفادته علماً ضرورياً، بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان، وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك. انتهى.
وقال ابن حجر في الفتح عند شرح حديث السوداء السابق: انحباس الريح قد يكون سبباً للصرع وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنجس في منافذ الدماغ أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصباً بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، وإما لإيقاع الأذية به. والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها، وممن نص منهم على ذلك إبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا... انتهى.
وقد ذكر ابن حجر أن ما أصاب هذه المرأة كان من صرع الجن لا من صرع الخلط، واستدل بما أخرج البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيها بقصتها ولفظه: جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله، فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك، قالت: بل أصبر ولا حساب علي.
وأما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يرقيها ويزيل عنها أذى الصرع وترغيبه إياها في الصبر فلا ينافي رحمته بالناس وحرصه على نفعهم، فإن صبرها على البلاء أفضل وأعظم أجراً، وقد وافقت هي عليه، قال ابن حجر: وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة.... انتهى.
وأما قوله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {إبراهيم:22**، ومعنى قوله: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ أي ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وعدتكم به، كذا قال ابن كثير؛ فالمراد نفي حجته لا نفي قوته على المس، وأما تكريم بني آدم وتفضيلهم فلا يفيد عدم المس لأن المكرم قد يصاب وقد يقتل فيعظم أجره، ولا يفيد ذلك عدم تكريمه وتفضيله.
وهذا.. وينبغي أن يتنبه إلى أن أهم من نفي المس ربط الناس بربهم وحضهم على العمل بما يحصنهم من شر عدوهم ومن ذلك الإكثار من تلاوة سورة (الإخلاص والمعوذتين)، فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما. وقراءة سورة البقرة في البيت دائماً، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. والحفاظ على قراءة أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار المقيدة والمطلقة وتلاوة القرآن ففي الحديث: وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً، وأن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى حصنا حصيناً فتحصن به، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل. أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه الألباني. وقال تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا {الإسراء:45**،